إشهدي يا عَرَاَقَ: أنّي لمْ أخُنْكِ بآلغيب!/عزيز الخزرجي-كندا
Sun, 20 Dec 2015 الساعة : 21:19

يا عراق آلأسى و الجّراح و الدّم و الدّموع .. ناديتكِ .. و كمْ ناديتكِ سرّاً و علانيةً وهمست بأذنيك في لياليك الحالكة على ضفاف دجلة كلّ همسات الحب الحزينة كأنثى مصونة لعشقيّ و حناني الأزلي و هيامي بك كمجنون ثار ضد قوى البغي الصدامية, حيث قدّمت كل إحترامي لكِ يوم أهانكِ و فضحك الجموع تلو الجموع و أنت لم تُراعي لي و لا لأصدقائي الطيّبين الشهداء حرمةً و لا حدّاً .. بل و نسيتِ بعد ما قسوتِ كل التضحيات و المواقف و أعْرضتِ عنّا بخُيلاء و كبرياء العالم كلّه .. و جهّزتِ كلّ جيوشك بحملةِ رجلٍ واحدٍ ضدنا, لكني و أصدقائي الذين حيّروا حتى ملائكة السماء بصفائهم و صدقهم لم نكرهك كثيراً حتى حينَ نبذتِينا و إحتضنتِ آلفاسدين و آلمتآمرين و البدو و الدّيلم و المنافقين بتوافقات و محاصصات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً!
بل في كلّ مرّة كنتُ و أصدقائي نُسامحكِ و نغضُّ الطرف عن جرائمك رغم أنكِ مقابل كل ذلك لم تعتذري أمامنا و لا مرّة واحدة .. و كم حاولتُ أن أنسى كلّ شيئ معك .. حتى مسقط رأسي .. و ذكرياتي الطويلة الكثيرة في كلّ مدينة و شارع و زقاق!
و ما إستطعت .. رغم مرارتها!
لأنّ ذنبي هو إني كنتُ أراكِ كإمرأة عذراء جميلة محتشمة كريمة أميرة فوق الأمراء تحتضنين كلّ قيم التأريخ و الأنسانية و آلحضارة, لذلك كنتُ أصبرُ عليك و كم داريتُك طويلاً لأنكِّ كنتِ تستحقين ذلك بنظر عاشق مجنون!
و ما علمتُ بأنَّ قلبكِ كان يتسع لكل آلفاسدين الحاكمين ألذين لم أطقهم و لم أطق أيّ شيئ منهم, لذلك هجرتهم كغريب بعد ما أبقيتيني وحيداً لا أنيس و لا صديق بسبب أساليبك الخداعة و حالة القهر و الجوع و الحصار و التعذيب الذي عانيته منكِ كآلجمر في أحشائي!
أيها العراق:
إن قلبكِ (بغداد) الذي عشتُ فيه و طالما بحثتُ و تأمّلتُ منه آلخير و المحبة كأيّ حبيب يتوقع من حبيبته الحبُّ و الرّحمة و الأمان في شوارعها و طرقاتها و أزقتها في (رأس القرية) و (شارع النهر) و (الباب الشرقي) و (الدهانة) و (النهضة) و (القشلة) و (أبو سيفين) و حتى (الكاظمية المقدسة), لكنك خيّبت ظنوني و أبداً ما أحسستُ بشيئ من الحنان و الراحة و حتى الأمن ..
لأنك لم تكوني ملجأً آمناً لي .. كما لم تكوني ملجاً لأخواني الشهداء الذين رحلوا بصمتٍ كأنهم غرباء!
كما لم تكوني كريماً معي و لا عاملتيني حتّى كضيفٍ من ضيوفك .. و كما كُنتِ مضيافاً و سخياً مع الغرباء كآلأقباط و أهل الحبشة و الصّومال و كل أراذل آلديلم الذين فضحوا بكارتكِ بلا حياء بعد ما دخلوا حياضك و إستباحوا غرفك حفاةً وسط الليل و آلنهار ليصبحوا في زمن قياسي أسياداً علينا بفضل نهج البعث اللئيم الذي حشرهم بعمدٍ و مكّنهم منّا و هم يتجسسون و يكتبون التقارير علينا بعد ما أصبحت صنعة كل زناة العراق!
فكمْ كنتِ قاسيةً عليّ يا بغداد .. و كم كُنتِ تعيسةً معي .. ما هكذا كان رسم الأحباب .. لكني لا و لم و لن أكرهك لأنّ قلبي أطهر و أكبر منك بكثير و أصيلٌ لم يتدنس بآلفحشاء كما أنتِ, لأني ما سمحتُ لأيّ غريب طرق بابه!
و إنني .. و رغم كل ما رأيته من أذى و تشريد بسببك و لعمق إصالتي و طهارتي ما فرحتُ يوماً بقدركِ ألمأساوي الحزين الذي أحاط بك اليوم كما الأمس .. و الذي بدى لي طبيعياً بسبب ما كان و ما بدر منك خلال ما مضى .. لأنك حضنتِ الفاسدين الزّناة و كل لئيم و طريد على كلّ حال و رميت عرض الحائط من كان يُحبّك و يُخلص إليك في القُربِ كما في البعد!
و إعلمي بأنّي رغم كلّ ذلك الذي رأيتهُ كمط و ما جرى عليَّ بسببك .. حتى فقدتُ أعزّ و أطيب أصدقائي في الوجود .. لكنّي مع ذلك و كما تعرفين ما (خُنْتُكِ) يوماً بالغيبِ كما في (الحضورِ) .. حتى حينَ عُرضَتْ عليّ الدُّنيا بعد ما تغرّبتُ إلى أقصى ديار الأرض في شمال أمريكا – قرب القطب الشمالي - هرباً من جحيمك و جحيم الزّناة من حولكِ و الذي عُدّتُ لا أطيقهُ!
و بقيتُ لكِ وفيّاً رغم الألم و الحزن و البُعد الذي صاحبني نصف قرن حتى و أنا مُسجّىً آلآن على فراش الموت في آخر عمري أتابع و أرقب حالك و أقزام العراق و هم يهضمون الحقوق و يُمزقون القيم و يهدرون الكرامات لأجل شهوات عابرة أو قصر مُشيّد بإسم الوطنية و الجهاد و آلدّعوة للأسلام .. بعد ما هبّوا كآلجراد إبان سقوط صدام .. الصّنم الأجهل في تأريخ العراق من كلّ حدبٍ و صوبٍ!
بل تعاظمت المأساة في كياني و جوانحي حين إلتقيتك مرّة أخرى بعد غياب طويل دام لأكثر من ثلاثين عاماً؛ حيث كنتُ أظنّ بأنّك ندمتِ على الأقل من أفعالكِ و ستستغفرين و لو بصمتٍ ربّ الوجود على جرائمك بحقيّ و حقّ الأطياب الذين غيّبتهم سجونك المظلمة الرّهيبة ؛ لكني و يا للمأساة و سوء العاقبة؛ لم أرى أيّ ندمٍ أو حتى خجل على وجنتيك اللتين أحمرّتنا بلون الدم القاني, بل و رأيتك ما زلتِ طائشةً ترتاحين للزّناة و أبناء الحرام و تحتضين العاهرات و الأوباش و الأرذال و كل طريد و غريب إلّا منْ أحبّكِ بصدقٍ و أخلصَ لكِ بتفانٍ!
و لا أدري لماذا رغم إنّي تديّنت بدين آخر غير ذلك الدين التقليدي الذي تركت بصماته في كل مسجد و شارع و زقاق و مؤسسة و إلتزمت عقيدةٌ أخرى و ثقافة مغايرة لأصول التقليد المتحجر؛ و رغم كلّ ذلك الجفاء الذي لقيته منك بآلذات و القسوة و آلمعاناة الدائمة ما زلتُ وفياً لكِ يا حبيبتي بغباء مفرط .. و أتابع كآلمجنون بشكل لا إرادي كل صغيرة و كبيرة بشأنك, و أتألم لأخبارك حين أرى الزناة الجدد يحومون حولك و هم ينكحوك كل حسب مذهبه ؛ الشيعي بزواج المتعة و السُّني بزواج النكاح و البعثي بسنة القومية و الوطني بسنة الوطن و التكنوقراكي بآلديمقراطية, على ترانيم المهانة و الخضوع و ضربات الأرهابيين و أزيز البنادق و هجوم الطائرات الملعونة و السيارات المفخخة!؟
لكن إعلمي في الختام .. بأنيّ وسط هذه المناظر المقززة اللاأخلاقية و كلّ هذا العناء والقلق و الحيف و الغربة و المرض أحسّ بطعم آلسّعادة الحقيقية و الأمن بجانب العزّ و أشعر بكل آلفخر و الفلاح و السّمو و العاقبة الحسنى؛ لأنّي لم أخُنْكِ و الله يا بغداد حتى بآلغيب و كما خانَكِ المُدّعين الحاكمين الذين يتّصفون بكلّ المواصفات السّياسية المطلوبة بحسب مقاسات (المنظمة الأقتصادية العالمية) إلا شيئ واحد؛
هو فقدان الحياء تماماً!
و لذلك باعوكِ بثمنٍ بخسٍ و فعلوا كلّ المحرمات من أجل المال و القصور و ملء البطون و ما دونه بقليل!
و بقيتُ وحيداً يا عزيزتي بغداد .. و سأبقى وفيّاً و أفتخر .. لكن ليس بكِ هذه المرّة, و إسمحي لي بذلك و عذراً على صراحتي و صداقتي معك لأنّكِ لم تعودي مصدراً للفخر بعد ما فضح الجميع بكارتك وسط النهار و أمام الملأ!
بل سأفتخر بنفسي لأنّي لم أسرق قوت الفقراء كما فعل الحاكمون .. كلّ الحاكمين الذين ناموا معك خلسة و أمام الناس في فناء دارك المستباح .. هذا رغم حقّي و حاجتي و جوعي و ألمي و مرضي, فأنتِ سلبتِ كل حقوقي, و لهذا فأنتِ مَدِينةٌ لي بعشراتِ الملايين من الأموال التي هضمها السّياسيون من حقوقي و حقوق الفقراء التي ضاعتْ وسط الفوضى و المحسوبيّة و المنسوبيّة و العاقبة للمُتقين..
و لا حول ولا قوّة إلا بآلله العلي العظيم.