تاملات في القران الكريم ح294/حيدر الحدراوي
Fri, 25 Sep 2015 الساعة : 15:05

سورة العنكبوت الشريفة
بسم الله الرحمن الرحيم
وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{60}
تبين الآية الكريمة ( وَكَأَيِّن ) , "كم" تفيد الكثرة , ( مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ) , لضعفها وقلة حيلتها , ( اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ) , الله جل وعلا تكفل برزقها واياكم وفقا لحكمته وتدبيره , ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) , وهو جل وعلا السميع لأقوالكم , العليم بضمائركم .
هناك عدة اراء تروى في سبب نزول الآية الكريمة , نذكر منها :
1- كانت العرب يقتلون اولادهم مخافة الجوع فقال الله يرزقها واياكم . "تفسير القمي" .
2- وقيل انها نزلت لما امر المسلمين بالهجرة قال بعضهم كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة فنزلت . "تفسير القمي , وكذلك يذهب الى مثل هذا الرأي السيوطي في تفسيره الجلالين" .
3- عن ابن عمر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله الى بعض حيطان الأنصار فأخذ يأكل تمرا وقال هذه صبح رابعة منذ لم اذق طعاما ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ما ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا بن عمر إذا بقيت مع قوم يخبئون رزق سنتهم لضعف اليقين فو الله ما برحنا حتى نزلت هذه الآية . "تفسير الصافي ج4 للفيض الكاشاني" .
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ{61}
الآية الكريمة تخاطب النبي الكريم محمد "ص واله" والمعني بالخطاب الناس كافة ( وَلَئِن ) , قسم , ( سَأَلْتَهُم ) , الكفار :
1- ( مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) : عن خالق السموات والارض .
2- ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) : عن مسخرهما .
سيكون جوابهم ( لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) , الله وحده , ( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) , فكيف يصرفون عن توحيده وعبادته , ويشركون به غيره جل وعلا .
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{62}
تقرر الآية الكريمة ( اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) , يوسعه عليه امتحانا او سعة من فضله , ( وَيَقْدِرُ لَهُ ) , او يضيق عليه امتحانا له او الله تعالى اعلم بما يصلح عباده , فبعض العباد لا يصلحهم الا الفقر , ( إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) , ومنه السعة او الضيق , وهو جل وعلا اعلم بموارد صلاحهم وفسادهم .
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ{63}
تستكمل الآية الكريمة موضوع سابقاتها ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا ) , سالتهم عمن هيأ الاسباب لهطول المطر فأحيا الارض بالنبات ودبت فيها حركة الدواب , بعد ان كانت جرداء قاحلة , ( لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) , سيقول الكفار معترفين "الله" , ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) , بثبوت الحجة عليكم , ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) , لا يعقلون تناقضهم , يقرون بأن الله تعالى الخالق والمدبر , ثم يعبدون الأصنام ويشركونها بالشفاعة والخلق والتدبير .
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{64}
تبين الآية الكريمة مقررة ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) , بيانا لضيق امدها وسرعة زوال ملذاتها , ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) , فهي الحياة الحقيقية لاستمرارها وانعدام الموت فيها , ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) , لو كانوا يعلمون ويدركون لما آثروا عليها الدنيا الفانية .
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ{65}
تبين الآية الكريمة ( فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ) , السفن مع ما هم عليه من الشرك , ( دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) , اخلصوا دعاءهم لله وحده جل وعلا , وذلك لانهم في خطر لا يكشفه عنهم سواه , ( فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ) , بمجرد ان تكتب لهم السلامة وترسوا سفنهم "سفينتهم" على البر الامان عادوا الى الشرك .
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ{66}
تستمر الآية الكريمة موضوع سابقتها ( لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ) , بنعم الله عليهم , ومنها النجاة , ( وَلِيَتَمَتَّعُوا ) , في اجتماعهم على الاصنام وتوادهم بها وعليها , ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) , عاقبة امرهم .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ{67}
تستمر الآية الكريمة مبينة ( أَوَلَمْ يَرَوْا ) , اهل مكة , ( أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً ) , امانا لمن حلّ فيه من القتل والسلب وغيره , ( وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) , حيث كان العرب حول مكة في غارات وسلب ونهب على بعضهم البعض , ( أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ) , بعد كل هذه النعم عليهم ومنها امن بلدتهم يؤمنون بالشرك , ( وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ) , يكفرون بشركهم .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ{68}
تبين الآية الكريمة ( وَمَنْ أَظْلَمُ ) , لا احد اكثر ظلما من :
1- ( مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ) : بالشرك او نسبة الابناء والصاحبة له تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
2- ( أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ ) : او كذب بالحق الثابت والصريح الذي جاء به الرسول .
( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ) , تهديدا لمن افترى على الله تعالى او كذب بالحق .
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{69}
تبين الآية الكريمة ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ) , يشمل الجهاد الباطني للنفس والظاهري للعداء , ( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) , نوفقهم الى طرق السير نحونا , نحو تكامل الايمان , ثم الوصول الى حضرتنا , ( وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) , يقرر النص المبارك ان الله تعالى في معية الذين احسنوا العمل بالنصرة والتأييد والتسديد والتوفيق , ونلاحظ هنا حرف اللام ( لَمَعَ ) , لمزيد من التأكيد , لتختتم السورة الشريفة بها .
حيدر الحدراوي