المبدع: جاسم محمد صالح في أدبه الطفولي- محمد ونان جاسم- الشطرة
Tue, 17 May 2011 الساعة : 10:55

أشكل الإشكالات توضيح الواضحات
قراءة المنجز الأدبي الكلي لأيّ أديب ٍ تبني - علي الأغلب - علي نظرية الفهم العام ومستوياتها المتعلقة بالسياقين النصي والسسيولوجي، وهذا مخالف بطبيعة الحال لرأي أرسطو الذي أشار إلي أن المعني يكمن في النص، لذا علي الناقد الذي يروم دراسة كلانية عن أديب ما أن يلمَّ بهذين الأساسين:
النص
ماحول النص الذي يدور في الحقل السسيولوجي في جل ّ حيثياته .
وأدب جاسم محمد صالح أدب سمته الوضوح وهذا سيجعلنا مقيدين بالمقولة الفسفية المشهورة: (أشكل الإشكالات توضيح الواضحات)، ومنها تنبثق إشكالية الكتابة النقدية عن منجز مثقف مهم اعتلي منصة الإبداع بخطي راسخة وحمل أرواحاً عدّة غير متقاطعة فهو يحمل روحاً وطنيةًعراقيةً خالصةًوروحاً عربيةً واثقةً وروحاً إنسانيةً كبيرةً، تتداخل هذه الأرواح لتنسج روحاً مبدعةًتسعي للانتقال من المحلية إلي العالمية .
إن المسافة المعرفية التي يمتلكها الأديب ودارسه جعلت إشكالية البحث تتجه نحو منطقة التوثيق الوصفي المتسم بالرصانة الإبداعية، واتباع طريقة ممنهجة في الكتابة عن ثيمتين مهمتين هما النقد والتربية.
قلم الأديب جاسم محمد صالح كان تنويرياً حاضراً في الساحة الأدبية بتحفيز من ثقافة الأديب التاريخية التي اشتغلت معماراً ثقافياً في ذاته المبدعة وسلوكه الاجتماعي، لذا نحي في نصوصه إلي إظهار المكنونات البضّة للذاكرة الجمعية بأسلوب نشوري واضح مستند إلي تقنية الأمثولة في جلّ منجزه وقد اعترف الدكتور سعد مطرود بوضوح الأديب ونصوصه حين قال: (إنّ عالم الأديب جاسم محمد صالح ليس عالماً منغلقاً أو غامضاً أو مليئاً بالأسرار)، وقد رافقت هذا الوضوح همة بحثية متسمة بنفس ديكارتي في علاقة المثقف بالتاريخ وأري في هذا الأمر تطلعاً كبيراً في بناء الذات والنص، ونلحظ في القراءة الدقيقة لمنجز الأديب اهتمامه بالمشهدية التي تحيل إلي الإقناع . إن العلاقة بين الحكاية والتاريخ متأسسة في حيز السردية الحافة لمنطق التوثيق والتذكر والعبرة التربوية الهادفة وهذا ما نراه في معظم النتاج الذي درسه الدكتور سعد مطرود، وكان المعني الكلي المُفْرَز معني شعورياً يجيب عن الأسئلة الآتية:
ماذا نصنع حين نتكلم؟
ماذا نقول بالضبط حين نتكلم؟
من يتكلم؟
من المستهدف؟
ما العبرة؟
وسعت قصص الأديب إلي محاكاة الخير، كي تحضره في ذهن الطفل العربي من خلال التوجه إلي ما يدور في ذهن المتلقي وفي ذهن القاريء، لذا جاء أغلبها ملتصقاً بالواقع من دون تكلف وتعاملت مع الشخصية بوصفها عنصراً مستقراً في السرد معتمدة علي تعددية أشكالها، وقد قرن الدكتور سعد مطرود قراءته بمصطلح المثقف، ومعلومٌ أنّ المثقفَ العربي َّعموماً يعيش أزمة سببها ذاته وبعده عن المنهجية العلمية لكن الأديب جاسم محمد صالح تخلص من هذا الخلل الكبير ودليلنا كتابه منهجية الكتابة في أدب الأطفال الذي أكّد علي إنَّ العلاقة َبينَ القاريء والأديب لا تتحقق إلا بفعل القراءة لمجمل الإنجاز النصّي ولن يصلا إلي مرتبة التعالق إلا من خلال النصِّ المُبدع ِ الذي يُحاكي الجمالَ ويتسمُ بالانسجام ِ .
لقد ابتعدت قصص جاسم محمد صالح عن ظاهرة الإجهاض التي تعني ولادة نصّ أدبي غير مكتمل ومنقوصاً، لذا تري في نصوصه مشروعاً تربوياً كبيراً متكاملاًومتحولاً في الوقت نفسه إلي عتبات القول السردي الخالقة للإبداع ومشروعه يمكن أن يفهم علي محاور منها:
1 ــ التعليم وزرع حبّه في نفوس الأطفال .
2ــ حب الوطن إذ يقول جاسم محمد صالح في لقاء صحفي معه: (إن الكتابة هي الوسيلة الأكثر أهمية في بناء الطفل وصولا إلي بناء الإنسان العراقي المتمسك بأرضه والمدافع عن وطنه حاضرا... ومستقبلا؟ الكتابة للأطفال مسؤولية ومساهمة كبيرة وخطرة في بناء الوطن وتوجيه أبنائه الوجهة الصحيحة التي تجعل منهم أدوات فاعلة وبناءة في تثبيت أركان المجتمع وتقوية أسسه)
3 ــ الوضوح ونفي التحويل .
ـوهذا لا يعني خلو قصص الأديب من المبالغة في بعض مكوناتها، فالمبالغة بنية أدبية مهمة بشرط أن تحكم بضوابط القبول عند المتلقي وتقترن بالملاءمة لواقع القول من دون هيمنة مطلقة .
ـ وسنحاول في هذا المقام أن نقرأ قراءة نقدية منجز الأديب جاسم محمد صالح الذي لم يتخذ مساره السردي شكلاً واحداً، بل تعددت أشكاله فألغت التجنيس الصارم لاسيّما في الحوار إذ اعتمد علي الاتساع المقبول بين أجناس المتحاورين، وأقصد بالمقبولية توافقها مع المنجز السردي العربي القديم، وعاضد َ الإلغاءَ مبني الوقفة الوصفية ففي قصته (أمّاه أين وطني) نلحظ الحوار المفارق والوقفة الوصفية في المقطع الآتي:
(ركض (سامح) هنا وهناك كمن يبحث عن شيء يشعر بحاجة إليه، لكنه لا يعرف ذلك الشيء الذي يبحث عنه.. فاقترب من الحمامة الرمادية وهي تهدل علي غصن شجرة قريبة منه وسألها:
- أين بيتك أيتها الحمامة الرمادية؟
- إنه عش جميل ودافئ علي غصن شجرة الزيتون تلك.
تألم (سامح) حينما سمع ذلك، ومع هذا توجه نحو النسر الأبيض الذي حطّ لتوه علي غصن شجرة قريبة منه وسأله:
- أين بيتك أيها النسر الأبيض؟
- إنه قرب الصخرة، فوق قمة ذلك الجبل العالي المغطي بالثلوج.. إن أفراخي هنالك ينامون فيه بهدوء.. بعد قليل سأذهب إليهم.
تألم (سامح) مرة أخري وركض بلهفة وراء فراشة برتقالية تطير من زهرة إلي زهرة تبحث عن الرحيق الذي تصنع منه العسل، واقترب منها بهدوء وسألها:
- أين بيتك أيتها الفراشة البرتقالية؟
وقفت الفراشة البرتقالية عن امتصاص الرحيق وضحكت كثيرا، ثم قالت له:
- بيتي فوق أوراق تلك الوردة الكبيرة الحمراء.. ياه ما أجمله!!! وما أطيب رائحته!!!
امتلأ (سامح) بالألم مرة أخري ودمعت عيناه)
إن الباث بدأ المقطع بصيغة إخبارية شادّة ثمّ تلاها بصيغة طلبية متمحورة علي أداة الاستفهام (أين) التي كررها أربع مرات معطياً في الوقت نفسه إيحاءً بفقدان الشخصية المحورية(سامح) لوطنه ومعطياً دوراً للمتلقي في توقع النهاية، ويتضح لنا هذا التمايز في جنس المتحاورين أو الفاعلين، فضلا عن أن الحوار مبأر علي وفق ثيمة الفقدان التي أشرنا لها ويبقي المقطع منتجا لمحاكاة سرودات قرآنية ركزت علي الطلبية كحوار النبي إبراهيم الباحث عن حقيقة الإله، وسرودات الأمثولة في منتجها الأساس (كليلة ودمنة)، والمؤشر علي قصص الباث هو تلخيصه المعني الكلي في استعلائه النصي كما هو واضح في عنوان هذه القصة وهذا يعدّ ضعفاً مرغوباً فيه لحاجة المقصود من الكتابة والمستهدف الرئيس، أي الطفل الذي يحتاج إلي نفي الإبهام عن ذهنيته .
ويتضح سعي القاص إلي بيان الحالات النفسية للشخصية المحورية مقارنة بالشخصيات الأخري(الحمامة الرمادية - النسر الأبيض - الفراشة البرتقالية) من خلال التعابير الآتية:
الحمامة / تهدل --------------- فرح = سامح / تألم ------------------ حزن
النسر / نوم هاديء ----------- استقرار = سامح /تألم -----------------حزن
الفراشة / ضحك ------------ فرح = سامح / ألم ودمعة ----------- حزن
هذا التوازي أعطي إيقاعاً للمقطع السردي، إيقاعاً له بغية ذهنية في ترسيخ سوء فقدان الوطن المسبب للحزن واليأس في عقل المتلقي .
في جانب التمثيل لم يخرج النص الذي أوردناه وكذلك معظم نصوص القاص عن منطقية إيراد الأمثولة فالحمامة تمثل السلام والغراب يمثل الشؤم والكلب ممثل لواقع في درجته الصفر والأسد يمثل الشجاعة وهكذا -
وقد حاول القاص أن يحاكي الواقع العراقي بعد الاحتلال البغيض، كي يبرز من خلال قصصه رفض المواطن العراقي لهذا الاحتلال ويشتغل في الوقت نفسه ببث مبدأ الرفض في نفس الطفل / المتلقي معتمداً علي تقنية المحاكاة الساخرة، فعند قراءتنا لقصة (حكاية الطفل الذي يطارد الثعلب العجوز) نري استحضاراً لموضوع الاحتلال وتناص مع القرآن الكريم من خلال ذكر النبي سليمان، واضعاً المحتل في حيز الثعلب الموسوم بالعجز والخور والجبن، وقد لجأ إلي القاص إلي المباشرة الخبرية التي أضعفت النص في قصته (الطفلة المجنونة) التي تتحدث عن جرائم الأمريكان الذين قتلوا عائلة كاملة من عوائل العراق وبقيت طفلة واحدة فقدت عقلها لهول الجريمة .
والقاص ذو توجه قومي عربي دلنا عليه أمران هما: المسار الغرضي لقصصه وأسماء الشخصيات، إذ نلحظ تركيزاً علي اسم (يعرب) فله قصة بعنوان (منقذ اليعربي) وأخري بعنوان (حكاية الفتي يعرب بن أصيل) فضلاً عن يعرب بطل قصة (الأشجار تورق من جديد) التي يقول فيها:
(لم يفهم يعرب شيئا من هؤلاء الأغراب المعتدين وعرف أنهم أشرار ومجرمون وقتلة، وبدون وعي منه رمي عليهم التفاحة التي بيده بكل قوة، وتفجرت قرب عجلتهم وأحرقتها وصمت إلي الأبد جنودها القتلة المتوحشون.
بدأ الظلام الذي جلبه هؤلاء القتلة إلي القرية يقلّ ويتلاشي، وبدأ الصباح الجميل يشعّ علي القرية من جديد، فقد هرب المحتلون من القرية بعد أن سرقوا منها كل شيء(.
بجوار منطقية الأمثولة توافرت منطقية النهايات في قصص الأديب جاسم محمد صالح ومسرحياته فهي - علي الأغلب - ناصرة للخير والشر ّ فيها مهزوم ٌ
- لا محالة - ومثال ذلك مضمون مسرحية (أصدقاء الشمس) إذ أعيدت الشمس المسروقة من قبل الأخيار، ونستطيع أن نقول إن المعادل الموضوعي لمنتج الأديب كان يجول في حيز (دفن الشر) ونقرأ النهاية الآتية لقصة (الأفعي وشجرة التفاح):
(صرخت الأفعي الرقطاء وهي تتلوي في مكانها:
- إنني خائفة.. أين اختبئ؟ أين؟؟؟
أجابها السنجاب بسرعة:
- اختبئي في هذه الحفرة العميقة جدا.. وحينما يبتعد الحطاب سأنادي عليك لتخرجي.. هيا بسرعة اختبئي.
اقتنعت الأفعي الرقطاء بكلام السنجاب، وابتعدت عن شجرة التفاح ورمت جسمها في الحفرة العميقة لتختبئ فيها.
وبسرعة نادي السنجاب علي كل الحيوانات، لتعاونه في ملء الحفرة العميقة بالأحجار والصخور وبالأشياء الثقيلة، وبسرعة فعلوا ذلك وعادوا يلعبون من جديد تحت الشجرة بفرح وسعادة.. وما عاد أحد يسمع شيئا عن الأفعي التي دُفنت تحت الأحجار والصخور).
في المقطع دعوة للاتحاد الخيّر المانع للشر الذي مثلته الأفعي وفيه انتصار لذلك الخير وهذه التكرارية أو المعادل الموضوعي يحملان هدفاً تربوياً لخطاب الأديب في مجمل نصوصه الإبداعية ويبدو أن القاص لم يهتم كثيراً بالجمال التركيبي أو البنيوي وأحال اهتمامه للجمال الغرسي أو الخطاب وهذا يدلّ علي أنه منتم ٍ لمدرسة الفن للحياة والفن رسالة، وبجوار هذا الأمر كانت اللغة عند القاص ذات وظيفة تواصلية لذا لم يأت بالغريب أو الوحشي من القول في قصصه التي كانت تاريخاً يكشف عن نفسه وعن واقعه علي الرغم من أن الدراسات السردية الحديثة تدعو إلي تجنب الموضوعات ذات الطابع الخطابي المباشر .
القاص جاسم محمد صالح حالم بمجتمع جنة رسمه في مخيلته النظيفة البضة ولم تنس هذا المخيلة مبدأ الصراع بين الأسود والأبيض لكنها كانت منحازة إلي الأبيض وهذا يعني بعد القصص عن الحيادية التامة وقد وضح انحيازه في العناصر الآتية: الشخصيات وأسمائها و المكان وأنواعه النتقل من الغابة إلي الوطن إلي السجن الذي يرمز للتحدي والبطولة و الزمان وتمظهراته المختلفة، ونري تكثيفاً للذكورية المرافقة للشجاعة في أغلب قصص الأديب علي الرغنم من إيراده الطفلة الشهيدة والطفلة المجنونة في منتجه الإبداعي .
إن قصص جاسم محمد صالح تمثل مكنزاً إبداعياً للقصاصين الشباب يمكن العودة إليه والاستفادة منه، كما تمثل باباً مفتوحاً لدراسات نقدية جديدة وعلامة فارقة بين الأدب ذي الخطاب التقليدي الفج والخطاب الأدبي الرصين الممنهج النابع من ذوق معرفي وثقافي في الوقت نفسه كان بيّناً في المنتج القصصي والمسرحي للأديب جاسم محمد صالح .