هل يعود حزب البعث لحكم العراق؟-عاطف العزي

Sat, 5 Nov 2011 الساعة : 14:01

كنت فى لندن عندما نشبت الحرب بين بريطانيا والارجنتين فى نيسان/ابريل عام 1982 ، وأعلن المذيع من احدى القنوات البريطانية عن مقابلة صحفية مع رئيسة الوزراء (مارغريت ثاتشر) للاجابة على أسئلة الصحافيين حول تلك الحرب. وظهرت رئيسة الوزراء وهى جالسة على كرسي عادي جدا وأمامها يجلس عدد قليل من المراسلين ، وفورا بدأ النقاش الهادىء بدون مقدمات أو موسيقى عسكرية حماسية صاخبة ولم يشاهد أحد رئيسة وزراء بريطانيا العظمى تهدد وترغى وتزبد او تنطق بعبارات نابية ولم تتعدى مطلقا حدود الأدب عندما حذرت (صدام) على اعتداء جلاوزته على الملحق التجاري البريطاني فى بغداد ضربا وركلا ، فكان رد صدام (التأريخي) عليها بقوله (هي بسطة وراحت) ووصفها بالعجوز الشمطاء!.
قارنت ذلك مع ما كان يحدث فى بغداد عندما كان (القائد الضرورة) يلقى خطابا (تأريخيا!)، فيسبق ذلك عزف متواصل لموسيقى ال(مارش) العسكرية وأناشيد حماسية لمدة ساعتين فى الأقل ، ويظهر المذيع ليقول: (جميع محطات الاذاعة والتلفزيون العراقية تنقل اليكم خطابا تأريخيا للسيد الرئيس القائد حفظه الله تعالى ورعاه، فنسترعى الى ذلك إنتباه السادة المشاهدين والمستمعين) . وبعد حوالى الساعة يظهر كبير المذيعين ثم مدير الاذاعة والتلفزيون ثم وزير الصحافة والاعلام وكلهم يعلنون عن هذه (المكرمة)، وأخيرا يظهر القائد حارس البوابة الشرقية وقد شمخ بأنفه الى السماء، ويتكلم ببطء وتعجرف وكبرياء عن مواضيع لا تهم المشاهدين ولا المستمعين الذين يتحرقون لانتهاء خطابه (التأريخي) ليعودوا لمشاهدة المواد التلفزيونية والاذاعية التى قطعها ذلك الخطاب. لم يكن صدام حسين الوحيد فى هذا التصرف ، بل كان هناك غيره من أمثال كاسترو الذى يتحدث ساعات وساعات عن الحصار الأمريكي لكوبا ، وشعبه أفقر شعب فى أمريكا الجنوبية . وفى العالم العربي برز المقبور معمر القذافي المعتوه الذى كان الكثير من العقلاء يتتبعون خطبه (العصماء) لغرض الترويح عن النفس بما يسمعونه من أقوال الأخ القائد التى تضحك الثكلى لسخافتها وضحالتها.
أما رئيس الوزراء العراقي السابق الدكتور اياد علاوي فخطاباته مختصرة مثل الخطاب الذى ألقاه أمام الكونغرس الأمريكي وشكر فيه أمريكا على تحرير العراق من حكم صدام . وتكاد خطاباته تقتصر على التهديد والسباب الذى يوجهه فى كل مناسبة لرئيس الوزراء الحالي السيد نورى المالكي الذى لم أسمعه ابدا يذكر اسم الدكتور بسوء او يرد على شتائمه . هم الدكتور الأكبر وشاغله الوحيد هو عودته الى منصب رئيس الوزراء. لى صديق طبيب عراقي ذكر لى أن الدكتور علاوي الذى كان يدرس معه فى كلية الطب ببغداد ، كثيرا ما كان يفرض رأيه على بقية الطلاب بقوة عضلاته وجرأته التى أهلته للحصول على منصب رفيع فى حزب البعث العراقي . ولكنه اختلف مع صدام فترك العراق الى بيروت ومنها الى لندن فى عام 1972 . وفى عام 1973 انتخب مسئولا للتنظيم القومي لحزب البعث فى اوروبا الغربية ، ولكنه استقال رسميا فى عام 1975. وفى 28/6/2004 عينه بريمرالحاكم الأمريكي فى العراق آنذاك كرئيس للوزراء. وعلى عهده وكما هو معروف قام صديقه وزير الدفاع حازم الشعلان بسرقة 500 مليون دولار وحكم عليه غيابيا بالسجن لمدة 7 سنوات. كما قام وزير الكهرباء أيهم السامرائي والنائب مشعان الجبوري فى نفس الفترة بالهروب من العراق بعد أن أخذا حصتيهما من الغنيمة من الخزينة العراقية. كل هذا وأكثر جرى فى عمر وزارة علاوي القصير. انى لا ألقى باللوم عليه ولكنى أريد أن اقول ان خزينة العراق مشرعة أبوابها لذوى الأمر الجدد من وزراء ونواب ومعارضة ورؤساء كتل وقادة ميليشيات معممين وحاسرين ليغترفوا منها ما يشاؤون ووقتما يحبون. وبعد افتضاح السرقة وهروب السارق يسارع الجميع الى اتهام خصومهم بالاهمال بل وحتى الاشتراك فى الجريمة ، وتمضى الشهور والاعوام وتنسى الجريمة ومرتكبيها الذين يعيشون فى بحبوحة من العيش مع عوائلهم فى بلدان بعيدة وقريبة ولا تبكتهم ضمائرهم ولا يخطر ببالهم العراقيين الذين لا يكادون يجدون ما يسدون به رمقهم .
البعثيون الذين هربوا مليارات الدولارات من الخزينة العراقي وعلى رأسهم عائلة (سيف العرب) صدام قبيل وبعيد دخول الأمريكان الى بغداد لم يكتفوا بما هربوه بل ان أحلام العودة لامتلاك العراق تراودهم فى يقظتهم ومنامهم ، ويصرفون من أموال الشعب المنهوبة لازالة الحكم الديموقراطي الجديد وعرقلة جهود المخلصين للنهوض بالعراق من كبوته.
فى هذه الأيام وبعد صدور الأوامر باعتقال البعثيين الذين يتهيئون للوثبة على الحكم حالما ينسحب الأمريكيون، انطلق البعثيون القدماء من أمثال علاوي رئيس القائمة العراقية وصالح المطلك نائب رئيس الوزراء وكيل سجودة زوجة صدام الاولى ومن لف لفهما وطالبوا في 24 تشرين الأول/اكتوبر 2011 رئيس الوزراء بإيقاف الاعتقالات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية في بغداد وبعض المحافظات وإطلاق سراح المعتقلين، معتبرة إياها "غير قانونية"!!. والمعروف ان المعتقلين هم أساتذة فى جامعة تكريت وضباطا كبارا من أعوان صدام القدامى، ولا أظن ان هذا جرى إلا احترازا لما قد يفعلونه عند انسحاب الأمريكان. (اثناء كتابة هذه السطور ذكرت الأنباء أن معلومات كانت قد وصلت الى الجهات الأمنية العراقية تفيد بعزم البعثيين على القيام بانقلاب على الحكومة الحالية) . يتذكر المسنون منا كيف كانت الشرطة فى العهد الملكي تعتقل النشالين واللصوص المعروفين قبيل أيام الأعياد وتحتجزهم بصورة وقتية حفاظا على راحة وسلامة المواطنين فى ايام الاعياد. النشالون واللصوص فى ذلك الوقت كانوا يكتفون برشوة ضئيلة ويقنعون حتى بدرهم واحد (واشر) او دينار واحد (ابو البايمباغ) ، فكيف تسكت الجهات الأمنية الحالية على من سرقوا أموال الشعب طيلة أربعين عاما من حكمهم الدموي؟ البعثيون لهم ماض غير مشرف فهم يسعون وراء الحكم ولا يهمهم الثمن حتى وان كان هلاك العراقيين ودمار بلدهم ، فعندما اتيحت لهم الفرصة فى شباط الأسود من عام 1963 قاموا بانقلابهم على أشرف من حكم العراق (الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم) وقتلوه وقتلوا الألوف من معارضيهم ونهبوا الأموال وانتهكوا الأعراض ، حتى انقلب عليهم صديقهم بالأمس المقبور عبد السلام عارف ، فلم يمكثوا فى حكمهم الا شهورا قلائل. بعدها عادوا وانقلبوا على أخيه عبد الرحمن وأنهوا الحكم العارفي فى السابع عشر من تموز/يوليو 1968 وجرت الدماء فى شوارع بغداد ومدن العراق الأخرى مدرارا. فى بداية حكمهم الثانى أوهموا الناس بأنهم قد غيروا خططهم السابقة وانهم قد تعلموا من أخطائهم ، ثم تبين بعد ذلك انها مواعيد كاذبة وما كانوا ليطلقونها لو لم يكونوا ضعفاء فى وقتها.
وبعد أقل من سنة على إغتصابهم الحكم فرضوا على العراقيين ما سموه بالاشتراكية والتى ظهرت حقيقتها انها ليست الا نهب البلد والسيطرة على كل شيء ومطاردة المعارضين لهم وقتلهم بدون رحمة بعد إذاقتهم مر العذاب . لم يكن أحمد حسن البكر (الأب القائد!) سوى واجهة لحكم صدام الذى ازاحه فى الوقت المناسب ليفتتح عهده بقتل أصدقائه وأعدائه وكل من شك بولائه له دون رحمة . ثم حاول رشوة أمريكا فأعلنها حربا على عدوتها ايران دامت 8 سنوات عجاف قتل فيها مليونا من العراقيين وجرح ملايين آخرين ناهيك عن جيوش الأرامل واليتامى والمقعدين، ودمرت البنية التحتية للبلد، وختم تلك الحرب الحمقاء بضرب الأكراد فى الشمال بالغازات السامة وقتل ألافا مؤلفة منهم ومسح مئات القرى من الوجود.
شعر (حارس البوابة الشرقية) بغلطته فحاول اصلاحها بغلطة أكبر فقام بغزو الكويت التى شجعته على الحرب مع ايران ، وفسح بذلك المجال للأمريكيين بالحضور المكثف فى الشرق الأوسط ، وبدأ العد التنازلي لسقوطه. أنذره الأمريكان وطلبوا منه الانسحاب من الكويت ، فكان يراوغ ويخاتل ، فقام بوش الأب بالهجوم على الجيش العراقي فى الكويت وتدميره كليا وهو فى طريق انسحابه الى البصرة . كان بوش الأب أذكى من ابنه فقد وافق على نصيحة بعض الحكام العرب بأن يتوقف الجيش الأمريكي عن الزحف على بغداد لأن القضاء على صدام يعنى انهيار الجدار الفاصل بينهم وبين ايران . وقامت ثورة المعارضين لحكمه فى الجنوب ، فأرسل حرسه الجمهوري للقضاء على الثوار الذين اتهمهم بالعمالة ليران وقتل عشرات الالوف منهم ودمر المئات من القرى على رؤوس أهلها ، دون أن تتدخل أمريكا ولا الدول العربية التى وقفت موقف المتفرج المتشفى.
وبسبب فرض الحصار على العراق فقد أصبح العيش فيه جحيما لا يطاق ، وارتفعت نسبة وفيات الأطفال بشكل لا مثيل له لسوء التغذية وفقدان الأدوية ، وغادر العراق كل من سمحت له ظروفه بالمغادرة ومن بينهم الأطباء والمهندسون وأساتذة الجامعات والعمال المهرة . إحتفل صدام بهذا (النصر) الذى أطلقه على تلك الهزيمة الشنعاء بالشروع ببناء القصور الفخمة التى جلب لبنائها الرخام الفاخر من ايطاليا وغيرها والشعب يتضور جوعا، وانخفض سعر الدينار العراقي من ثلاثة دولارات أمريكية الى أن أصبح الدولار الواحد يعادل 3500 دينار عراقي .
انتخب بوش الابن رئيسا للولايات المتحدة ، وقام انتحاريوا القاعدة المجرمون بنسف المركز التجاري العالمي فى نيويورك فى 11 ايلول /سبتمبر 2001، وبعث صدام الى بوش برسالة تعزية على الضحايا ظنا منه أن بوش سيرفع الحصار عن العراق ويعود اليه مجده الضائع . ولكن بوش كان قد ضاق ذرعا من مناورات صدام للمفتشين الدوليين الذين كانوا يبحثون عن أسلحة الدمار الشامل ، فقام بالهجوم على العراق ، وتسابق صدام وجنوده للهرب وخلعوا ملابسهم العسكرية . وحصل بعد ذلك ما حصل من العثور عليه فى الحفرة وتقديمه الى المحاكمة وإعدامه بعد حوالى 3 سنوات من إعتقاله.
إن ما فعلته الحكومة العراقية بضربتها الاستباقية للبعثيين ممن أولغوا بدماء العراقيين هو عين العقل ، فقد علمنا التأريخ أن التساهل مع هؤلاء المجرمين يعنى عودتهم للحكم ، وإن عادوا -ولن يعودوا- فستحل بالعراقيين كارثة أكبر من كل الكوارث التى اصابتهم حتى الآن

Share |