عصافير ..تبحث عن ورود الدالية/ الكاتب كريم شلال
Thu, 19 Jan 2017 الساعة : 9:17

من كتابي الجديد " مكاشفات نقدية " الصادر عن دار البصائر لبنان / 2017 / الكاتب كريم شلال
قراءة في " رائعة مجدولين "/ لنادية عزيزة
شاعرة عراقية مغتربة / السويد
تعد المجموعة الشعرية " رائعــــــــــة مجدولين " " لنادية عزيزة " ، الصادرة عن / دار ميزوبوتاميا / بغداد / ذات الحجم المتوسط / وباوراق بلغ عددها ( 122 ) ورقة ، نسغ وجد يبوح بظلامات النفس القاهرة لسوداوية الليالي التي تناثرت بين قصائدها اكثر من ( 20 ) مرة والتي قهرتها باحلامها التي طفحت بها كلماتها لاكثر من ( 12 ) مرة ، معززة لها بتلك الصباحات المهلهلة بورود الدالية والياسمينات وحبات الهال ، كمعادل موضوعي لتلك الليالي المتناثرة في قصائدها ، فجاءت مجموعتها ، بمثابة الابحار في لجج الغربة والابتعاد عن احضان الوطن ، الذي اينع انكسارا قاسيا ، قسريا ، تحسسته كجرU
… وعقدة ذنب ، اشبه "بعقدة " مجدولين " فظل ذنبها بل غربتها انفاسا مختنقة ، محتضرة ، لاتنعشها سوى ثمالة الاوطان الباردة بكل حيثياتها ، فاظهرتها جملا شعرية مملوءة بالمفارقة والدهشة والتضخيم بعد تجسيد وقع رهيب حيث الاحلام باتت كاعجاز نخل خاوية بل نعوش تسير بلا حراك ، وهي تصرخ (صغيرة هي احلامي ) :
ويبقى حلمي
حلم الامس والصباح
نعشا اراه كل يوم
راقدا
حلم الامس والصباح / ص98
لذا ظلت روحها تطوف فوق ثرى ذكرياتها البريئة المحفورة في ذاكرتها التي لم تفارقها كحوارات تسوقها لتشكيل جملتها الشعرية ، محاولة بها كسر رتابة التكرار مبتعدة عن اعادة النموذج التقليدي السائد، فظهرت قصائدها مشحونة بالحنين الى مواطن صباها لتسجل غربة تتمظهر هنا وهناك ، وان كانت تحاول التستر عليها بزج "شذى بخورها وياسميناتها وورودها الداليـــة "وهي محاولة لانعاش امكنة الحزن والغربة ، ولعل هذا الاحساس ، شعور حمله الإنسان في جوانحه على مر العصور , كمرآة عاكسة لما يجول في خواطر الشعراء فتبين كل مظاهر ( الاغتراب ) التي يعاني منها الشعراء , و تباينت هذه ا
لمظاهر في كل مكان و زمان .
إن الاغتراب بات مشكلة عصرية تفرض نفسها في كل مجالات الحياة , واضحى موضوعا أساسيا في كل الدراسات الأدبية و الاجتماعية و الفنية و غيرها حتى أصبح الاغتراب أو فقدان الحريات علامة مميزة لهذا العصر, و أكد علماء الاجتماع أسباب هذه الظاهرة التي باتت احد سمات العصر .
إن التطور في المستوى الاقتصادي قد يخلق نوعا من الاغتراب يؤدي إلى خلق الاضطراب في المعيار الاجتماعي و الأخلاقي , حيث وصف ( شاخت ) الاغتراب بأنه : شعار العصر , حتى بات الإنسان غريبا عما يدور حوله. لذا عد الاغتراب بذلك ظاهرة مرضية للإنسان , نتيجة لكثرة الحروب و الصراعات التي انعكست سلبا و زادت من ضياع الإنسان , و ضعفت من ارتباطه بأرضه , و شكلت له يأسا و إحباطا . و الشعراء لم يكونوا بمعزل عن ذلك , فهم أكثر الناس تحسسا لما يدور حولهم , فلحقت هذه الظاهرة بهم أكثر من غيرهم . لذا تجلى ذلك الوجد في ليل " نادية عزيزة جليا عند سكون ليلها ومناجاته بجنون تقول :
انني قررت ان اعيش
مع سكون الليل
ان اقتلك في حلمي القمري
ان اضمك الف مرة بجنون
هذا هو حقا ما اسميه
جنونا ... جنونا
القرار / ص87
لذا قد تضطر ظروف الحياة القاسية بعض الشعراء و الشاعرات فراق الأهل و الصحب و الديار , فينبثق من ذلك المكان البعيد الشوق إلى من أرغموا على مفارقتهم و مغادرتهم , فيجري ذلك الشوق حنينا ملتهبا تصور فيه العواطف الصادقة فيحن الإنسان عموما و الشاعر خصوصا – بفطرته التي جبل عليها – إلى كل من يحيط به:
صمت المكان يسحرني
حبات المطر المتهاوية بضجيج السماء
تسجد راقدة عند قدمي
تجعلني سيدة المطر
سيدة المطر / 83
لذا بات من البديهي ملاحظة الحزن في الشعر العراقي المعاصر , و يبدو ذلك جليا للمهتمين بهذا الضرب من الأدب , لروايتهم العميقة بأسبابه , اذ بات محورا أساسيا لأغلب قصائد الشعراء المعاصرين و منهم الشاعرة ( نادية عزيزة ) تقول :
حزنا
فرحا
الما
اشياقا
دمعا
حنينا
عشقا
جنونا
اثواب السماء ونواقيس الغيم / ص65
مفردات حزن تناثرت عير قصائدها ،لتحيلها الى جسد نحيل عاري :
ااااه من رجاء وحنين
وشاحا يلف جسدا عاريا
سقط سهوا في محرقة التاريخ
نرجسيات العقل / ص16
و يعزى ذلك إلى أنهم صاروا يلحون على إبراز جانب واحد من الحياة , هو جانب القتامة فيها , و أنهم يغمضون عيونهم عن جانب البهجة كما تجسده "الشاعرة في " استئذان .. ريح عمياء "
الحياة حفرت
في قلبي ادغالا
لاتستطيع ان تحرقها
بنت قصورا
من حجر الصوان
لاتستطيع ان تدفنها / ص 36
الا ان هناك من يؤمن إن هنالك سببا أخر لهذه النزعة , اذ يرى الدكتور عز الدين إسماعيل : ( و هي ليست إلا تأثرا بإحزان الشعر الأوربي الحديث الذي عاين طغيان الحضارة المادية على الروح الغربي , خاصة في القرن العشرين) . اضف اليها كثرة الحروب و الويلات التي عانى منها ( العراق ) , فكان لهما الأثر الواضح في إطفاء طابع الحزن عن البهجة في اغلب قصائد الشعراء .
و في عودتنا إلى طفولة الشاعرة ، قد نجهل الكثير عنها . ولكن ما تنثره في ثنايا نصوصها يؤكد انها عاشت طفولة متلبدة بغيوم الألم و القلق , فباتت و ظلت حياتها مأساوية حزينة , اضافة الى ماعانته من غربة قاسية ، فلم تحظ بأسباب هدم أسوار حزنها العميق , لذا تولدت لديها نفسية قلقة مرتبكة و حزينة . حيث يظهر ذلك كرؤية تجسدها لياليها المظطربة بين ليل يحمل اسرارها نابضا بدفقات قلبها :
اتى الليل
حاملا مهخ كل اسرارنا
مازال ذلك الرجل يغريني / ص89
في كل ليل
مازال قلبي ينبض / ص91
لكن سرعان ماتتوارى الاسرار ويخيم الحزن على ليل الشاعرة ويصبح ليلها اخرس غير ناطق :
الليل اصبح اخرس
يولد من رحمه
الم
صغير
حزين/ توت المطر / ص99
وهكذا تختلط ايام الشاعرة بعد مزاوجة غربتها بمرارة حزنها، ويظهر ذلك بنفس
ملبدة بالغيوم ، غيوم حبلى بالاغتراب ، غيوم محملة بالحان وتواشيح حزن وتراتيل قداديس تسير وتتساءل :
أي جنوب نحن
شرق ؟
غرب؟
في قعر باطن الارض ؟
ام اعالي السماء نطير
سيد الفصول / ص8
حيرة تنتاب النفس ..او عقدة ذنب ، فالمكان مقفر ، تيه بابعاد الارض ، واحداق الشمس ، فالصباح يغدو بلا ملامح الجمال " الم .. اهات " انفاس معلقة بروح الياسمين ، لكن " المها " لموطن هجرته عنوة ، وصبابة فارقتها مضطرة ، لتظل راقدة بخمر سحرها سكرا بين شفاهها :
وطنا وعشقا
تاريخا وحضارة
كلها في ذلك الالم الجميل
نرجسيات العقل / ص14
وهكذا تتشابك خطوط الاغتراب وتتقاطع الاحزان ، الى حيث مسارب الحياة الشائكة لتلوذ في " الاديرة " تتعبد ، يشموع مضاءة في ضريح سماوي ، لترسم خرائط تاريخها شموعا تنير الق نفسها الموغلة في الحزن والمصير المؤلم:
الا
من
حمله القدر
لذلك المصير
رجل اكسير الحياة / 114
ان نفس الشاعرة التواقة الى النزوح حيث مرابع صباها ، لتلفظها زفرات تستعر، بل نارا قائدة ، وما تكرارها للاهات الا تجسيدا لعظم المها :
اااااه من رجاء وحنين
وشاحا يلف جسدا عاريا
سقط سهوا في محرقة التاريخ
نرجسيات العقل / ص14
ماتريد تجسيده " نادية عزيزة" ، شدة لهفتها واغترابها كاهات وزفرات تتوشح قصائدها ممزوجة بحرارتها ، لعلها تفرغ بها شحنات حيفها ، وتوشح بها جسدها العاري بنسيج احزانها تارة ، واخرى بالحان من قيثارتها " ماجدولين " لعلها تجد عزائها وصبرها فترسله حيث موضع صبرها " وطنها " :
بعيدا
بعيدا
صباح
نرجسيات العقل / ص15
بعد ان يتراءى للشاعرة ضبابية القادم وغرابة الايام ، حيث تتلاشى الافراح ، فتمد يدها للملمة رعاشات الصدى من الكون الفسيح الذي مقتته برغم جماله ، فهو محرقة لروحها :
ااقول اعشقك
لا ياسيدي ... اسفة
اني فقدت الاحساس بالعشق
وكل نرجسيات العقل
نرجسيات العقل / ص15
حيث تختزن عشقها لعاشق احبته من الوريد الى الوريد احتل الروح واحتضن الجسد وتصرخ ( احبك ..... يا ااااااانت ) :
احتللت انت
جسدي
روحي
نعشي
شواهد قبوري كلها
كتبتها انت بخط يديك
عاشقة لك ...
من الوريد
الى الوريد
نرجسيات العقل / ص16
بل هي مسامحة له ، فهو طفلها المدلل " صغيرها " وان هرم من عاديات الايام وهكذا تشتد لوعة وولها وحنينا، بل اشوقا معتصرة " كحبات الرمان " شعور قاس تمر به " نادية عزيزة " تظهره جلدا قاسيا للذات المغتربة ــ قسريا ــ كالحان حزن مغازلة لقطرات الندى ، ليترءاى ايقاعا يلملم اشلاء نفسها :
نغزل قطرات الندى
كمسبحة من لؤلؤ وحرير
تعزف بانامل من ياقوت
لحنها الشجي
فتسافر الحانها
بعيدا
بعيدا
رائعة مجدولين / ص27
وان كانت الشـاعرة منشرحة الروح و النفس , لكن حزنها لا يفارق ملامح وجهها مهما حاولت الاجتهاد بذلك وهو حزن مركب منبثقا من واقعا عبورا لاحلامها:
طيف وواقعا حزينا
لم اشــــأ / ص81
بعد ان ظلت تعيش من غربة إلى غربة ، ومن عزلة الى عزلة أخرى، حيث كانت تنزوي بأوراقها في زاوية بعيدة عن الضجيج اللغوي المختلف قاموسـه لقـد اختـارت الانقطـاع و الاعتـزال ايفاءا لقصيدتها , فهي تعيش دوامة الحيرة وفيوضات الاسئلة فتلوذ بصمتها :
جن جنون الاسئلة
والحيرة والشوق والحنين
تعب السؤال
منك
من حولنا
فسكنت الصمت
توت المطر / ص100
وان تعيش مع سكون ليلها ، قرار تتخذه كمعادل لحيفها وقبر لالامها:
انني قررت ان اعيش
مع سكون الليل
القرار / 87
امـا لغة الشاعرة فهي عربية شديدة الصفاء بلا رتوش بلاغية زائدة , و هي لغة ليست بسيطة , بل معتدلة , و ذات قوة تعبيرية كبيرة ، وان كانت تنوء بها عن حيفها حيث الفاظ الاسى والحزن تفيض من قصائدها( الشوق ..الصبر .. الدم ...الموت ..الدموع ) كما يظهر بقولها :
نص يكتب بماء الذهب
فارى دماءه تسيل فوق حروفي
تشهق انفاسه في سراب حضوري
زهرة الذهب والاقحوان / ص110
لكنها تخفف وطاة اكتوائها بنثر الفاظ ( البخور ... الياسمين ..الدالية.. العطور .. الفراشات ) :
مسافرة في لوحة الصباح
في حديقة القصر
ياسمين يتدلى من الشرفات
فناجين القهوة صداها
ينادينا
ورائحة الهال
رحيق يتبعثر فوق شفتينا
لوحة الصباح / ص72
وهي محاولة لتخفيف وطاة اغترابها، لذا لاذت بصمتها الطويل:
قررت ...
ان ارحل مع صمتي /
القرار / ص86
لذا لجات لتكوين " يوتوبيات " مدنا وهمية ، صنعتها بنفسها وهي خيالية كتعبير عن حالة السمو عن الواقع ، اضافة الى تمسكها بذلك الزمن الماضي لاستعادة الزمن المفقود ، بفرارها الى طفولتها ، تقول :
يحتويني كطفلة في صباح
ياتي اليها بحلوى
حلم الامس والصباح / ص98
او قولها :
ابحث في صباحاتي عن عرش
عرش ... الياسمين
خيوط الشمس / ص51
اذن هي استعادات لماض جميل كانت له نكهة طفولية بريئة :
اضحك كطفلة اقبلواعليها بدمية جديدة
اسامحه / ص19
وهو لعمري هروب يصطف مع المنهج التطهري ، المتمثل بالفرار الى الطفولة ، وماهي الا محاولة لمغادرة حالة الاغتراب ، او قد يتكرر حضورها الدائم في نصها الشعري عبر استرجاعات الذاكرة ، تقول :
في كل صباح جديد
يحط على نافذتي
عصفور يحمل وردة الدالية
ليقول لي ...
صباح الخير
حلم الامس والصباح / 96
او تكون كلماتها تسجيل للتردد الايقاعي كونه ملاذات امنة تحميها من حزنها وشجنها ، حيث تظهر قصيدتها " رجل ينبعث من الرماد " براءة طفل يتراقص بين كلماتها من فرط وجعه ، حيث اكاليل الورود على راسها، وقطرات المطر تتراقص فوقها :
احمل معك توت المطر
اكليلا على راسي
يغرق شعري والخيول
يغرقنا معا .. يغرقنا معا
توت المطر / 102
وهكذا ترسم صور انقلابها على ماساتها وفق خيالاتها ورؤاها لتهرب من حيفها بصور تحيكها كما العنكبوت وان كانت واهية فوق رمال امالها :
على الورق
يرسم ملامح رجل
انبعث ...
من جديد
من الرماد
رجل ينبعث من الرماد / ص106
الا ان احلامها تتحول الى واقع تقرر ان يتحقق ، حيث تسترجع عظم تاريخ انبثقت منه امجاد تاريخها ، لتنتفض على كل انكساراتها وتصرخ بنشوة عالية :
صباحي انا
صباح ملكة
ولدت من قصص التاريخ
انفاسها معلقة في روح الياسمين
صباح الم جميل / ص11
ان كل ليل لابد له ان ينجلي ، فيتراءى لها فجر يلوح في افقها الصامت :
اقترب في فجر
رجل اكسير الحياة / 112
وازاء كل تلك الصرخات تبقى الشاعرة صابرة محاولة اظهار نفسها قوية متماسكة مخففة حرارة صرخاتها بشفيف قصائدها لبث صورا مغايرة لسوداويتها وتعكير مزاجها وصفو حياتها بمحاولات جريئة لدفع حبائل اغترابها ، لتتمظهر بصورة اماني تلوح في سحرها المنتظر ، لتختم ماساتها بخيط نجاة وعودة الى هيئتها البشرية التي سلبتها تلك الملاذات الواهية ، وغرف الموت الوردية ، صيحات ختامية ترسلها على اجنحة فراشاتها المحلقة عاليا :
وغدا بسحرك
ارجعني
لهيبتي
البشرية
زوايا عاجية في هيئة بشرية / ص 118