العالم الرقمي لا يترك للمرء شيئاً من الخصوصية

Sun, 9 Oct 2011 الساعة : 22:02

يقضي ايريك هارتمان ساعتين صباح كل يوم راكباً دراجته، وهو خلال ذلك لا يولي جهازه الآي فون اهتماماً كبيراً .. ولكن جهازه يوليه اهتمامه. فبينما يقطع إيريك مسافة 48 كيلومتراً حول منطقة "سيل بيتش" يتتبع جهازه بدقة جميع تحركاته لحظة بلحظة ويحتفظ بسجّل لأماكن تواجده. وترسل كل تلك البيانات إلى شركة أبل عدة مرات خلال اليوم، سواء كان إيريك يستعمل هاتفه لالتقاط الصور أو البحث عن محطات الوقود أو التحقق من حالة الطقس.
ليس جهاز آي فون هو الوحيد الذي يتعقب تحركات صاحبه. هل تقصد مركز التسوق لشراء زجاجة حليب؟ أم كنت تلعب لعبة "عالم الحرب"؟ أم تبعث برسائل نصية الى الأصدقاء للإتفاق على العشاء معاً؟ أم أحببت أن تشاهد مسلسلاً تلفزيونياً؟ كل ذلك يجري تسجيله.
خلال اليوم الواحد تتراكم مئات الآثار الرقمية، كل أثر منها يفتح نافذة للاطلال على أسلوب حياة إيريك وعائلته. ولا يتطلب القيام بهذا النوع من المراقبة أجهزة تجسس بارعة، فالأدوات التكنولوجية التي تلتقط كل تفاصيل حياة أفراد عائلة إيريك هي نفسها التي يستعملونها طيلة الوقت: أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية وأنظمة التلفزيون.
يقول كيفن بانكستون، وهو محام يعمل في مؤسسة إلكترونك فرونتيير: "كلنا وراءنا من يتعقب خطواتنا ويرصدنا، أين نذهب وماذا نفعل. فالبيانات التي تلتقط من هواتفنا الخلوية لوحدها تكشف قدراً هائلاً من المعلومات عن كل واحد منا."
يظهر أي يوم عادي في حياة عائلة إيريك أن أشياء قليلة جداً من حياتنا الخاصة يمكن إبقاؤها بمنأى عن المراقبة الرقمية بعد أن تحول المنزل الحديث، المتخم بالأجهزة المرتبطة بالشبكات الإلكترونية، إلى محطة بث رقمية تنقل البيانات بلا توقف أو كلل إلى طيف واسع من الشركات الربحية التي لا يشعر بها الآباء والأمهات والأطفال العاديين.
هذا الإنفجار في حجم البيانات دقّ ناقوس الخطر لدى سلطات الولايات الأميركية والعاصمة الفيدرالية، حيث اقترح المشرعون عدداً من التشريعات المتعلقة بالخصوصية هذا العام، ولكن هذه الجهود التنظيمية قوبلت بمقاومة من جانب شركات مثل غوغل وفيسبوك التي تعتمد على المعلومات الشخصية لبيع الإعلانات، وبالتالي لم يمرّر أي من مشاريع القوانين المقترحة.  ويقول مراقبو الخصوصية إن الأمر قد يستغرق سنوات قبل أن تتمكن وسائل الحماية القانونية من اللحاق بالممارسات التجارية وتقييدها.
خلال ذلك، ومع تزايد إدراك الناس لمدى المتابعة المفروضة على تحركاتهم، أخذ بعض دعاة الخصوصية يشعرون بالقلق من أن ينقلب الناس إلى مراقبة أنفسهم بأنفسهم عند استعمال التكنولوجيا بأن يتجنبوا الذهاب الى الأماكن، أو البحث عن المعلومات، التي قد تكون مرفوضة من وجهة نظر الآخرين. وهذا يمكن أن يشمل مجالات مثل الدين والتوجهات الجنسية والميول الإنتحارية.
أجهزة إيريك الرقمية، التي لا تختلف عن تلك الموجودة لدى ملايين الأسر الأميركية، تغذي نهراً هائلاً من البيانات الشخصية يصب في خوادم شركات التكنولوجيا حيث تحفظ المعلومات إلى أجل غير مسمى. هذه البيانات تجرى غربلتها لاستخراج الأنماط السلوكية التي يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة للمسوّقين المتطلعين إلى التركيز المفصل على المستهلكين المتوقعين لشراء منتجاتهم.
يعتبر جهاز آي فون بمثابة مانعة صواعق لمخاوف الخصوصية. فعلى غرار بقية مجهزي الهواتف الذكية تحتفظ شركة أبل بقواعد بيانات للأماكن ترسلها إليها عشرات الملايين من أجهزة الآي فون. وتستعمل الشركة تلك البيانات، كما تقول، لتحسين عروض منتجها الذي يضم نظاماً للإعلان عبر الهاتف النقال يدعى "آي اد" يتيح للمعلنين استهداف المستهلكين على أساس موقع تواجدهم الحالي.
يحاول المسوقون بشكل متزايد الوصول الى المستهلكين في أماكنهم بحيث يمكن أن يعرضوا عليهم الصفقات والخدمات من خلال أقرب المواقع إليهم. والخدمات القائمة على تحديد الموقع سوف تنمو إلى حجم 8,3 مليار دولار بحلول العام 2014، أي حوالي ثلاثة أضعاف حجمها الحالي، استناداً الى مؤسسة غارتنر للأبحاث.
كذلك يقوم جهاز آي فون، بالإضافة إلى إرسال موقع الهاتف الى شركة أبل، بالتدقيق المتكرر مع شركة الإتصالات التي تتعقب مكان الهاتف بحيث ترسل اليه المكالمات والرسائل النصية بسرعة عند الضرورة. وتمتنع شركة الإتصالات "أي تي اند تي" عن إعطاء أية تفاصيل تتعلق بسجلات المواقع التي تحتفظ بها، ولكن في وقت سابق من العام الحالي أقام السياسي الألماني مالته سبيتز دعوىً قضائية ضد شركة دويتشه تيليكوم، وطالب بالإطلاع على البيانات التي جمعتها عن أماكن تواجده.
وكانت النتيجة حوالي 36 ألف قطعة بيانات رسمها موقع الأخبار الالماني زايت اونلاين، فأظهرت تغطية أمدها ستة أشهر من تحركات سبيتز في أنحاء ألمانيا على مستوى الشارع والقطارات والطائرات، بالإضافة إلى أوقات إجرائه المكالمات وارسال الرسائل النصية.
وفي وقت سابق من العام الحالي اكتشف الباحثون أن آي فون يحتفظ بسجل تفصيلي عن أماكن تواجده بالضبط، وتقول أبل أن وسائل مراقبة خاصة ضمن برمجة آي فون جعلته يخزّن بيانات مكان المستخدم لسنة كاملة. وقد تم تغيير البرمجة لاحقاً لخزن ما مقداره أسبوع فقط من البيانات.
وقد يفاجئنا جمع البيانات بالظهور في أماكن غير متوقعة. فعندما يدخل إيفان هارتمان، 11 عاماً، إلى موقع لعبة "عالم الحرب"، وهي إحدى ألعاب الفيديو الرقمية المشهورة، تقوم الشركة المنتجة "بليزارد" بتسجيل مكانه ونوع الكمبيوتر الذي يستعمله ومعلومات حول سلوكه في اللعب.
وتشير سياسة الخصوصية لدى شركة بليزارد إلى أنها تتشاطر النظرة العامة بشأن طريقة اللاعب مع المعلنين والشركاء. وقد امتنعت الشركة عن الادلاء بتفاصيل حول نوعية بيانات اللعب بالتحديد التي تقوم بجمعها، أو مدة احتفاظها بها.
عندما يذهب إيريك هارتمان مع زوجته الى محل البقالة فإنه يستعمل تطبيقًا في الآي فون يدعى "كارد ستار" يقوم بخزن نسخ رقمية من البطاقات الخاصة بعشرات محال البيع بالمفرد. وبدلاً من حمل بطاقات بلاستيكية تخص المتاجر العديدة التي يتعامل معها يستطيع استعمال الآي فون لإظهار "الشفرة الخيطية لتعريف السلعة" أمام موظف التدقيق.
وتسمح بطاقات الزبائن لتلك المتاجر بجمع سنوات من البيانات عما يشتريه كل زبون، وهي بيانات تؤجرها لشركات متخصصة في فحص المعلومات لتحديد ميول الشراء. بالتالي تستطيع المتاجر استهداف زبائن معينين بشكل أفضل لأغراض الترويج، أو تكوين مجاميع من المنتجات التي تعتقد إنها يمكن أن تباع مجتمعة حين تعرض معاً.
وقد أصبح إنشاء ملف شخصي سلوكي عن الزبون أكثر سهولةً في عالم التواصل الاجتماعي، حيث إن أول ما يقوم به المشترك في الموقع هو إعطاء صورة ذاتية تفصيلية عن نفسه. فعندما يمد سبنسر هارتمان، 16 سنة، يده إلى تطبيق "آي بود توتش" ليتفحص موقع فيسبوك يكون أكثر ما يشغل اهتمامه هو رؤية ما يتحدث به أصدقاؤه.
وعندما ينقر سبنسر على ملفات أو صور الأصدقاء أو يترك رسائل لهم قد ينسى فيما بعد من الذي نقر عليه في ذلك اليوم ولماذا، ولكن فيسبوك لا ينسى.
وعلى صفحة الكترونية تصف قدرة فيسبوك على توفير "استهداف دقيق"، يقول هذا الموقع الإجتماعي أن كلاً من مستخدميه البالغ عددهم 750 مليون شخص يملأ ملفاً حيث يتشاطرون المعلومات مثل: ماذا يفعلون الآن وتاريخ ميلادهم ومهنتهم والفرقة الموسيقية المفضلة والأفلام والبرامج التلفزيونية والإهتمامات الأخرى.
وقد تحول ميل مستخدمي الشبكة الإجتماعية للإعلان عن اهتماماتهم لأصدقائهم نعمةً للمسوقين الرقميين. ففي موقع فيسبوك، يستطيع المعلنون استهداف آلاف الفئات الفرعية التي حددها المستخدمون بأنفسهم.
كثيراً ما يواجه فيسبوك انتقادات بسبب طريقة تعامله مع بيانات الخصوصية العائدة للمستخدمين. وفي واحد من أحدث الأمثلة ذكرت الشركة الأمنية سيمانتك أن عيباً في الموقع الإجتماعي بقي قائماً لسنوات جعل المعلومات الشخصية لمئات ملايين المستخدمين مكشوفة أمام المعلنين.
المستهلكون الذين يقضون الساعات يومياً في استعمال بحث الويب المجاني وخدمات التواصل الاجتماعي من شركات مثل ياهو وغوغل وفيسبوك قد لا يتذكرون دائماً أن تلك الشركات تراقب عن كثب عادات المستخدم الرقمية من أجل تكوين ملفات شخصية مفصلة عن سلوكياتهم وتفضيلاتهم وأنماطهم الشرائية.
موقع ياهو، الذي اعتبر ثاني أكثر المواقع الاميركية من حيث حركة المرور في شهر آب بتسجيله دخول أكثر من 177 مليون زائر، يجني كل إيراداته السنوية تقريبا البالغة 6 مليار دولار من الإعلانات على الشبكة.
هذا المستوى من جمع البيانات يتجلى حالياً في غرف الجلوس. فعندما تجلس عائلة هارتمان في المساء لمشاهدة التلفزيون معاً، يقوم مزودوهم بالخدمة بمراقبتهم أيضاً. فعند تقليبهم القنوات تسجل علبة الكيبل خيارات المشاهدة لديهم، بينما يرسل جهازا "تلفزيون أبل" و "نينتندو وايي" معلومات عن الرسوم التي دفعت لقاء مشاهدة الأفلام والتلفزيون الى شركتي أبل ونيتفليكس على التعاقب.
كان تقييم البرامج والقنوات التلفزيونية يجرى بأسلوب تقليدياً عبر الإستعانة بمجموعات كبيرة من المتطوعين الذين يسجلون دخولهم على البرامج التي يشاهدونها من خلال النقر على جهاز التحكم عن بعد ليؤكدوا إنهم لم يغادروا الغرفة. ولكن أجهزة الإستقبال الرقمية الحديثة غدت وسيلة أفضل بكثير لجمع بيانات المشاهدة من دون حاجة لجعل المشاهدين يشاركون بأنفسهم. فهذه الأجهزة تبقى تتابع ما يشاهده المستهلك لحظة بلحظة، وقد تشمل البيانات التي يسجلها الجهاز ما إذا كان المشاهد يميل إلى تغيير القناة أو أخماد الصوت أو تعجيل سرعة العرض خلال فترة الإعلانات.
في الوقت الحاضر تحاول عائلة هارتمان أن تعالج الأمر باتباع أسلوب واقعي بشأن بياناتهم، فهم يدركون أن المعلومات المتعلقة بعاداتهم وطريقة حياتهم يمكن أن تقوم بجمعها شركات سمعوا ببعضها ولم يسمعوا بالبعض الآخر. وصار معلوماً لديهم أن أمر الحفاظ على خصوصياتهم منوط بهم دون سواهم.
بقلم ديفد سارنو
عن صحيفة لوس انجلس تايمز
 ترجمة - خالد قاسم

Share |