الإشعاع القاتل ..إبراهيم سبتي
Tue, 22 Nov 2011 الساعة : 14:11

القصة ببساطة : ان التلوث الاشعاعي في العراقي نتج عن استخدام قوات التحالف المفرط في الحربين الأخيرتين للاعتدة المحتوية على اليورانيوم المنضب القابل للاشتعال والتدمير والاختراق وثانيا ما حدث بعد عمليات السلب والنهب لموقع التويثة النووي في جنوب بغداد بعد سقوط النظام في 2003 . وقتها تلوث الهواء والماء والتراب والزرع ، مما سيدوم تاثير التلوث لعشرات الاجيال القادمة .واعتقد جازما بان جنوب العراق يعد اليوم ، من أكثر مناطق العراق تلوثا بالإشعاعات بعد حربين ضروسين استعملت فيها الأسلحة المتطورة الفتاكة والتي تسمى وفق الحسابات العسكرية بالأسلحة الذكية التي تفوق قدرتها ، مئات المرات قدرة الأسلحة التقليدية التي استخدمت في جميع الحروب الإقليمية والدولية قبل عام 2003 . ويبدو واضحا ان المكننة العسكرية الفائقة تحاول دائما فرض لغة السلاح في اية مواجهة ومع أي خصم مهما كان حجمه . ويتطلب في هذه التقابلات استخدام أسلحة غير مسبوقة ومصنوعة بدهاء ومكر و تحتوي على اعتدة اليورانيوم المنضب كشرط لبقائها مهيمنة وفتاكة كما حصل في الحرب الاخيرة على العراق قبل ثمان سنوات ، حين جرت المعارك على أرضه وسمائه وكانت الحصيلة اندثار كامل للمعالم الصحية المساعدة على بقاء البشر أحياء وخاصة في الجنوب العراقي الممتحن بالحروب والموت بالجملة . فالزائر اليوم متنقلا بين محافظاته ، سيرى مخلفات الحروب مدمرة و مبعثرة على الطرق الرئيسية وخاصة مدخل مدينة البصرة من جهة الناصرية ومدخل الطريق الصحراوي بين السماوة والحدود السعودية ومنطقة الفضلية قرب الناصرية ومناطق اخرى موزعة بين مدن العمارة والبصرة .. واعتقد ان مدينة الناصرية من اكثر مناطق الجنوب تلوثا بالإشعاعات لكثرة الآليات العسكرية المدمرة ولقربها من مخازن الخميسية الضخمة التي ضربتها قوات التحالف في عام 1991 وتركتها مدمرة تتبعثر في ارجائه مئات الاطنان من اليورانيوم المنضب على شكل اعتدة وحاويات وسبائك ، مباحة للسلب والنهب والتدمير العشوائي ، فكان النهابون يفرغون المحتويات ليظفروا بالعدد والأواني والبراميل وقدور التصنيع المعدنية والحاويات لتأخذ طريقها الى الاستعمال المنزلي او لبيعها في الاسواق وبعضهم استعملها لخزن مياه الشرب والحليب . والخميسية موقع صحرواي شاسع يقع شمال الناصرية من جهة البصرة و لعبت الريح الصحراوية المستمرة دورا قاتلا في نقل التلوث وصارت كل الأراضي الرملية وكثبانها ملوثة بإشعاع اليورانيوم المنضب حتى اللحظة . وقد أحصت مؤسسة الأبحاث الهولندية المستقلة ان الجيوش الأمريكية والبريطانية وباعترافهم قد استخدمت ما بين 700 - 800 طن من اليورانيوم المنضب ضد العراق خلال حرب الخليج الثانية عام 1991م إلى جانب الأسلحة الكيماوية والبيولوجية ضد الأهداف المدنية التي كان يعتقد انها اماكن عسكرية او مخازن عتاد واسلحة . وعمل هذا الكم الهائل من الاعتدة على نشر المواد ذات النشاط الاشعاعي في اراضي ومياه كافة المناطق التي ضربت به . وكان لاستخدام مثل هذه الأسلحة عامل في انتشار التلوث الاشعاعي في المناطق السكنية في المدن او المناطق المحيطة بها . إضافة الى تلوث التربة وتعرض السكان وخاصة في جنوب العراق لتلوث غير مسبوق بالاشعاع القاتل اخذ يظهر بمشاهد مخيفة وساهم في ارتفاع معدل التشوهات الولادية الغريبة وارتفاع حالات الاجهاض لدى الحوامل وكثرة انجاب الاطفال المنغوليين والمشوهين والإصابة بالتضخم الكبدي والاعتلال العصبي والعضلي وسرطانات الدم والغدد اللمفاوية والثدي والرئة. وقد لفتت الانتباه مؤخرا عمليات استئصال الثدي بصورة مثيرة في جنوب العراق يعود الى تعرض النساء لإشعاع اليوارانيوم المنضب جراء الحروب المتواصلة سواء عن طريق التنفس او بصورة غير مباشرة عبر وسائل متعددة . يقول احد الجراحين الأخصائيين العراقيين في أمراض الثدي ( في السابق كان سرطان الثدي في الغالب يصيب النساء اللواتي يجتزن مرحلة سن اليأس أي في الخمسينيات من العمر لكننا الان نجد ان هناك شابات في الثلاثينيات من أعمارهن أو حتى اقل من هذه الأعمار يصبن بسرطان الثدي!! ) .اما في الحرب الاخيرة فكانت الطائرات تقصف كل الدروع المتحصنة بين البيوت في المدن ، وعلى مقربة من بيتي رأيت ثلاثة مدافع ثقيلة عراقية متموضعة بين البيوت ُتضرب من الجو وظلت رائحة البارود الغريبة تملأ الفضاء من حولنا لكثرة القذائف التي اطلقت عليها . فكانت البيوت افضل حاضنة للتلوث الإشعاعي سيما ان الآليات الحربية للنظام خلال الحربين الأخيرتين ، كانت تختبيء بينها مما اشبع تلك المناطق تلوثا مباشرا أثناء المعارك .وقد كثرت حالات الإصابة بأمراض غريبة لم تكن معروفة في مدن الجنوب العراقي يستطيع الرائي ان يميزها في الشارع . اذ يمكن مشاهدة هذه الحالات بوضوح وهي تجوب لا حول لها ولا قوة . فضلا عن وجود حالات جديدة من المتخلفين عقليا والمشوهين ، لم يكونوا موجودين سابقا وهم يفترشون الأرصفة والساحات والأسواق وتتراوح اعمارهم بين سني الطفولة و المراهقة . ناهيك عن الولادات الغريبة والعجيبة في المستشفيات التي تعودت على مشاهد الغرابة هذه وصارت بحكم المألوف . وفي ولادات مروعة رأينا أطفالا دون أطراف او ضمور في الرأس او خسوف في الرأس او احتفاء الأعين أو الأنف .. انها بوادر التلوث الذي ينذر بخطر الكارثة المتوقعة في جنوب العراق مستقبلا سيما ان التلوث دخل في الأرض والماء والزرع والاشجار وفي ثقوب الحيطان وأصاب الأجنة في البطون وخرّب الجينات الوراثية وهو ما سيؤثر على سلسلة الاجيال اللاحقة . وأثر هذا النشاط الاشعاعي على تفاصيل الحياة دون ان يترك شيئا إلا ولوثه . في نهاية التسعينيات بدأ العمل في اعادة تأهيل احد الجسور الحديدية المقصوفة بالطائرات الاميركية في مدينة الناصرية وتطلب الأمر ان يبنوا جسرا خدميا صغيرا لعبور المشاة يبعد عشرة امتار عن الجسر المقصوف ، لقد روعني احد اصدقائي الاطباء حين قال بأن العابرين يوميا على ذلك الجسر الصغير ربما يصابون بتلوث اشعاعي مستقبلا جراء وجود انقاض الجسر السابق المدمرة الغائصة في النهر واحتفاظ الهواء بالإشعاع لسنين طويلة لان الجسر مضروب بقنابل مشعة . أي شعب في العالم يتجول بين ركام الموت يوميا ؟ وهكذا نحن نتصارع مع الإشعاعات في حياتنا اليومية المعتادة فأنى نتوجه نجد التلوث أمامنا وآخر صرعات التلوث المعاصرة هو انتشار ابراج الاتصالات لشركات الهاتف المحمول فوق السطوح وخدمات الانترنت!!تقف فوق سطوح المنازل لقاء اجور مغرية .. تخيل اننا نسكن ونأكل ونمشي وسط دائرة إشعاع ناتج عن التردد الراديوي لهذه الابراج المنتشرة في الاحياء السكنية والتي تظل أخطارها التلوثية مثار جدل بين متطلبات العصر والتقنية وبين ما يصيب الناس من مخاطر وتقول إحدى نشريات الصحة العالمية بأن ( المنظمة الدولية للوقاية من خطر الإشعاعات، هي المسؤولة عن مراقبة جميع الأبحاث التي تنشر في كل أنحاء العالم في هذا المجال، وتقرر التوصيات واللوائح فيما يتعلق بالإشعاعات الصادرة من ابراج الاتصالات ، وهي تأخذ التوصيات واللوائح في الحسبان لأعلى مستويات الطاقة المسموح بها ..هذا كلام منطقي ولكن اين هو في العراق ؟هل يتصور العقل البشري ان بعض العراقيين يشربون الماء ويأكلون في أوان ملوثة إشعاعيا ). والمصيبة ان بعضهم سوّق فعلا حليب الحيوانات في هذه الأواني والبراميل التي غنمها من مناطق ملوثة الى معامل تصنيع الاجبان والألبان وخاصة في بغداد !! هذه الملوثات وصلت بعد عمليات السلب والنهب، التي طالت المواقع النووية العراقية، وخاصة موقع التويثة وأدت الى سرقة الأواني المعدنية والقدور والبراميل والصناديق المعدنية الحافظة للملوثات الصناعية . والكارثة المميتة ان الناهبين سكبوا المحتويات في المجاري والحدائق والشوارع والأنهار لأنها غير مفيدة ولا تباع في الأسواق !! أي قدر هذا ؟ويبدو ان النشاط الإشعاعي لا يظهر للعيان فورا ، بل انه يتغلغل في الجسم بطيئا ويؤدي الى اصابات اكثرها قاتلة وهذا ما يفسر الموت المفاجيء للعراقيين والإصابة بأمراض الانفجار الدماغي والجلطات الدموية والضغط وانسداد الصمامات والربو وفقدان الشهية وفقدان البصر السريع والكهولة المبكرة وعجز المفاصل ونحولها ونقص الوزن وخفة الأعصاب والتخلف العقلي والكآبة.. ويشهد معهد الطب الذري في بغداد ومستشفيات النساء والولادة في المحافظات وخاصة الجنوبية ، كثرة المراجعين المرضى ممن يشكون من حالات غريبة لم يألفها الطب عندنا تتعدى كافة المعلومات التي يعرفها الأطباء ، انها غريبة حد الكارثة إضافة الى مشاهد التشوهات الولادية العجيبة والمخيفة .. وهل يمكن ان نرى ان مدنا عراقية ستسكنها الاشباح يوما ما بدلا من البشر ؟ هذا ما جنيناه من حروبنا المستمرة وقتالنا للأعداء دائما !! انه الموت المنسي حقا ..