باب الطلسم!-محمد الجزائري-لاهاي
Wed, 23 Nov 2011 الساعة : 14:00

لم ترسم رملة الجاسم وجها ً تقليديا ً، فهذا الوجه هو باب وحجاب، يكمن فيه المعلن والمستور ، كما لو كان مدينة تدخلها من بوابة المقلة، ومن بعد النظر ، العين الأولى ليست(حمراء)رمداء بل متقدة بالغضب، والأخرى صافية خضراء لامعة..من هنا تشتغل الوجه على الدلالة العرفانية والإشراق أكثر منه على الواقعية التعبيرية،لذا فهو يخرج من (حيّز) الذاتية الفردانية إلى (فضاء) الذاتية الكلية، وهو أيضا ً لايشبه أحدا ً محددا ً لكنه يتخلـّق كما لو كان وجه عشتار الأم الرحوم، وربما العاشقة التي تجمع ليل أساها وأملها الشحيح في تعبير واحد ، لأنه كيان حاضر الوجود وقوي التأثير في الآن نفسه، تماما ً كأنه آخر آلهة سومر .
تعبيريته تشتغل على التضاد وأن بدا الأسود ودرجاته المهيمن، لكنه هنا أسود الهجاء ، مثل الجانب المعتم في لوحات رامبرانت، إنه هجاء للزمن وللوجود معا ً.
الوجه كيان آيقوني ،لكن الأسود الظليل هنا الطاغي- المهيمن حوَّل اللون إلى شفرة دلالية تنفتح على معنى الحزن والفقدان والأسى والأمل، فالاسود هنا ، أكيد، ليس فرحا ًجهوريا ً، ولا سرورا ًصعبا ً، لكنه مكابدة هجائية عن الذات وتحديا ًلجوهرها.
وهكذاتلجأ رملة الجاسم هنا إلى حداثة ممتدة من الأساطير إلى الواقع اللا معقول الذي تبدى كما لو كان أسطورة،وهي في الوقت نفسه خارجة عنه لأنها تؤمن بقيمة الإنسان وديمومة بقائه إلى أبد الأسى والإنتظار في الوقت ذاته.
هذا الوجه هو كيانية نفسه وجوهرها ، وكيانية وطن ورمز مدينة ، وقد ناورت الفنة بالعناصر والوحدات داخل التكوين،فالعين اليسرى تستجمع في حدقتها كيانا ً مخبوءا ً ومحميا ً كمقاربة لشكل رجل ما قد يكون شكل الحبيب، لكنها إذ تلونه بالأحمرالناري فلا تنجر إلى المعنى الشعبي لمعنى العين الحمراء ، لكنه الاحتراق النبيل .
من جانب آخرلجأت الفنانةإلى وضع كتلتين متناضرتين لكنهما ليستا متشابهتين وبنسرح اللو ن الأحمرعلى الشعرواللون الأخضرعلى الشعر أيضا ً من الجهة المقابلة كأن الحريق لايقدر أن يطال النماء والخضرة مهما كانت المساحة بينهما سوداء ومحترقة، فهما ضفتا ذلك الوجه الكيان الرمزي لما هو أكبر من ذاتيته المنظورة .
كما لجات الفنانة الى جعل المقلة اليمنى في مواجهتنا وهي اليسرى في وضع اللوحة، تلتمع بالأخضر كأنها أنعكاس له.
لماذا صارت المساحة التي تحتلها كيانية الوجه والشعر كما لو كانت عمارة في بيداء، إذ تنقسم الخلفية أوما ظهر منها وما تبقى على هيئة مستطيلات متوازية من البني أو الأحمر المحترق او المسود إلى الدكنة ودرجاتها الأخف وصولا ً إلى الرمادي الفاتح، كأن هذا الوجه هو نصب حياة يقول ويحكي عبر ذلك الوجه الذي تشتعل فيه العينان ويشتعل فيه الفم بما يوحي بتلك البصمة التي تتركها القبلة لكنها تاخذ شكل جسد يمتد أفقيا ً بين الشفتين .
أما الأخضر الذي يزين الطرف الأغرمن الشعرفقد أخذ شكل الطيركما لو كان رمزا ً لطيرالسعد في الميثولوجيا الشعبية، لكنه هنا طيرواقف على هيأة بشرية يراقب ويحمي ويتصل ويتواصل، وفي داخل تلك المساحات تشتغل رملة على تحريك الدرجات اللونية من العتمة كمقارب للعمق إلى الفواتح كمقارب للضوء في توازن متناغم لايؤثرعلى العمق الذي توحيه النظرة الذي صاغتها الفنانة هنا بدرجة 180 كأن عينا هذه السيدة هما نقيض ميدوزا تعيدان للمرأة الآمل الذي تنظر إليه وإن كان بعيدا ً وربما تنتظره في المحال الجميل .
وعلى الضد مما هو مألوف تضيء الفنانة القسم السفلي من الوجه حتى منحدر الرقبة وتجعله أقرب إلينا من ذلك السواد الحزين ..
تقنيا ًأيضا ًأوجدت رملةالجاسم تضاريس متداخلة وعرة في مسطحات هذا الوجه-المدينة، هنا أوهناك ، حتى وإن بدت غير ظاهرة كي لاتشوه كيانية المرأة كرمز عظيم، في هذه اللوحة كما لو كانت كيانية المرسومة تبث طاقة مشاعرمعروفة بملمس متنوع كما لوكانت وطنا ًعزيزا ًأوأنزلته الحياة إلى موطنها.
هذا الوجه باب وحجاب.. و هو باب الطلسم أيضا ً .
