رحلة في الخيال: صينيون في قلب سومر -عامر عبد الرزاق الزبيدي

Thu, 22 Dec 2011 الساعة : 15:37

 في مكان بعيد أرض يقال لها الصين فيها شعب متنوع الاعراق والديانات واللغات سمع عن حضارة بلاد وادي الرافدين، وقرأها فعشقها، يسمون ارض هذه الحضارة مرة بلاد سومر، ومرة بلاد بابل، وكثيرا ما يسمونها بلاد كلكامش، تلك الأسطورة التي قرأوها لأطفالهم في بيوتهم ومدارسهم حتى تعلقوا بكلكامش وأنكيدو.
كانوا يتوقون الى المجيء إلى هذه الأرض، وكان هذا حلما من احلامهم، وعندما حانت لهم الفرصة لم يترددوا لحظة واحدة عن تحقيقها رغم أنهم سمعوا عن قتل في شوارع العراق وإرهاب وتفجيرات، وأصروا على المجيء وإن كلفهم حياتهم.

شدوا الرحال وقطعوا ما يقارب من تسعة آلاف كيلو متر استغرقت أحدى عشرة ساعة جوا ليصلوا إلى الناصرية، مهد الحضارة الأولى، قلب سومر. دهشتهم طيبة أهلها وكرمهم وعشقهم للضيف وحسن معاملته. لم يجدوا إرهابا أو قتلا، بل وجدوا ابتسامة على الوجوه ومساعدة في ان يصلوا أية بقعة في المحافظة يرغبون بزيارتها. أول ما طلبوا زيارة أور بزقورتها ومعابدها ومقبرتها. صعدوا سلالم الزقورة فرحين، فتلك السلالم ارتقاها اورنمو وشولكي وشبعاد وايخندوانا في طريقهم الى المعبد العلوي. مسكوا بأيديهم جدران معبد (دب ـ لال ـ ماخ). التقطوا صورا ليوثقوا ارتقائهم الخيال.

ثم توجهوا إلى مدينة كرسو (تلو) العاصمة الدينية لمملكة لكش، شمالي الناصرية، تلك المدينة السومرية العظيمة التي استخرج منها الفرنسيون ثلاثين تمثالا للملك (كوديا) مع آلاف الرقم المسمارية وذهبوا بها إلى متحف اللوفر بواحدة من أكبر عمليات سرقة الآثار في التاريخ، عندما جاء القنصل الفرنسي في البصرة دي سارسيك وقام بأعمال تخريب ونبش وكسر وتدمير للمعابد السومرية، وكان همه استخراج الكنوز من تماثيل ومصوغات ذهبية ومنحوتات حجرية. قام القنصل الفرنسي بالعمل في كرسو من دون إذن السلطات العثمانية آنذاك، أي انها عملية سرقة دولية في وضح النهار، وقام ببيع ما حصل علية من آلاف القطع الأثرية لمتحف اللوفر بـ (32 ألف فرنك). مبلغ كبير جدا في وقته. ولم تطالب الحكومات العراقية المتلاحقة باعادة تلك القطع الأثرية إلى بلدها الأصلي.

اندهش الصينيون لما رأوه وحزنوا لما شاهدوه من انتشار القطع الأثرية المكسرة بكثرة على سطح الموقع بأهمال واضح.

سألتني السيدة الصينية (واي واي): لماذا لا توجد مصورات تعريفية عن تاريخ هذه المدن الأثرية نستطيع أن نشتريها لكي نحتفظ بها؟ قلت لها: لا يوجد أي مصور تعريفي عن أية مدينة أثرية في محافظة ذي قار كي نوزعه عليكم.

هذا تقصير واهمال يشترك بمسؤوليته مجلس المحافظة ودائرة الآثار ووزارة سياحة ووزارة الثقافة.

بعد كرسو، ذهبنا إلى لكش (تل الهباء) الواقعة في ناحية الدواية من طريق ترابي وعر. كان الضيوف مصممون على الذهاب إلى المملكة والتجوال فيها. في منتصف الطريق فوجئنا بأنبوب لأحد الفلاحين يقطع الطريق. نزل اعضاء الوفد الصيني من الباص وتجمعوا في (البيك اب)، التي لم تسعهم، فبقي منهم سبعة عشر. توقف أحد المارة من ابناء المنطقة وتبرع بايصال الاخرين في (البيك اب) خاصته. كان الجميع عازمون على الوصول إلى (لكش) على الرغم من كل شيء. كنا جميعا في (البيك اب).

وصلنا الموقع، فذهلت ضيوفنا مساحة المكان: فـ(لكش) أكبر موقع اثري في الشرق الأوسط، اذ يبلغ محيطه 25 كم مربع. قلنا لهم ان من (لكش) هذه ظهر أول تعبير لغوي عن الحرية في العالم ـ بالسومرية (أمارجي). ومن (لكش) بدأت أول مشاريع الري، حيث شقوا في عهد الملك (انتمينا) أكبر وأقدم مشروع أروائي يجلب الماء من نهر دجلة، ومن نهر الغراف، لان ثمة صراع بين (لكش) و (اوما) على نهر الفرات، وفي (لكش) ظهر أول كاتب هو السومري (دودو).

كان الضيوف الصينيون سعداء لانهم في (لكش).

سالتني سيدة صينية اخرى هي (سارة) عن حقوق المرأة في العراق القديم. قلت لها ان المرأة في العراق القديم نالت جميع حقوقها المادية والمعنوية والسياسية، فقد كانت للمرأة في أور ولكش مكانة مميزة. فقانون اورنمو يعطي حق المرأة في العمل ومساواة أجرها بالرجل، ويمنع الاعتداء عليها أو تضييق حرياتها، وفي إصلاحات اوروكاجينا يمنع الزواج بثانية إلا بعذر قوي وبعد موافقتها. وهناك نساء أصبحن ملكات، مثل (كوبابا) ملكة كيش، و(بو ابي)، شبعاد، أميرة أور، والأميرة شاشا. وكانت من النساء شاعرات مثل (انخدوانا) أبنة الملك سرجون الاكدي، التي كانت تسكن أور. وهناك نساء قاضيات كما تشير الألواح المسمارية.

كانت رحلة الوفد الصيني تعريف بالماضي والحاضر. وقالوا ان الاخبار لا تنقل عن العراق سوى الدمار، واشاروا الى انهم وجدوا فسحة سلام.

على ضخامة الماضي وسحره، لا نجد اهل الحاضر يعنون به كثيرا: ليس هناك من عمل على جعل بعض المواقع الأثرية مدنا سياحية، وما من مرافق تجاور المدن الأثرية كأسواق بيع التراثيات والتحفيات، وما من فندق يليق باستقبال الضيوف، باختصار لا وجود لبنية سياحة اثرية.

* منقب في دائرة آثار ذي قار
 

Share |