رسالة الى ابي الحرار- مازن مريزة

Thu, 22 Dec 2011 الساعة : 15:14

باحث اكاديمي
إلى سيدي أبا عبد الله ،روحي فداه ، إلى المذبوح من قفاه ، إلى مَن أحيا روح الأمة بعطاياه ، وأوقد سراج الإسلام بدماه ، كثيرون هم من حاولوا صنع رايات المجد بعظمتهم ، وشدّوا خطاهم في دنياهم مستقتلين في محاولات مستحيلة للوصول إلى جبل الخلود ، حالمين بغرس أعمدتها في أعلاه ، ولكنك الوحيد سيدي من صنعت قمّة عظمتك وسموّك بحياتك ، وأرتقيتها عبقريا بموتك الجميل ، كثيرون هم من أجهدوا أنفسهم لإدراك الأسرار والسبل ، ليضّموا أسمائهم وملامح فكرهم في بعض كتب التاريخ المتناثرة بلا حدود على دروب البشرية ، ولكنك وحدك مولاي من صنع لأمته تاريخا خالدا بالبطولة والفداء ، تربعت على عنوانه سيدا بلا نزاع ، لتصوغ عظمة إجلاله مدادات النور المنحنية أمام حياتك الزاهرة بالتألق والعطاء ، من قبل أن تخطه سيوف قاتليك ، الذين قتلوا جسمك وأدركوا بعدها أنهم لم يتمكنوا قط أن يمحوا أسمك من قلوب مريديك ، أو كتم روحك المترامية الأبعاد ، والتي ما فتئت رمزا نابضا بفيض لا ينتهي من شعارات النبل والفضيلة ترفرف أبدا على رؤوس كل الأحرار في العالم ، سحقوا صدرك الزاهر بعقيدة السماء بسنابك خيلهم ، وما عرفوا أنهم قد أججوا في صدورنا للأبد أتون الدم والنار في وجوه كل الظالمين ، كثيرون هم من صرفوا حياتهم الفانية في محاولات متعثرة ، وتجارب منكسرة ؛ ليفهموا إن كان للخلود مدخلا حقيقيا أم أنه محض خيال ، ولكنك سيدي وحدك ، من رسم للحقيقة درب الخلود ، وصنع من الخلود بابا إلى الحقيقة المجردة ، كثيرون هم عمالقة المبدأ والعقيدة ، في كتب الإسلام ، والسلام ، والأيام ، ممن ضحوا بأرواحهم في سبيل بعض بريق من هالات مشرقة ، تلّفُ وجوههم الطاهرة ،ولكن لوجه الحسين هالة أخرى من أنوار سماوية جعلت وجه الإنسانية ينحني لها وحدها في خشوع ، كثيرة هي السفن العظيمة التي تمخر عباب الماء ، تخترق الأنهار والبحار في غياهب الظلمة الدهماء ، تتفاخر بما فيها من سطوع النور والضياء ، متباهية بحمولاتها الآمنة من كثرة الخلق والركب والأشياء ، ولكنها في نهاية المطاف تتقاعد كخردة منبوذة في ميناء تلفها ظلمة سوداء ، إلا سفينتك السرمدية وأمل نجاتنا ، فوحدها تبقى سائرة نحو آفاق السماء ، ناشرة أشرعة خلودها ، مهما تزايدت روافد الساعين إليها ، وتوافدت وجوه المتلمسين دروبهم المظلمة تحت أضواءها الباهرة ، التي لا تخطأ أبدا وجوه المؤمنين ، لتنقلهم إلى عوالم الفيض والإشراق ، وتحررهم من قيود الأطر الدنيوية ، وعقبات الفناء الآدمية ، كثيرون هم ممن نجحوا في الانفلات من قيود الرغبة الزائفة في العيش تحت ظلال الذل ، وسيوف الشر ، وفضلوا أن يكونوا طعاما يشتهيه الموت ، وفضلوا الموت على الحياة ، ولكنك وحدك مولاي ، من جعلت الموت ينبض تحت قدميك بالحياة ، ورسمت خلف برزخه حياة أخرى تزخر بشعلة تفرش النور في دروب الأمل ، وتغرس معاني جديدة للموت في قلب الوجود ، كثيرون هم الشرفاء والأتقياء ممن انغمسوا في صراعاتهم بين الخير والشر ، واعتمدوا منطق القوة ، ولكنه الحسين وحده مَن تجلى عنواناً بارزا لفكرٍ لم يركع لأنه استخدم قوة المنطق لا منطق القوة ، براية أحرقتها نيران الطغاة دون أن يحولوا بينها وبين خلودها ، بجسد مزقته سيوف الظلم دون أن يتمكنوا من النيل من كرامته ، بوجه ظامئ الشفاه قطعته سياط القهر دون أن ينجحوا لحظة في خنق كلماته المؤمنة إلى آخر الزمان ، بأنامل تخثر عليها الدم التراب ، دون أن يستطيعوا أن يجبروها على التخلي عن قلمها الذي خط أول حروف قصة لم تكتمل خاتمتها بعد ( كل يوم عاشوراء ، وكل أرض كربلاء ) ، في قانونه السرمدي ، في قهر الظلم ، ومقارعة الظالمين في كل زمان ومكان.إلى سيدي أبا الأحرار يا من سقط شهيدا في أرض الطهر عملاقا بشهادته الفريدة ، وهو ينشر آثار نصره الأزلي في كل زوايا الكون ، وسقط قاتليه أقزاما في مهاوي الردى تلعنهم كل أجناس البشر من كل عرق ولون ، يا مَن لو شاء أن ينأى بنفسه عن الموت ، لما أعيته الحجة الباهرة ، ولا الأسباب العاذرة ، أن ينضوي تحت ظلال السلامة ، وعرائض الأعذار بلا عتب أو ملامة ، ولكنه كان يعي بلا صعوبة ، بأن الموت له سيكون كرامة ما بعدها كرامة ، وأنه باستشهاده سيؤسس لمنهج جديد يتبعه الملايين إلى يوم الدين ، يرفع راياته من بعده كل أحرار الكون ، ويخوض في دروبه المنيرة من بعده كل محبيه ومريديه ، ممن لم يروا فيه رجلا مات وحيدا من أجل مبادئه النبيلة ، بل أمّة انتفضت في وجه غاصبيها ، وراية عالية تلونت بكل ألوان الفضيلة ترفرف أبدية فوق كل الرايات ، ومشروعا مفتوحا للسير نحو الحق ، والفضيلة ، والشرف ، والهدى ، يا من قلب الهزيمة نصراً فوق رؤوس مغتاليه ، يا من لا يكاد العارفون بفضله أن يجدوا بينه وبين الفضيلة فروقا ذات شأن.

يا سيد الشهداء ، ألم تقل وقولك الصدق : ( إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمد، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ..) ، ألم تصحح كلماتك تلك مسارات تبعتها مسارات ، وأصلحت انحرافات تشعبت منها الكثير من الآفات ، وأخرجت عقيدتك للنور تلك الأمة التي أوشكت أن تغرق في بحر الظلمات ، ألم توقد كلماتك تلك سراج الأمل للسائرين في درب المدلهمات ، وطريق الإصلاح ومقارعة الظلم والإفساد ، يا سيدي : اقبل منّا أن نرسل لك سلاما مغموسا بطعم الحب والشوق والحنين ، أسمح لنا أن نرسل إليك دموعنا معجونة مع دمائنا التي سالت على حدود نهجك ، في محاولات حثيثة لاستيعاب حقيقة معانيه ، أأذن لنا يا سيدي أن نشكو إليك طعم قهرنا وهواننا وسباتنا ، من قلب يأسنا ومعاناتنا ، أسمح لنا أن نكرر صرخاتك سيدي (( هل من ناصر ينصرني ؟ )) ، فأمة جدك الآن بأمس الحاجة للإصلاح ، تسري بذات الطريق الذي سارت فيه أيامك تتلفع بالضباب ، تقودها سياط الفيالق اليزيدية إلى صبح ليس فيه غير أرواح عليلة تسعى بنفسها إلى أبحر الخراب ، يا سيدي من وسط أتون النار والعلل ، دعنا نكّحل بنور روحك عيوننا التي استسهلت غفوة أهلها بسبات عميق ، ونسّلط صرخات عاشوراء على صمتنا الصارخ الذي بات يفضح فينا جُلّ أحلامنا في أن نتمكن يوما أن نردد صرختك ( هيهات منّا الذلة ) ، يا إمامنا نحن بحاجة إليك مرة أخرى لتحول كل مآسي إنهزاماتنا إلى نصر عاشوراء ، وكل أراضينا الغارقة تحت أحذية الغزاة إلى كربلاء ، بماذا نخبرك يا مولاي وأنت فينا تعيش ، وروحك الطاهرة ما زالت تضيء لنا ليلنا الدامس الطويل ، يا سيدي ، قد تسلّط على رقابنا من جديد ألف يزيد ويزيد ، وسيوفنا قد أكلها الصدأ ، وجراحاتنا سأمت رائحة الدم والصديد ، وخوفنا قد استشرى في قلوبنا وعقولنا ، وشجاعاتنا غادرتنا بلا عودة وما عاد هناك المزيد ، وتاهت سفننا وضيعت موانئها وأصبح القريب هاربا في ليل البعيد ، نحن لا نقصد إخبارك بكل السيوف التي تسلطت على رقابنا ، فأنت ما زلت فينا الشاهد والشهيد ، ولكننا نستصرخ كربلاء العهد وعاشوراء الأيام من جديد ، فهذا شِمرٌ بخنجره المسموم وذاك عمرو بن سعد بسيفه الغدّار وهنا يومئ لنا حرملة مهددا بسهامه وهناك يقف الحصين قاتل الحر بن يزيد ، هذا بعضا من حالنا نشكوه إليك سيدي ، ومع كل هذا ما زال بعضنا على عهدك ونهجك ونور دربك المجيد ، بلى والله ، ما زال البعض منّا يسير على خطاك جيلا بعد جيل ، تقودهم رايات ثورتك وتنوّر لهم السبيل ،ومن أقصى مشارق الأرض إلى مغاربها ما زالت القلوب قبل العيون تبكيك ، وتهرب من ضعفها إلى قوتك حينما تصّرُ على التشرب بمعانيك ، وتروي بعطشك السرمدي شفاهها المتخشبة ، من هول خواءها ، وفي برد مداك ، تترك قلوبها المتفحمة من نار هوانها ، متدلية بحبل الأمل تتأمل تراتيل تقواها ، التي منحتها إياها كلماتك الخالدة ، بقولك: (( هيهات منّا الذلة )) ، والتي علّمت منّا الكثير كيف ننتصر بها ، حينما يعلو صراخ المظلومين على صوت الظالمين ، وتحاصر معانيه ظلم العتاة ، ورياسة الطغاة ، ما زلنا سيدي ننعاك في ما بيننا ، وننعى أنفسنا في حضرة قامتك المنتصبة أبدا ، ما زلنا سيدي على العهد الذي فرضته لنا ، فربما تتمزق بريح الحقد راياتنا ، وتتقطع بسيوف الناصبين أشلاؤنا ، وقد تُصلب على أخشاب الواقع المرير أحلامنا ، ولكننا أبدا لن تنحني قاماتنا ، ولن نبيع للشيطان أرواحنا ، وتأكد سيدي أن بركان ثورتك لن يخبو في نفوسنا يوما ، ولكنه بحاجة إلى أوار من جديد ، بشعلة شعارك السديد : (( لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد )).فتقبل منّا سيدي الحسين ؛ سلام المحبين المخلصين ، المضمخ بعطر المسك وأريج الرياحين ، ووعد التابعين نهجك ونهج آبائك إلى أبد الآبدين ، وبيعة الناصرين لصرختك (( هيهات منّا الذلة )) ، وعهد الساعين إلى الحق من الموالين ، الذين لم يبدلوا موازين الآخرة بموازين الدنيا وأوزارها ، مستمر موصول إلى يوم الدين ، يوم تشرق الأرض بنور ربها ، ويقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون .اللهم أحشرنا مع محمد خاتم النبيين ، وآل بيته الطاهرين المطهرين ، اللهم احشرنا مع الحسين وأصحاب الحسين ، اللهم اجعل نفوسنا محبة لصفوة أصفيائك ، ونخبة أوليائك ، وخاصة شهدائك ، عابدة لك في أرضك وسمائك ، محتسبة عند نزول بلائك ، شاكرة لسابغات نعمائك ، مشتاقة إلى فرحة لقائك ،متزودة بحب آل بيت صفيك ليوم جزائك ، مستنة بسنن أوليائك، مشغولة عن الدنيا بحمدك و ثنائك. والسلام على الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.
 امريكا

Share |