تركيا أزمة هوية.... أم عثمانية جديدة-حيدر الصافي
Wed, 19 Oct 2011 الساعة : 8:52

تنبني السياسات الإقليمية للدول على عدة ركائز معروفة مثل: التحالفات الدولية والموقع الجغرافي والإمكانات البشرية والاقتصادية، ولا تقتصر على ذلك فقط، إذ تلعب الروابط التاريخية دورها في رسم سياسات الدول، كما أن "مسألة الهوية" وهي مدركات الدولة لنفسها في مواجهة محيطها الجغرافي، تعد من أهم العوامل في رسم السياسة الإقليمية للدول.
تعد أزمة الهوية التي يعيشها المجتمع التركي ناتجة عن عدم الانسجام بين المعطيات التاريخية والثقافية والجغرافية لهذا البلد وبين الواقع السياسي والثقافي والقانوني الذي يفرض على المجتمع.
فرغم أن حزب العدالة والتنمية لا يعلن أو لا يسمح له بأن يشير إلى توجهاته الإسلامية، إلا أن الهوية الإسلامية التي تتمثل في فكر وسلوكيات أعضاء الحزب وجذورهم الحزبية التي تعود إلى حزب الرفاه لا تترك مجالا للشك بأن الشعب التركي قد اختار الحزب الذي يمثل الهوية الإسلامية ولو لم يعلن عنها بشكل أحد ث توازن في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من جهة، وعلاقاتها مع العالم العربي والإسلامي من جهة أخرى، فقد شهدت فترة تسلم حزب العدالة والتنمية مواقف إيجابية ومصيرية من قضايا العالم العربي والإسلامي، ساهمت في تغيير الصورة السلبية لتركيا على الصعيد السياسي في القرن الماضي، كما حاولت تركيا في هذه الفترة كذلك أن تقوم بدور فاعل ونشيط في صنع القضايا الإقليمية وقضايا العالم الإسلامي والاوربي .
وحدها الظروف التاريخية التى ترافقت مع تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال آتاتورك (أبوالأتراك) تستطيع تقديم تفسير معقول للواقع التركي السياسى الراهن، وإرهاصات هذه الظروف ظهرت في فترة تفكك الدولة العلية العثمانية، وما أعقبها مباشرة من فرض اتفاقية سيفر عام 1920، تلك المعاهدة التي ارتأت قيام دولة للأرمن في شرق تركيا وحكم ذاتي بصلاحيات واسعة للأكراد جنوبي الأناضول، في ظل احتلال اليونان وفرنسا وإنجلترا لكامل الغرب التركي وجاءت الفرصة التاريخية المتمثلة في الجمهورية الكمالية واتفاقية لوزان عام 1923، التي ألغت عمليا اتفاقية سيفر وثبتت الجمهورية التركية في حدودها الحالية. ومن يومها وبفضل اللحظة التاريخية التي سبقت ورافقت قيام الجمهورية تم إعلان الجيش رديفا للدولة التركية وحارسا على مكتسباتها ووصيا على نظامها السياسي، في حين ترسخت العلمانية هدفا أعلى للدولة التركية لا يمكن المساس به. ولكن الشرق الأوسط لم يكن مركز الدائرة الاعتيادية التي تدور عليها السياسات الإقليمية التركية، ومنذ تعثر مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بسبب خشية أوروبا من "هوية تركيا الإسلامية"، والتغييرات الإستراتيجية عميقة الأثر في تركيا بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة 2002، وفي المنطقة منذ حرب احتلال العراق عام 2003، أصبح الانخراط التركي في الإقليم ضرورة مصيرية للحفاظ على مصالح الدولة التركية، ويعود الترحيب الأميركى بأردوغان وحزبه في أحد أسبابه إلى دور "الوسيط الحضاري" بين الشرق الإسلامي والغرب والمناط بحزب العدالة والتنمية، الذي لم يطرح –ناهيك عن قدرته على ذلك- تعريفا جديدا أو تغييرا في المصالح الوطنية التركية، إذ إن هذه الأخيرة حسب قواعد اللعب التركية تقع في دائرة اختصاص المؤسسة العسكرية ودفعها بمنطق الأمور إلى ملء الفراغ الإقليمي بتشجيع أميركي ودولي وترحيب عربي، ربما يكون مناسبا الآن للدولة التركية، بعلمانييها وإسلامييها، لا أن تتذكر هويتها الإسلامية فقط، بل "سنيتها المذهبية" أيضا، تلك التي سترسي عليها سياساتها الإقليمية الجديدة في منطقة مضطربة، أسهم التخبط الأميركي أولا والطموح الإقليمي الإيراني ثانيا في تأجيج صراعاتها واستقطابها على محور الصراع السني-الشيعي للأسف...
وهناك من بالغ في وصف الدور التركي وأسقط اعتبارات تاريخية ومذهبية على ما يجري ، كالقول بأن أردوغان هو العثماني الجديد، سليل محمد الفاتح وسليم الأول وسليمان القانوني، وأن تحرير فلسطين واسترجاع القدس سيكون على يديه وأن هناك تنافسا بين إيران باعتبارها صفوية شيعية وبين تركيا باعتبارها عثمانية سنية ، في إسقاط تاريخي ساذج لواقع تغير وظروف اختلفت وسياسات وتحالفات تبدلت ، ولا يستوعب هؤلاء حتى اللحظة ضرورة القفز عن أو تجاوز الخلافات المذهبية والعرقية لما في ذلك من مصلحة عامة للعرب والمسلمين خاصة ، ولبلدان العالم الثالث عامة للتخلص من التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية للقوى الأخرى،في عالم يتكتل رغم ما يفرقه،فيما يدعو هؤلاء إلى الفرقة رغم ما يجمع مكونات الأمة من دين ولغة وثقافة وتاريخ وجغرافيا ومصالح مشتركة .
إن دور تركيا اليوم ليس هامشيا أو تابعا صحيح أنها عضوا في حلف الأطلسي، ولكن لها القدرة على صناعة إرادتها بنفسها بسبب مكانتها القوية في المنطقة ، وإستراتيجية جغرافيتها ، فضلا عن امتلاكها جيشا كبيرا وبالرغم من هواجسها الشديدة بصدد التطلعات النووية الإيرانية ، لكنها وإيران ترتبطان بعلاقات قوية اقتصاديا وسياسيا كما أن لتركيا القدرة على بناء جسور قوية مع مصر والباكستان والسعودية وبعض دول الخليج . أما علاقاتها بكل من العراق وسوريا ، فثمة مشكلات بين هذه الدول المتشاطئة على مياه دجلة والفرات أولا ، وأيضا حول التطلعات الكردية وانطلاق العنف ثانيا .أن تركيا تسعى اليوم لتشكيل خصوصية معاصرة لم يسبقها الآخرون إليها من قبل في الشرق الأوسط إنها تستثمر كماليتها وعثمانيتها في تأسيس ما يسمى بـ " تحالف المحيط " ليس هروبا من التاريخ ، بل محاولة منها لقيادة الدخول إليه من جديد.....
باحث أكاديمي وأعلامي*