كريمٌ حيّ وميِّت-بهاء الدين الخاقاني

Fri, 16 Dec 2011 الساعة : 12:36

سفر كرم ما، ناتج لتوحد الذات مع السماء ..
اعتمد اختراق الطبيعة البشرية خارج المعايير والقوانين ..
فأنتج الابداع ..
الحسين ذلك المجهول كآبائه وابنائه يخترق الأزقة، ليوزع غذاء وكسوة للمحتاجين، وما ان افتقدوه شعر الناس ان الذي كان يلبي حاجاتهم كان هو الحسين ..
هو الوصول لأفق دون انتظار جديد، متفاعل مع الحقيقة دون مغامرة ..
الاشباع حيرة المفكرين دائبي الحلم بحل، وان يكن الجود في بناء الأجوبة شكلا ومضمونا، بعيدا عن الادعاء الذي يُراكم مناهج تعيد استنساخ الأقوال ولكنه تفقد العمل ..
انتشر الحسين كرمه في الأنفس دون أمر من أحد، وليتباها الكريم والمنافق والمرائي والمؤمن سواسية باقصاع الأكل، ما لذ وطاب في الشوارع والدواوين، حتى ذلك الذي لا معتقد له ولكنه وجد في الحسين ملاذ أفكاره ودعوته الفكرية لاشباع الفقير، ليأتي بأمواله مساهما لأنه يؤمن ان الحسين رمز النهضة والاصلاح ..
كرمٌ جعل الآخر يتقبلنا من داخل خصوصية الحلّ الذي بحث في النفس وأسّس للاختراق واستثمرَ الحكمة، فيقوم الآخر بمجهودٍ لأداء ما لم تتمكن كلّ العمليات الاقتصادية والفكرية من انتاجها ..
لم يعد اليوم الاقتصاد يتأسس على العرض والطلب المجرد، بل دأبَ الكرمُ والعدلُ على الحفر منذ ظهور مفهوم الاقتصاد ..
اِهمال العدل والكرم، أنتج ما أنتج من تدهور اقتصادي عبر العصور بل وسقوط أمم وحضارات بسبب ذلك، لأن البخل فرْخ الظلم ..
ان سفر الكرم لهذا الانسان الشهيد، حيا ومية، استثمر الطبع البشري بالظهور ليفتح مسارب جوفية في الثقافة والفكر، لاستعادة مكبوتاتها، واستنطاق لاوعيها، ورفع الحجب عن أحلامها ورغائبها، وهو ما يجعلها إلى جانب انسانيتها الرفيعة تبدو سهلة المنال، حيث ترتكز على مثالية باتت واقعية، وثراء بالرموز للايثار والإحالات للتضحية من أجل الآخر وليس من أجل الأنانية والأنا، للكشف عن شخصية مدفونة في الانسان تعني الفطرة في اشتغال هذا الكرم بفاعلية، باعتباره إعادة اعتبار للانسان المنسي، وللوقوف على كيفية تشكل انطلاق من تصور فكري مغاير، مما سيجعله يمارس عملية التحويل التي تهدم البخل لتأسيس طبع آخر، أي الهدم من داخل النفس وبافراغها من المصلحية والأنانية وتراثيات المعرفية الساكنة، ومنحها عطاءات تتوافق مع الفطرة لاستقامة المجتمع والأمم بارشادهم للوصول وادراك الوجد، واِن الجمال يتجه نحو الجلال، فكان الكرم ..
ومن المؤسف ان نجد ما يخالف ذلك سلوكية وايمانا، لا أدري هو البخل أم الجهل ..
وقد مررت بتجربة فقير وهو يدخل مجلسا كنت مدعوا له في سورية وهو يردد دعاء النبي في صلاة العيد عفافا منه كي لا يعبر عن حاجته مباشرة: اللهم ادخلننا في كلّ خير أدخلت فيه محمدا وآل محمد ..
واذا بأحد المشايخ ممن كان يزور المجلس والمأدبة بشرفه، لأنه مقيم في أوربا يصرخ بوجه: أنتم العوام لا تعرفون مستوى هذا الكلام .. هل تتحمل جوع أهل البيت .. هل تتحمل الخبز اليابس .. وهل .. وهل ..
وبات الفقير المعروف عند أهل المجلس يرتجف ..
فلم أتحمل .. وقلت : اليس هذا دعاء القنوت في صلاة العيد .. فهل تنفيه .. أم أن الامام علي عليه السلام .. اشترى ظهر الكوفة وأوقفها لقبور الناس .. كان من بيت المال او أن تجارته بالتمور والنخل اسطورة .. أو ان عبارته العظيمة .. لو كآن الفقر رجلآ لقتلته .. عبارة عند ليس اِلّا .. أو المال الذي أعطاه الامام السجاد عليه السلام للفرزدق وهم .. أم .. أم .. لماذا يا شيخ تريدون ان تعلمون الناس الذل و .. فمن اين جئتم بأن اهل البيت فقراء ..
فرد عليَّ وكنت مندهشا من أسئلته، وكنت أعتقده من أهل المعلومة والخطابة: وأكلهم الخبز اليابس؟..
فتحسرت على هذا الجهل: نعم كانت تجبى اليهم الأموال .. ولكن في نهاية كلِّ يوم لا يبقوا شيئا حتى يطمئنوا .. مِن أن أهل المدينة والجيران ليسوا في عوز .. فيخيم الليل واِذا هُمْ ليس لهم شيء يأكلونه .. لأنهم قادة الناس ومسؤؤولون عنهم .. وما ان يحلّ الفجرُ حتى تمتلأ خزائنهم من أعمالهم ومن حقوقهم وهكذا ..
ولا أطيل القصة ولكن لا أنسى دمعة ذلك المسكين أبو عادل وهو يخرج من مجلس سيد مضر الحلو مهموما وقد أسر اليه سيد مضر كعادته ما يجبر خاطره مالا وغذاء ..
كانت التحولات الرمزية نقيضة المتوارثات للتعسف، فيكون الكرم فضاء للحرية ومكانا لرغبات الانسان للكمال والافتتان بكل جميل ..
أن الله تعالى لم يكلفنا بالباطن وإنما كلفنا بالظاهر، وهو الذي يحتج علينا به لأن الباطن لا علم لنا به وهو ليس بحجة علينا، وانكشاف الباطن مجرد ادعاء لم يثبت بدليل، فكيف نصدقه ؟
فاذا اردتَ أن تنفى أمراً ما فعليك بالاثباتات ..
ولابد من تصوب المسار لفهم الأمر جيداً، ومن الممكن اِضافة نقطة جوهرية للرفع الشبهات ..
من أراد ان يعيش عليه أن يعمل ..
هكذا هي فلسفة الجوع، الحاجة تولد العمل، والإبداع والعمل وسيلة للوصول للأهداف، فأضحت أمم لا تجوع ولا تشحث بل تصنع وتتحكم، ولكن هناك عقول جائعة فكريا وماديا، وهناك من اِذا حسّ بالنقص فيجد الحل، أما أن يدمر ما حوله ويسب ويشتم، أو يقبع في راحة وسكون، والأسؤ ليس كونه لا يعمل لتحقيق غايته بل اِذا عمل فهو لا يعمل بل يهدِّم ويتكل ويحسد ..
فلابد الاجادة بين ما هو كائن، وبين ماهو كائن وما يجب ان يكون أو حتى ماذا سيكون ..
فمن حقّ أي انسان أن يعترض متى شاء كحق ووسيلة للمطالبة بحقوقه، لكن الغائب هنا هو ان هذا الحق لا يقابله في الواقع واجب، لانه ليس كفىء لذلك وبالتالي ليس كفىء للاعتراض، لانه لم يعطِ الواجب حقه فكيف يطالب بوجوب حقه، ولانه ليس من طبيعته التجديد وحتى التنقيح لأفكاره ..
اِذن الجوع ليس مجرد طاعون وآفيون يضرب الشعوب بقدر ماهو ضارة نافعة لمن عرف كيف يقولبها وفقاً لطاقاته وأهدافه مهما كانت طبيعتها، سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية تعليمية ..
فالتعامل وحسن التدبير فلسفة في حدّ ذاتها تحتاج للإشباع قبل ان يقتلها الجوع في يوم ما ..
فلسفة الجوع، أقوي فلسفات العالم وأشدها تاثيراً فى الهيئة الاجتماعية وهي أقوي من فلسفة القوة بما لايقدر ..
والقوة صنفان، الواحد منهما ساكن أو كامن والآخر عامل أو متحرك ..
أما الجوع فهوضرب من ضروب القوة، ولكنه يختلف عن سائرالقوي في أمرخطير هو، أنه لايمكن ولايكون مطلقاً في حالة التوازن بل هو متحرك دائماً وابداً، وفعله فى الأحياء أشد من سائر قوى الطبيعة مجتمعة ..
الكائنات عامة، عامل ارتقائها هو الجوع، لأنه الدافع الى الحركة، فلولا الجوع لم يكن هناك طلب غذاء ولم يكن تنازع بقاء، لأن تنازع البقاء هو تنازع الغذاء ..
الحاجة للغذاء دافع لترقية الأنواع، ولولا ذلك لكانت مترهلة خاملة، ولما كان الارتقاء الذي نراه، بيد أن للجوع في الهيئة الاجتماعية أثراً في ترقيته قد يفوق سائر الفواعل الأخرى، هو حقيقية الحدِّ الفاصل في التاريخ بين العصور المظلمة والعصور النيرة، واليه يرجع الفضل في أعظم الحوادث التاريخية على وجه الكرة الأرضية طرا ..
تعود شرارة الثورة الفرنسية الى أيام الملك لويس الخامس عشر الذي سمي حينئذ:
(حبيب الأمة ) ..
فقد عضّ الجوع يومئذ الشعب بنابه، فأرسل الى ملكه لجنة تطلب منه خبزاً للشعب الجائع، فكان جواب الملك أن شنق أعضاء اللجنة لجرأتهم على طلب الخبز، وكانت جثثهم المتمرجحة فى الخلاء، كما قيل أحرفاً ترمز الى الويلات الفرنسية ..
ولتقول الملكة : اليس لديهم كيك ..
تصوروا الانفصال والانفصام والازدواجية ..
لو لم يقرص الجوع الشعب الفرنسي، لما تأججت الثورة، فقد هجمت النساء الجائعات، حاملات أطفالهن الجياع على قصر فرساي جيشاً جراراً، وطلبن من الملك، خبزاً لهن ولأطفالهن ..
أمام هذا الجيش الكبير من النساء الجائعات وقــف الجنود حيارى، لا يجسرون عن شهر سيف أو اطلاق بندقية ..
خرقن صفوف الجيش كاللبؤات الهائجات والنمورة المستقتلات، لأن الجوع أوتــر عضلاتهن وجرح قلوبهن حتى هال منظرهن الجنود الذين خاضوا غمار المنية في ساحات المعارك لايرهبون المعاقل ولا المدافع ..
رفض الجوع التسوية بين طبقات الشعب، حتى أصبح الغنى والشرف مسبة، فساق أغنياءه الى المقصلة، ودبّ الذعر وأصبح الأغنياء يتبارون في الظهور أمام الشعب بمظهر العامة والفقراء ..
فعلت فلسفة الجوع في الشعب ما لم تفعله فلسفة فولتير وروسو واضرّ بهما، لأنها فلسفة قاهرة، يؤثر منطقها في النفوس حالاً ..
فلسفة لا متسع عندها للانتظار، وهي لا تجادل ولا تناقض ولا تصبر ولا تأتي في أبحاثها على براهين أو أدلة، لأن عنصر التفكير في هذه الفلسفة هو المعدة، لا الدماغ ..
قوام فلسفة الجوع القوة لا الحق، أو الحق الذي تعتبره القوة حقاً..
وهي الفلسفة التي تجري عليها الأن الدول الحضارية احترازا من ضرباتها المهلكة ..
وهنا تذكرت تنهدات ابي ذر الغفاري وهو منفي جائع مع أهل بيته في الربذة: عجبت لمن لا يجد قوت عياله أن لا يشهر سيفه أمام الناس ..
تنسى الأمم قتلا الحرب والدماء التي أريقت في ساحات الوغى، وتتبدل الصداقة والعداوة وينقلب العدو صديقاً والصديق عدواً، ولكن الأمم لا تنسى، ولن تنسى قتلى الجوع، لتتحول عاصفة ضد فاسد تلاعب بقوت الناس، أو مسؤول ادعى ما ادعى والنتيجة الجوع، لأنه سيكون العمران والتمدن ضجرا اذا لم ينتجا رفاه الانسان واشباعه بطنا قبل العقل، لأن اي منهما ناتج الآخر ليكون العقل أيضا شبعانا مشتاقا للعلم والمعرفة ..
أجل سيكون خلاص العالم على يد فلسفة الجوع، لأنه تحتار أمامه الخيارات، ليكون له مدلولٌ للبقاء والفناء فضلا عن العبودية والحرية، حيث التنازع ظاهر حتى في التفاف جذور النباتت تحت التربة وان التدافع بين الأمم والجماعات والأنواع من أسباب ذلك، وما بين القوة والضعف، أي ما بين كرامة الانسان وعدمها، وكانت حكمة الصوم حكمة للدلالة على خطورة الجوع وتنبيه الفكر البشري للقضاء عليه، وقد ربط الله سبحانه وتعالى بين الأمان بأنواعه والنهضة والرفاه والاشباع:
(( الذي اطعمهم من جوع وامنهم من خوف))(سورة قريش) ..
ومثلها قالها السيد المسيح عليه السلام: ..
.. ليس بالخبز وحده يحيا الانسان ..
فلم يكن يقصد نفي الحاجة له وانما مع أهمية الخيز للحياة هناك أيضا ما يقوت الحياة، لانّ الزهد كما قال سادة الفكر الانساني والسماوي، ليس أن تجوع بل أن يزهد الانسان عن الطمع لما في أيدي الناس من خير من حسد وغيبة وسرقة ..
ان الخلاص من جوع الناس أطر مسيرة الحسين عليه السلام:
(إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي محمد ص، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي محمد ص، وأبي علي بن أبي طالب ع، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد علي أصبر) ..
انها مسيرة اشباع الناس أولا لاصلاح النفوس من أجل ذلك وفي ذلك ..
ان وجدنا أغلب الشعائر وحتى ما انتجته واقعة الطف لها انتماءاتها الخاصة ولم تكن شمولية لتكون بعض المفاهيم صراعية، وفيها من الافتراق بالسبل، وان فيها ما يهدم أكثر مما يبني في العلاقات والرؤى، اِلّا الكرم، حيث رؤيته الشمولية بوعي الفكرة ولأهمية الحضارة في تكوين الفرد وحضارية الفرد في تكوين أمة ..
فالكرم دوما له دلالات الموعد العشقي مع الأفضل والأفضل نحو الأسمى، لمعالجة الدونية والغياب والفقدان والجهل بالأصل، ليكون الفعل محتفلا بالانسان في وعي من زمن يفنى الانسان في خلوده الناتج من الاخلاق، فتكون مادية الحياة وروحيتها توحدا لاحتراق المجاهيل، فيمسك على العتمات بومضات من نور وبالتدريج ستكون فيضا من ضياء، عنده يتم معالجة العلاقة مع الأخر، لأن البخل وهو جانب أخلافي بالاستبداد هو أصل تفجير الازمات والاستأثار بالمورد والموارد، ان كان ذلك فكرا أو وسيلة أو نتائج مما يجعله يمحو أثر الآخرين حتى يوهم بالواقع ..
فمَن اِذن لا يحب الكرم المقدم له، بل الأهم مَن يمكن أن يكون كريما ويقدم من نفسه دون طلب، حتى الله سبحانه وتعالى بعد أن وفر ما وفر كرما وجودا منه في الطبيعة ضدّ الجوع، قال: ..
(( لان شكرتم لأزيدنكم)) ..
لأي شيْ نشكره سبحانه، أليس العطاء للاشباع، وبأي شيءٍ يزيد عزوجل، أليس بالعطاء والاشباع ..
.....................
[email protected]
[email protected]
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

Share |