سر الخلود ... بين الاديان والاساطير القديمة-زاحم جهاد مطر

Sat, 26 Nov 2011 الساعة : 17:51

تتفق الاديان السماوية على ان عملية خلق الانسان اتصفت بالقدسية والصلاح وبما ينسجم مع الذات الالهية الممتنعة من خلق او وضع ما هو غير كامل,غير ان الانسان هو الذي اسقط نفسه من مقامه العلي الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بأقدامه على تناول الثمرة المحرمة وهذه القصة اصبحت من الثوابت, وهذا يعني ان ادم عليه السلام وبعد ان اقدم على هذه الخطيئة مع حواء لم يفقد الجنة التي كان فيها بل فقد ايضا شيئا اكبر واعظم من ذلك بكثير الا وهو الخلود, ولذلك نجد ان الانسان ومنذ ازمان بعيدة وهو يحاول ان يعيد ما افتقده. وهناك قصص واساطير كثيرة في التراث الانساني وبالاخص في التراث العراقي القديم كالتراث السومري والبابلي والاشوري تتناول هذا الموضوع ولكن بصور واشكال مختلفة وتنتهي كل القصص بفشل الانسان وعدم الوصول الى غايته المنشودة, ونجد هذا الصراع الازلي بين الموت والفناء المقدرين على الانسان وبين ارادته المقلوبة المقهورة في محاولتها التشبث بالوجود والسعي للخلود كما يقول طه باقر في كتابه ملحمة كلكامش. وقد شكلت هذه القضية اي مسألة الموت والبرهنة على حتمية الموت لغزا محيرا في قرارة النفس البشرية والتي تمثلت بالطرح الدائم والمستمر بين ارادة الانسان في المحاولة والتشبث وبين الحقيقة الازلية والحقيقة البديهية للعقل والمنطق. ولعل ملحمة كلكامش واسطورة ادابا تعطينا صورة واضحة لتناول هذا الموضوع من وجهة نظر مختلفة. ففي ملحمة كلكامش وبعد ان يتأثر كلكامش بموت صديقه انكيدو يقرر الذهاب الى اوتونابشتم:
                     من اجل انكيدو رفيقه وصديقه
                     بكى كلكامش بكاء مراً وهام على وجهه في الصحارى
                     وصار يناجي نفسه:
                     اذا ما متٌ افلا يكون مصيري مثل انكيدو؟
                     لقد حلَ الحزن والاسى بروحي
                    خفت من الموت, وها انا اهيم في البراري
                    والى اوتونابشتم, ابن اوبار - توتو
                    اخذت الطريق وحثثت الخطى اليه
وبعد رحلة طويلة وشاقة يتحمل فيها كلكامش صنوف التعب والاجهاد والانهاك نتيجة للقتال الشرس مع الحيوانات المفترسة وقبل ان يصل الى اوتونابشتم يصادف سيدوري صاحبة الحانة حيث تقول له:
                   الى اين انت تسعى يا كلكامش
                   فالحياة التي تبغي لن تجد
                   حينما خلقت الالهة البشر
                   قدرت الموت على البشرية
                   وتمسكت هي  بالحياة
                   اما انت يا كلكامش فليكن كرشك مملؤاً على الدوام
                   وكن فرحا مبتهجاً مساء
                   واقم الافراح في كل يوم من ايامك
                   و ارقص و العب مساء صباح
                   و اجعل ثيابك نظيفة زاهية
                   واغسل رأسك واستحم في الماء
                 و دلل الصغير الذي يمسك بيدك
                 و افرح الزوجة التي بين احضانك
                 وهذا هو نصيب البشرية
ولكن كلكامش لا يأخذ بالنصيحة ويقرر الوصول الى اوتونابشتم حيث يملك مفتاح سر الخلود, في البداية يرفض اوتونابشتم ان يعطيه ولكنه وبعد نصيحة من زوجته ,يدرك كلكامش العائد ويخاطبه:
                  لقد جئت يا كلكامش الى هنا و قاسيت التعب
                  فما عساني ان اعطيك حتى تعود الى بلادك
                  سأفتح لك يا كلكامش سراً خفيا
                  اجل...سأكشف لك عن سر من اسرار الالهة
                  يوجد نبات مثل الشوك ينبت في المياه
                  وشوكه يخز يديك كما تفعل الورود
                 فأذا ما حصلت يداك على هذا النبات
                 وجدت الحياة الجديدة
ولم يكتف اوتونابشتم بأعطاء هذا السر الى كلكامش بل يرسل معه ملاح سفينته اور شنابي.
وتشير الاسطورة الى ان كلكامش ينزل الى اعماق البحر ويعثر على النبات المطلوب ويخرج فرحاً وفي الطريق يرد بئر ماء ليشرب ويغتسل فتشم الحية شذى النبات السحري و تتسلل وتخطف ذلك النبات وتهرب وعند ذاك يبكي كلكامش ويندب حظه:
              من اجل من استنزفت دم قلبي
              لم احقق لنفسي مغنما
              اجل:  لقد حققت المغنم لأسد التراب*
              افبعد عشرين ساعة مضاعفة
              يأتي هذا المخلوق ويخطف النبات مني!!
اما في القصة الثانية نجد الامر مختلف و تتحدث عن شخصية ادابا وهو كائن شبه مقدس,يعمل كاهناً في خدمة معبد أيا بمدينة اريدو ولقد خلقه الاله أيا ليكون قائدا ومرشداً بين الرجال, فأسبغ عليه من الحكمة الخاصة بالالهة لكن من دون ان تنعم عليه بنعمة الخلود, وذات يوم وبينما كان أدابا على قاربه يتولى صيد السمك لمعبد أيا,هبت الريح الجنوبية فجأة, وقذفت به وبقاربه وسط الامواج, وفي قمة غضبه وحنقه رمى أدابا بلعنته على الرياح الجنوبية والتي كان البابليون يصورونها على هيئة طائر او بمثابة كائن مركب مزود بأجنحة, فكسر أدابا بلعنته اجنحة هذا الكائن واحتجبت بسبب ذلك الرياح الجنوبية سبعة ايام, واستدعى الآله  انو لأدابا للمثول بين يديه حتى يقدم تفسيراً لفعلته الشنعاء,غير ان أدابا وقبل ان يذهب الى الاله انو ذهب الى ابيه أيا ليسأله النصح و الأرشاد, فطلب منه الاب ان يطيل شعر رأسه و لحيته وان يلبس لباس الحداد حتى يثير تساؤل تموز و جيزيدا و هما الحارسان لأبواب السماء, وسوف يسألانه عن السبب في حزنه وحداده, عندها عليه ان يجيبهما بأن فراقهما الفجائي للأرض التي اعتادا العيش عليها هي السبب في حزنه وحداده ولا بد لأشاراته المفعمة بالتبجيل و التوقير ان تجعل قلبيهما يرقان فيشفعان له عند الاله أنو. كما نصحه الاب ايضاً ان يمتنع عن تناول كل ما يقدم له من طعام وشراب في السماء اعتقاداً منه بأن هذا الطعام والشراب من ماء وغذاء الفانين من البشر.
مثُل ادابا في حضرة الاله انو, والذي كان قد قرر ان يعاقب ادابا ولكن بسبب توسط تموز وجيزيدا في اللحظة المناسبة قرر الاله انو ليس العفو عن ادابا فقط وانما بتكريمه ايضاً, وفكر الاله انو مع نفسه قائلاً:
ادابا هو في الواقع, نصف اله وانه على اطلاع كافي بخفايا الارض واسرار السماء  كما انه حائز على حكمة الالهة قدرتها فما الذي يمنع ضمه كلياً الى مجمع الالهة؟؟ حيث لم يبق الا منحه صفة الخلود كي يرتقي الى مقام الالوهية الكاملة!! ويصدر انو اوامره: ليؤتَ له بطعام الخلود ويوضع امامه كي يصيب منه, فيجلب له طعام الخلود وماء الحياة غير ان ادابا يتمثل بنصائح والده ايا ويمتنع عن الاكل و الشرب, وعندها يغضب الاله انو ويتوجه الى ادابا بالقول: لِمَ لَم تمد الى الطعام او الشراب يداً؟؟و بعصبية: لن تخلد بعد اليوم خذوه و اعيدوه الى الارض ثانية!!
ولو كان ادابا قد تناول شيئاً من الطعام و الشراب اللذين قدما له لكان واحداً من الالهة و لنال صفة الخلود. لكنه رفض ما قدمه له الاله انو التزاماً بنصيحة ابيه و جهله بحقيقة هذا الطعام والشراب,اعيد اردابا الى الارض بعد ان فلت من يديه فرصة الحياة الادبية على نفسه و على الجنس البشري.
وقبل ان تدخل في تفاصيل اكثر وعند المقارنة بين ما تذكره الاديان السماوية وهي متفقة على وجهة النظر الالهية التي تؤكد على ان السبب في عدم حصول الانسان على الخلود وهو بسبب الخطيئة التي اقدم عليهما البشر متمثلة بادم لان الله سبحانه وتعالى خلق الانسان في اكمل صورة وكذلك هو الذي فقد هذه الكمالية العلوية بسبب منه . ولنبحث قليلا فيما تقول بعض النصوص من التوراة والانجيل والقرأن وكما يلي :

التوراة :-
•    (وقال الله :- لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا , وليتسلط على سمك البحر وطير والسماء والبهائم وجميع وحوش الارض وكل ما يدب في الارض . فخلق الانسان على صورته. على صورة الله خلق البشر , وذكر وانثى خلقهم ) الاصحاح الاول من سفر التكوين .
•    (وجبل الرب الاله ادم ترابا من الارض ونفخ في انفه نسمة حياة فصار ادم نفسا حية ) الاصحاح الثاني من سفر التكوين
•    (بعد ان وهبه الحياة في الخلق, انذر الله الانسان بان عاقبه الخطيئة وهي الموت الجسدي, والروحي وهي على احد سواء . جلب ادم وحواء خطيئتهما الموت الجسدي على الجنس البشري , كما انهما انفصلا روحيا عن الله (الموت الروحي ) , وهذا وهو ما يحدث لجميع الناس عندما يخطئون ) سفر التكوين الثاني ,16,17, سفر التكوين الثالث : 1-19
الانجيل :-
•    (بالتالي . وهب الله الحياة للانسان , لكن الانسان جلب على نفسه الموت . والان الله هو الوحيد الذي يستطيع ان يهب الحياة مرة اخرى ) رسالة بولص الى اهل افسس 2:1-19
•    (انا الطريق والحق والحياة , لايمضي احد الى الاب الا بي . وبعد الانفصال عن الله بسبب الخطيئة لايمكن لاي انسان ان يكون في شركة مع الله الا من خلال يسوع . معطي الحياة ) . انجيل يوحنا 14-6
•    (اجرة الخطيئة هي الموت . واما هبة الله فهي الحياة الابدية في يسوع المسيح ربنا . سيعيش اولئك الذين يحرصون على طاعة الرب مع الله الى الابد في الحياة الابدية . الله هو الذي يهب لهم الحياة ). رسالة بولص الى اهل اروميه 6-23
القران الكريم:-
•    (وقلنا يا ادم اسكن انت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ) البقرة – 35
•    (فوسوس اليه الشيطان قال يا ادم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى . فأكلا منها فبدت سوءاتها وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى ادم ربه فغوى ) .طه -120
•    (الم انهكما عن تلك الشجرة واقل لكما ان الشيطان لكما عدو مبين ). الاعراف -22
•    واعتقد بان هذه الامثلة التي اوردناه من الكتب السماوية الثلاثة كافية للوصول الى الاستنتاجات التالية  :-
•    ان الله سبحانه وتعالى قد خلق الانسان بصورته الكاملة .
•    ان الله سبحانه وتعالى قد نبه ادم وزوجته حواء بعدم الاقتراب من الشجرة التي نهى عنها .
•    ان ادم وحواء وهما في الجنة لم يكونا يعلمان بانهما خالدان والدليل على ذلك ان الشيطان اغواهما بحجة الخلود بقوله  (هل ادلك على شجرة الخلد وملك لايبلى ).
وهذا يعني تفسيران لاثالث لهما
•    ان ادم وحواء لم يكونا يعلمان بالخلود كما ذكرنا اساسا , اولم يفهما معنى الخلود بالصورة المطلوبة واستغل الشيطان ذلك واغواهما بالخلود والملك الذي لايبلى .
•    ان الخطيئة لم تكن ناتجة عن استكبار ادم وحواء كما استكبر الشيطان وانما كانت ناتجة عن سوء فهم او عن شهوة ولذلك ارشد الله سبحانه وتعالى ادم الى التوبة وقبلها منه (فتلقى ادم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم ) البقرة _37 وهناك ما يؤيد هذا القول في الانجيل والتوراة .
•    ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا ان الفعلة التي قام بها ابليس اكثر بكثير من خطيئة ادم في ظواهر الامور لان ابليس عصى واستكبر وحصل على لعنة الله الى يوم الدين (قال فاخرج منها فانك رجيم , وان عليك لعنتي الى يوم الدين ) البقرة 87-77
•    ولكن الله سمح لابليس ان ينظره الى يوم البعث , ولما اعطاه الله ذلك اعلن الحرب على ادم وذريته يزين لهم المعاصي ويغريهم بالفواحش ؟ (قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين , الا عبادك منهم المخلصون ). البقرة 82-83
•    على كل حال وبدون الدخول في التفاصيل اكثر قد تقودنا الى مواضيع اخرى نوجز القول ونقول ان الاديان توكد بان الانسان, هو الذي ضيع من يديه ما وهبه الله سبحانه وتعالى بقصد او بدون قصد المهم انه بلع الطعم وانتهى به الامر الى الخروج من الجنة وفقدانه الخلود . عندما نرجع الى الاسطورتين اللتين ذكرناها وهي اسطورة كلكامش وادابا نلاحظ ان الامر قد تم تناوله بشكل مختلف تماما .ففي الاسطورة الاولى اي اسطورة كلكامش نلاحظ مايلي :-
•    كلكامش انتبه الى امر سر الخلود بعد موت صديقه انكيدو وتلاشيه بالفناء وكانه لم يكن يعلم بهذا السر اي بموت الانسان قبل ذلك او انه لم يكن ينظر الى الامر بسبب انشغاله بالامور الحياتيه او انه كان يظن بانه خالد بسبب كونه يمتلك من صفات الالوهية حيث كان ثلثاه اله وثلثه انسان واكتشف اخيرا بان اي شي يمتلك من صفة الانسانية شي لابدله من الموت
كلكامش هو الذي سعى الى اكتشاف سر الخلود وتحمل المصاعب والمخاطر الكثيرة الى ان وصل غايته , ولكن ولعدم انانيته حمل هذا السر الذي كان عبارة عن عشبة في اعماق البحر الى اهل اوروك جميعا , حتى ينعم الجميع بالخلود ولكن سرق منه سر الخلود.
•    مما ذكر نجد بان كلكامش لم يخطئ ولم يرتكب خطيئة .. بل جاهد وكافح وحصل على المراد ولكن وكما قالت سيدوري فتاة الحانة له ... بان الخلود كتب للالهة وليس للانسان : وانه مهما يفعل فانه في النهاية الى الزوال .
•    ولذلك .. ومن باب جبر الخواطر نجد بان نهاية الاسطورة تؤكد على ان الانسان يبقى خالدا بما يقدمه من خدمات وبما يتركه من اعمال وانجازات واولاد .
وعند الرجوع الى احداث اسطورة ادابا نلاحظ مايلي :

•    ادابا كان نصف اله .
•    قام بالخطيئة وخطيئته كانت كسر جناح ريح الجنوب .
•    اخفق في الحصول على الهدية المجانية المقدمة له من الاله انو ليس لخضوعه التام لارادة الاب ايا الذي هو رب الحكمة وصديق البشر والالتزام بالنصائح الابوية ولكن يعنى ايضا هو عدم التفكير السليم لادابا وعدم التمحيص والتدقيق والتطبيق العمياء دون اجتهاد او تفسير .
•    الفرصة كانت مؤاتية لادابا .. وقد جاءته على طبق من ذهب لكنه لم يغتنمها , لقد رفض هو بنفسه هبة الحياة الابدية التي قدمت له وسائر البشر وجلب بدلا عنها البؤس والشقاء على البشر .
 ويبقى التساؤل عن السبب وراء الموت والمعاناة واللتين كتب على الانسان مكابدتهما ولم لم يقدر على العيش الى الابد !!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*اسد التراب : اسم يطلقه العراقيون القدامى على الافعى

Share |