جمر الشاعرة وشرط الشعرية في جمر وفا دلا -محمد ونّان جاسم

Wed, 19 Oct 2011 الساعة : 23:19

رذاذ القصيدة يتطاير خارج المتن
يقول ت.س.إليوت: ليس الشعر تحريراّ للعاطفة، وإنما وسيلة تخلص من العاطفة،وهو ليس تعبيرا ً عن الشخصية، وإنما وسيلة فرار من الشخصية ــ طبيبعة الشعر.هربرت ريد 18 ــ ويسند اللغويون لفظة (الشعر) إلي العلم فالشعر من: شَعَرَبه وشعُرَيُشْعُرُشِعرا ً كله بمعني (علِمَ) ــ لسان العرب مادة شعر ــ والعرب تقول: (ليت شعري) أي ليتني أعلم، ويقال: أشعرتك بمعني أعلمتك، وسمي الشاعر شاعراً لعلمه وفطنته.
وعرف الجاحظ الشعر بقوله: إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير ــ البيان والتبيين 1/76 ــ ويعد ابن رشيق من النقاد العرب القدامي الذين وضعوا تعريفا دقيقا ً للشعر حين قال: (فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معني ولا اختراعه أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني أو صرف معني إلي وجه آخر كان اسم الشاعر عليه مجازا ً لا حقيقة ً) ــ العمدة 1/940 ــ

نلحظ أنّ إليوت شاعر وتعريفه شاطٌّ عن كينونة الشعر واللغويون نظروا للشعر في أصل لفظه لا في أصل حضوره والجاحظ ركز علي التركيب الموشح بالخيال وابن رشيق أكّد علي الجدة المعنوية للقول الشعري وهذا ما نراه في الشعر مع تحقق الإيقاع الداخلي أو الخارجي وقد سقنا هذه المقدمة التعريفية كي نلاحق نصوص الشاعرة السورية (وفاء دلا) وإجراءاتها الأدائية ومدي قربها من الشعر في مجموعتها (رذاذ الجمر) الصادرة عن دار الزمان في دمشق والمصدرة بتقديم للدكتور الطاهر الهمامي من تونس قال فيه: (إن طاقة الشاعرة الإبداعية تنبيء بميلاد نص ّ يكتمل فيه الجميل والنافع)، ص:10.
ونري عند قراءة التقديم تلك اللغة الاحتفالية التي شاعت في أغلب التقديمات الأدبية لمجموعات شعرية أو غير شعرية، فنري ألفاظ مدح منها علي سبيل المثال لا الحصر، لديها وعي شعري و فلاحة سقوية وهي صورة أنيقة لصوت نسائي واع واعد يمتلك مؤهلات الأثر المتميز إلي غيرها من صور المدح غير المستند لدليل نصي وهذه ــ أقصد المقدمات ــ تعدّ آفة القراءة في المنجز النقدي العربي في الوقت الحالي لأنها تحتفي بالباث قبل احتفائها بالنص.
القراءة:
عنوان المجموعة (رذاذ الجمر) يشي بالإسناد التجاوزي ويدلّ المتلقي علي حضور دالتين مختلفتي التكوين هما:

1 ــ
الرذاذ المتعالق بالماء، لأن الرذاذ هو المطر وقيل الساكن الدائم لصغار القطر وقيل هو بعد الطلّ (لسان العرب: مادة ــ رذ)
2 ــ
الجمر المتعالق بالنار والجمر هو النار المتقدة وقيل: الحصاة والمعني الأول ــ بطبيعة الحال ــ هو المقصود
وقد حاولت الباثة إيهام المتلقي بهذا الاستعلاء النصي حين حذفت متعمدة حرف الجر (من) الذي كان له وقع دلالي إيضاحي في النص إذ قالت:
لن استيقظ ــ ــ ــ ــ ــ إلا ــ ــ ــ ــ
برذاذ من جمر
يخطف في تلك اللهفة
مرجاني
فالمجموعة منذ بدايتها تُفتح علي الخفوت المتحقق بأداة النفي المستقبلية الذي لا ينسجم مع حركية النصوص المبثوثة في المجموعة والتي في جلها (أم) ومعلوم أن الأم مرتبطة بالحركة لا بالسكون.
المعادل الموضوعي في المجموعة برمتها هو نداء الأحشاء لمن فارقها، نداء المشيمة / الأرض للبعيد الغائب ومعلوم أن البحث عن الغائب هو ثيمة صوفية
ــ علي الأغلب ــ وهذا النداء موشح بالأشواق :
ينابيعي تشتاق إليك
وسرّ عقيقي ــ ــ ــ
فاصعد
كي تمطر تلك الغيمة ذهبا
يا أوّل حرف ٍ
في تهليل صراخي الأول
في هذا المقطع انسجام بين الحرف الأول (الغائب) وصراخ الأحشاء الأول انسجام لم يحقق توترا ً في النص.
ونلحظ في قصيدة (شذا روحي) ــ في الأصل شذي خطا ً ــ بُعْدا ً عن الوسم الإيقاعي إذ بدأت القصيدة موزونة حين قالت:
ماذا أقول لنرجس الأحلام / مُتْفاعلن مُتَفاعلن مُتْفاعلْ
لكنها غادرت الوزن من دون مبرر لتكتب علي سجيتها نثرا ً وهذا الاشتغال البنائي بقي قائما في معظم قصائد المجموعة، بل أن بعض هذا القصائد حوت إشكالية ضبطية فعلي سبيل المثال لا الحصر تقول الشاعر في القصيدة نفسها :
إذ يغفو علي كتفيّ فاختة ً
لو غيرت الضبط من خلال حذف التشديد والتنوين لصار الشطر من المتدارك / فالن ــ فاعلن ــ فعلن ــ فاعلن
وكان للالتفات مكان نصي في قولها:
كم غفوت برحم أمك
فانتقل الخطاب من المتكلم إلي المخاطب ليحقق انتباها للمتلقي طارداً للرتابة النصية وقراءتنا للمجموعة لاحظت حضورا ً لأمرين آخرين تجاورا مع البحث عن الغائب هما:
1 ــ تكثيف النفي: فأنا لا أرغب / لم يولد بعد / لن أغفو/ لا أدري كم استغرقت في حلمي /لا أبدا باسم الشعب / لا أغلق كل الأبواب / لا يعنيني / أخاف أن أقول لا / لأن ما بداخلي يصيح لا / ما كنت أعرف أن قبّرة الكلام ْسترتدي ثوبا من الأبنوس الأسود / وما عادت رؤاي تمارس التحديق / لم أدرأن أمومتي قد أوقدت قنديل عاطفتي / أمك لم تعد تقوي علي الطيران / وليس لعطري ألقاب / لا استيقظ
هذا النفي حقق وظائف دلالية يمكن ذكر بعضها :
عدم الرغبة والسهر والتيهان والخوار والآيروسية المبنية علي أمرين هما التناص القرآني مع سورة يوسف والرسوم المبثوثة في المجموعة التي حاكت في معظمها امرأة عارية وأعتقد ان هذا العري هو عري الذات الباحثة عن الغائب الذي يمثل غطاءها أو هو العودة لبدء خلق الإنسان لحظة الولادة إذ جاء للدنيا عاريا ً عموما هناك اشتغال متعمد في إحضار الآيروسية المخلوقة من فتح الأبواب جميعها،فائدته التجاوز.
2 ــ الرغبة بالصعود: كي أهمس في أذنيك وأصعد شأني / فأصعد بحدائق كالأسطورة، فاصعد للتكوين الثاني / سيل ٌمن أصقاع الورد سيصعد شأوي / سؤال الكواكب وهي تطالع سفر الحنان الغزير وتصعد شأني
إن هذا الصعود المتكرر في أكثر من شطر يلائم المكثف الأول / النفي فالنفي صور نكوصاً نفسيا ً للباثة وهذا النكوص لا يمكن التخلص منه إلا من خلال الصعود.
أخيرا ً لا بدّ أن نوضح الآتي:
1 ــ امتلكت الشاعرة زمام الإيقاع في مستهل أغلب قصائد المجموعة لكنه فلت منها في المتن مما أثر كثيرا ً علي شاعرية النصوص وانسجام موسيقيتها.
2 ــ وقعت الشاعرة ببعض الهنات في الإسناد منها إسناد الاندلاع إلي النور (أأنا اندلاع النور في عينيه) وكان الأولي أن تقول انبثاق.
3 ــ اختفي الاحتباك في بعض قصائد المجموعة كما هي الحال في قصيدة (حلم الوردة).
4 ــ علقت الشاعرة ثيمة الأفول بالشمس وهذا اشتغال جديد فالشمس متعالقة مع الإشراق وفي رأي إن أيّ تغيير في التداوليات يخلق شعرية:
أنا الأنثي التي خطفت من الشمس
الأفولْ
فهل أمحو السراب عن الضباب
وأبدأ المجهول ْ
لقد حققت الشاعرة في هذا المقطع شعرية واضحة متكئة علي أمرين هما: الانزياح الوظيفي للشمس و الإيقاع النصي الناتج عن بحر الوافر.
مما تقدّم يتضح لنا ان الشاعرة حاولت أن تفي بمبدأ الجدة الذي اشترطه القيرواني فوفقت في مكان وخالفت في مكان آخرلا سيما حين تلجأ إلي السجية وهذا شأن من لا يري أهمية للدربة الشعرية

Share |