أمّي تحتضر أمامي-جواد كاظم الخالصي

Tue, 13 Dec 2011 الساعة : 23:13

كانت الخطى متسارعة وأقدامي تسبقني الى مسقط رأسي في العراق الذي فارقته منذ عقود من الزمن أحنت عودي وشاب بها الرأس واجتمعت في ذاكرتي الكثير من الهموم والأحزان التي قفزت بي بعيدا عن ذاكرة الماضي وحسابات الزمن الذي تركته يتآكل ليترحّم على الكثير من الأحبة والأصدقاء حيث أخذت السنين العجاف رونقها من وجوه الكثير مَنْ أعرفهم وتمنيت أن يصبحوا السد المنيع والحصن الكبير لبناء بلد مثل العراق والنهوض به بشكل صحيح وفق المعايير التي نهضت بها بلدان العالم المتقدم، لا بل حتى التي نسميها بالنامية كبلدان الشرق الأوسط وما يحيط بنا ، ولكنني وجدت وللأسف حالة من الكهولة والتعب ترتسم آثاره على وجوه أغلب شباب العراق حيث ضاعت معالم رونق الحياة الزاهية وبان العجز في روحية البناء والنهوض وهذا ما أود أن أفرد له مقالا كاملا أبتعد فيه عن كل تحامل أو الوقوف عند الشخصنة، والتي يراد أن أقف فيها عند مفاصل مهمة جدا تخضع لكل مفاهيم العقلنة الذاتية لبلد له من الحضارة العميقة عمق التاريخ القديم والتي اعتدنا نرددها دائما في كل لقاءاتنا.
أعود الى موضوعي،، عندما جلست أمام الوالدة وجدت أن سنينا من الألم والفراق أخذت مأخذها منها تَمثل بوجهها على شكل خطوط وهمية ترسم أخاديد ملتوية ومحدبة تعبّر عن أوجاع وهموم لفترة من الزمن ، تحاكي بها أبناءها عن بُعد وتبكي ألما على من فقدته من بين يديها مرتحلا الى آخرته بعد أن خنق أنفاسه الجلاد لينهي حياته الزوجية التي ابتدئها بما لا يتجاوز الشهر دون أن تعلم رحمها الله أن الجبابرة والطغاة ليس لهم زمان ولا مكان ولا يحملون صفة الانسان لكي يراعوا حق العيش في الحياة وممارسة حرية الرأي والتعبير التي كان يروم اليها أخي الشهيد وغيره ممن سحقتهم آلة الموت البعثية وطغيان الحاكم المستبد،، لذلك بكته كثيرا في وقت كانت قد فقدتني مُشرّدا بين بلدان العالم وبنفس آلة الحاكم المستبد وهو ما ضاعف عليها العذاب والوجع وتشديد الحصار الأمني والتعرض للاعتقال والتحقيق الممل والقاتل أحيانا لامرأة تجاوزت حينها الستين من عمرها ،،، انها قسوة الموت البطيء لا محال التي تخلّف بصاحبها الكثير من العلل والأسقام فتبدأ الأمراض بنهش جسمها شيئا فشيئا لتصل الى مرحلة الوداع الأخير الذي عشته شخصيا بكل لحظاته الأليمة والمُرّة مع اني أحمد الله كثيرا بأنني تمكنت من التواجد الى جنبها طيلة أيامها الأخيرة وقلبي يتهلل بالطمأنينة مع الله تعالى أن منحني هذا الوقت لأكون الى جانبها رغم أن وجعها ثقيلا عليّ لقصر مدتها التي حسبتها أن تكون طويلة لأحمل ولو جزءا بسيطا من معاناتها على فراقي.
ان صراعها مع المرض كان كصراعها مع الزمن القاسي الذي عاشته بكل شدته وقساوته رغم القضاء على الجلاد وعصابته حيث اكتحلت عيناها برؤية نهايته التي انتظرتها طويلا كي تقول ان دم ابني قد بَرد اليوم وظهرت عندها معالم الحق الذي استبيح لعقود من الزمن كما تحاول اليوم ذيول الطغاة ومن معهم من بعض دول الشر العربي أن تُجهز على ما تبقى من هذا الحق وأصحابه في عراق اليوم .
يكون المشهد غريبا ومؤلما وأنت تضع رأس والدتك في حجرك وهي تودع الحياة بهمسات خافتة ومناجاة وأنين ، يتلاعب على شفتيها خلاصة الكلام ربما يكون أبلغ ما تريد قوله في حياتها وهي تودع هذه الدنيا الفانية بكل تجلياتها التي عاشتها بألم وحزن عاليين لما اعتراها من ضغط نفسي وهاجس الخوف من الماضي بظروفه الأمنية القاسية حين عاشت فراق ولديها .
اننا مثل باقي البشر نحب الحياة ولكن على طريقتنا التي تصب في مرضاة الله ويرفضها الطاغي المتكبر فنرتشف حلوها ونجانب مرّها بعيدا عن مزاحمة الآخرين أو الوقوف عند خصلة الحسد البذيئة لدى البعض ودونما السماح له أن يطوف في فضاءات نفوسنا التي أرهقت رغما عنها بما تحمل من آهات الزمن الذي نعيش حبسا للأنفاس ومنعا لخروج الكلمة الحرة.
هكذا مر عام على انتقالها من هذه الدنيا وأنا أتلوى ألما في داخلي وفراقا عسيرا أوغل حزنا في قلبي وأنا أرى أن الأمل الذي كان يحدوني قد تضاءل أمام عيني وذهب بريقه وبدأت أفقد وسيلة الخشوع الحقيقي الى الله، لأن دعائها كان لي الأمان الذي أحس به كالحبل الواصل الى رحمة الله تعالى ،، ::::
فهل تعلميني ياأماه كيف الوداع كما علمتيني الصبر المّر بعيدا عنك طيلة سنوات غربتي الطويلة ؟
وهل صحيح قول القائل ( أن بابا من أبواب الجنة تُغلق عندما تموت الوالدة) ، وهل يجوز أن نعترض على إرادة الخالق في واحدة من أسس نظامه الالهي الذي ندخل جميعا في عداده لنلقى وجه الله في حياة أبدية هي الآخرة ؟
أسئلة تشق طريقها وسط القلب بحثا عن إجابة ،،، لكنه الحزن الذي يلازم روح البشرية عند الفقد والحنين الى أعز مخلوق لكل إنسان منا وهي أمه ذلك الحضن الدافيء المليء بالحياة والحنين والسكينة والاطمئنان والملجأ لمن يفقد الأمان .    

Share |