الحج الإبراهيمي-محسن وهيب عبد-الحلقة الرابعة
Wed, 12 Oct 2011 الساعة : 7:45

إبراهيم مؤسس البيت الحرام وراسم المناسك لحجه:
أما فريضة الحج الإسلامي فقد بقيت لها رسالتها التي لا عبث فيها ولا موضع للمكر والدسيسة من ورائها، وإن رسالتها اليوم في العالم الإسلامي لأعظم وألزم من رسالاتها في جميع الأزمنة؛ لأنها العهد المجدّد في كل عام بين شعوب الإسلام إلى الوفاق والوئام.
قال الله تبارك وتعالى عن لسان خليله في روائع الدعاء:
{ربّنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} .
المجتمع النموذجي الذي يطلبه إبراهيم؛ هو حيز زمكاني ينحصر في (مكة)، ويطلب من ربه؛ أن تتحقق أربعة عناصر في ذلك الحيز، ومقارنة بما يسمى عند الفلاسفة للمدينة الفاضلة مسؤولية ((الحكومة والقيادة))، التي لو تتسم بالقسط والعدل، لتم في ظلها تأمين ((ازدهار)) المنطقة و((امنها وحريتها)). وإقامة الاقتصاد المزدهر، وتعلق القلوب وإحساسها بالهدوء والسكينة في هذه المدينة.
إن المجتمع الإسلامي النموذجي، بحاجة إلى أناس يتمتعون بمسؤولية جمعية اتجاه بعضهم البعض، يصفه النبي الأكرم بقوله: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
ويؤشر الرسول ماهية هذا المجتمع المثالي بأقواله:
( ليس منا من بات شبعان وجاره جائع).
وقال (ص):
( من بات ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم).
وقال(ص): كلكم راع وكل مسئول عن رعيته".
وقال (ص):
( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) .
وقال في مقومات الفرد لبناء المجتمع الإيماني:
( من لا يرحم لا يرحمه الله عز وجل) .
وفي نفس السياق، يقول (ص):
( من يحرم الرفق يحرم الخير كله ) .
في مثل هذا المجتمع الذي تحدده هذه الصفات وتميزه هذا المعايير؛ لا وجود له، مثلما لا وجود لحج كما يريده الله Y .
فالمجتمع الإنساني النموذجي الذي ينشده الإسلام، يحتاج إلى تحرير الإنسان من الخوف وتهيئة أسباب العيش الكريم لكل فرد من أفراد المجتمع؛ (إفشاء السلام وإطعام الطعام) كما يقول المعصوم.
والعمل على ضمان سيادة الإنسان، بما أراد الله له كخليفة، ومنحه الحرية في خياره لفعله بعد أن نضمن له معرفة خيارات الله تعالى له، من خلال واجباته، وبعد أن نعطيه حقوقه.
ويتم ذلك بالابتعاد عن الاستبداد والاستعمار والاستغلال في المسائل السياسية، وبناءً على ذلك، فإن المجتمع النموذجي أو المدينة ستكون فاضلةً، باحتوائها على جميع هذه الأمور.
ولو أراد مجتمع ما أن يقيم هذا المجتمع الفاضل بمنظار الإسلام، فمن المؤكد أنه لا يمكن تحقيق ذلك بغير امتلاك الحكومة الإسلامية الحقة، وإنما تكون الحكومة فاضلةً، عندما يقف على رأس الهرم فيها حاكمٌ واعٍ، ورع، ومتحرر، ومدير ومدبّر، يأخذ على عاتقه إدارة أمور الدولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أن تكون أمّةُ تلك المدينة أمةً واعية ومطيعة، فلا الإمام قادر على إقامة المجتمع الإسلامي النموذجي من دون ((الأمّة الواعية))، ولا أمّة واعية من دون ((الإمام الحق)) تستطيع أن تقيم المجتمع الفاضل أو دولة العدل الإلهي بالمصطلح الفلسفي.
هذا وإن مسيرة الأنبياء على خطى إبراهيم الخليل عليه السلام، من هذا القبيل، حيث إنهم يطلبون في أدعيتهم وتوسلاتهم إلى الله- تبارك وتعالى- أن يهديهم إلى السبيل ذاته الذي عيّنه القرآن الكريم للناس على لسان إبراهيم الخليل(عليه السلام). وفي الوقت ذاته الذي سعوا فيه إلى إعداد أركان الدولة الفاضلة، فإنهم كانوا يسعون إلى أن تلوح بارقة حبًّ تنفخ الروح في مساعيهم.
لقد نظّم إبراهيم الخليل- معمار ومهندس الكعبة- خارطة الدولة الفاضلة على أساس الأركان الأربعة والنقطة المركزية سائلاً ذلك من الله –تبارك وتعالى- والأركان الأربعة تشمل:
1- البناء والأعمار.
2- والأمن.
3- والاقتصاد المزدهر.
4- وسكينة القلوب.
والعناصرالاربعة؛ تتلخص في قوله تعالى:
(فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)
يمكن أن تكون مكة {أم القرى} وعندئذٍ تصبح أرضا تمهد لأنموذج الدولة الفاضلة. إن إبراهيم الخليل هو باني الكعبة، وهو الذي قصد البلد غير ذي الزرع أم القرى، وبأمر من الله جعل فيها بيته، ومن أجل أن تتحول هذه الديار غير ذي الزرع إلى أم القرى، ويرتفع منها النداء إلى العالم اجمع، ويشتاق ساكنو الأرض للقاء هذه الفلوات، فقد توجّه ابراهيم غليه السلام لله- تعالى- بالسؤال:
- {رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار ويئس المصير} .
- {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن تعبد الأصنام} .
- {رب إجعل هذا بلداً….} اللهم! تفضل على هذا الوادي غير ذي الزرع بالأعمار وأجعله بلدا.
- {رب إجعل هذا بلداً آمناً...} أي وفر أسباب الأمن لأهل هذه المدينة.
{وأرزق أهله من الثمرات...} أي أمن الاقتصاد السالم لساكني هذه المنطقة.
وتمثل هذه الطلبات الثلاثة، ثلاثة أركان فقط من أركان أم القرى، وهي لا تكفي لإقامة الدولة الفاضلة وإن كانت لازمة ومهمة. ومن هنا فإن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) طلب الركن الرابع أيضاً من الله –تعالى- فقال:
{...فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم...} .
ومن هنا فإن الدولة إنما تصبح فاضلة عندما تهوي إليها القلوب وتتعلق بها. اللهم! فاجعل أفئدةً من الناس ترنوا إلى هذه البلاد وتهاجر إليها، من دون أن ترحل عنها.
فلو فقد ((الأمن)) في البلد، و((الحرية)) جرّت الويلات، ولم يبق ((للاقتصاد المزدهر)) أثر يذكر،وجاع الناس وفقدوا السيادة التي جعل الله فيها رسالتهم.
قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): ((ليس بلد أحقّ لك من بلد، خير البلاد ما حملك)) .
نعم، خير البلاد وأفضلها ما كان يضمن إمكانية التطور والنمو للإنسان.
لقد لاحظ الأنبياء أن النبي إبراهيم (عليه السلام) قد أولى عناية خاصة أيضاً بالركن الرابع عند دعائه: اللهم! اجعله بلداً من جهة، وآمناً من جهة أخرى، وذا اقتصاد سليم من جهة ثالثة، إلا أن الفضائل الثقافية والمزايا الأخلاقية أيضاً ضرورية ولازمة لنموّ الإنسان ورقّية، لكي لا تنفر القلوب عن هذه البلاد، فضلاً عن ولوهها إليها.
أجل، فقد اعتبر مهندس المدنية والحضارة إبراهيم الخليل (عليه السلام) هذه الأصول الأربعة لازمة وضرورية لتأسيس أم القرى.
المحور الأساس لعناصر السعادة:
إن المحور الأساس والقطب الذي تدور في فلكه هذه الأركان الأربعة، والعنصر البناء الذي يجعل بلداً ما أمناً، ويمتلك اقتصاداً سليماً، مؤمناً حرية الناس وجاعلاً أفئدتهم تهوي إليه، ذلك العنصر هو الحكومة المتبلورة في ظل الوحي، وقيادة الإنسان الكامل (المعصوم)، الحكومة المتشكلة في ظل سلطة نظام الملة الذي يعني الالتزام بالثقلين العاصمين في كل الخيارات خصوصا في السياسة التي هي اخطر خيارات الانسان.
ومن هنا، فإن إبراهيم الخليل (عليه السلام) لم يجعل من هذا المعنى وهذا العنصر ركناً خامساً في تسلسل الأركان الأربعة فحسب، بل عدّه العنصر الأصل، والمحور الذي تطوف حوله الأركان الأربعة.
{ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} .
فابعث اللهم فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ولا يجعلهم يراوحون في مرحلة قراءة القرآن فحسب، بل يأخذ بأيديهم إلى مرحلة العلم والعمل لكي يفقهوا الكتاب والحكمة، ويصبحوا من أهل الكرامة وتهذيب النفوس و.......
ومن هنا يجب القول: بأن واجب المعصوم نبيا كان او امام إنما يكمن في تأسيس وإقامة الحكومة وليس الوعظ والنصح فقط.
النتيجة التي تعلمناها هنا من ابراهيم مؤسس الحج:
أنه لو ان رسالة الأنبياء أمكن اختصارها بالوعظ والنصحية، لأصبحت قوافل الأنبياء على طول التاريخ غير ذات معنى. ولما تعرض أكثر الأنبياء والأئمة للقتل. وهذه موارد متعددة من آيات القرآن الكريم تذكر ذلك، وتتحدث عن استشهادهم سلام الله عليهم:
{قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} .
{.... ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق} .
{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حقٍ} .
{.... وقتلهم الأنبياء بغير حق} .
إن القرآن الكريم وفي كثير من الموارد يذكر هذه الكلمات معرفة، حيث يراد بذلك، أن أعداء الأنبياء معرفين مشخصين، في الصراع المستمر للخير مع الشر على مر الدهور.
{وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير} .
أي أن الكثير من الأنبياء ندبوا طائفة من الناس إلى جبهات القتال، ودعوهم لمقارعة الطواغيت.
ولو كان عمل الأنبياء والائمة المعصومين مقتصراً على النشاطات الثقافية والوعظ، لما دعتهم الحاجة إلى المواجهات العسكرية ولا إلى المواجهات السياسية، ولم يتعرض لهم المتعرضون بالقتل والاستشهاد.
ويتضح من ذلك أنهم كانوا في صدد تأسيس الحكومة. حكومة يقف على رأسها قائدٌ إلهي، يتلو على الناس آيات الله، ويدلهم إلى علوم الغيب ومعارفه، ويجعل الحكم السماوية نصب أعينهم، ويجتهد في تهذيب وتربية وتزكية الأمة؛ الأمة التي تعيش في ظل الوحي، لا متسلطة ولا متسلط عليها، لأنه جاء في كتاب الحكمة (القرآن) :
{فلا تظلموا}.
او{ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}.
{..... لا تظلمون ولا تظلمون} .
فإن مقارعة الظالمين وبغض الظلم هو جوهر أوامر القرآن الكريم. وإن طرد الاستبداد، ومحاربة الاستعمار درس علمه الوحي للمسلمين، وهذا هو محور الحكومة العادلة التي لا يمكن ان يدرس او يعطي ثمار لتلك الدراسة إلا في مؤتمر جامع للمسلمين مثل مؤتمر الحج.