قصة قصيرة قديمة/مير عقراوي

Sun, 30 Aug 2015 الساعة : 14:32

يروى في عالم القصص والحكايات القديمة عما مضى ، في غابر الدهر والزمان ، في أحد أصقاع العالم قصة عجيبة غريبة ، هي كالتالي كما رواها رواة القصص والحكايات ، أما صحتها وعدمها ، فذلك مسؤوليتها تقع على رواتها وقصَّاصيها :
في منطقة ما كانت تسكن قبيلة كبيرة مكونة من عدد من العشائر والبطون والأفخاذ . كانت العلاقات بين الناس في هذه القبيلة جيدة وطيبة على الغالب ، كانوا يمتهنون الزراعة وتربية المواشي والأغنام .
هذه القبيلة كانت تُدار وتُحكم من قبيل رئيس القبيلة وشيخها ، حيث هو ورث وتوارث مشيخة القبيلة عن أبيه فجده . وذلك بحسب أعراف القبيلة وعاداتها القبلية . كان أولاد وأقرباء شيخ القبيلة لهم الكلمة الفاصلة بعد شيخ القبيلة بين الناس ، مضافا  كان لشيخ القبيلة حاشية ومجموعة كانوا يأتمرون بأمره وينفذون له ما أراد وما يريد ، وما شاء من الأوامر والخدمات ..
كان لشيخ القبيلة أيضا مجلس عينه هو ، وآختاره هو ، حيث كان يضم عددا من شيوخ وبطون وأفخاذ القبيلة ، حيث كان أكثرهم طاعنون في السن ، لكن بالحقيقة لم يكن لهذا المجلس في القبيلة أيَّ تأثير وفاعلية ، لأن شيخ القبيلة وأبناءه وأهله ومن دار في دائرته الإدارية الضيقة كانوا هم الآمرون الناهون الحاكمون لشؤون ومصير القبيلة والناس كلهم ، وكان الحكم بغالبيته حكما جائرا وقاهرا بعيدا عن العدل والإنصاف .
 لهذا آستاء أغلب الناس من هذا الحكم المتعسِّف والمستبد والجائر ، ومن ظلم شيخ القبيلة وأهله وأتباعه ، لكنهم كانوا يعجزون من فعل شيء يرفع عن كاهلهم ما يعانونه من ظلم وجبروت شيخ القبيلة ومجموعته الخاصة المحيطة به إحاطة السِوار بالمعصم ...
بعد كل هذا الكبت الاجتماعي وتراكم طبقات القهر والظلم على الناس لسنين طوال عِجاف ، بعضها فوق بعض ، تجمَّع بعض الشباب في مكان ما بالقبيلة ، وذلك لتدارس هذا الموضوع الخطير ومناقشته ، مع محاولة إيجاد حل لمظالم الناس والعبودية التي يعانون منها . لكن بما إن عيون شيخ القبيلة كانت منتشرة في أنحاء القبيلة كلها ، بالتالي تمكنت العيون < أي جواسيس وأمن شيخ القبيلة > من رصدهم ومعرفتهم واحدا واحدا ، ثم أمر بتصفيتهم واحدا تلو الآخر ، حيث كل واحد بطريقة خاصة تم التخلص منه . من العجيب في القصة إن شيخ القبيلة نفسه كان يذهب الى أسرة المرحوم المغدور به ، فكان يعزيهم ، مع عدم نسيانه تقديم بعض الأرزاق لهم خلال مراسم العزاء ، وكان يقول في كل مجلس عزاء بأنه ينبغي تشكيل لجنة للتحقيق في أسباب مقتل ، أو الموت الغامض والمفاجيء لهؤلاء الشباب . بالحقيقة كانت جميع لجان التحقيق المزعومة التي كان شيخ القبيلة يأمر بتشكيلها ، وذلك للتحقيق والمتابعة لمعرفة الجُناة كانت حبرا على ورق ، هي كانت لإمتصاص غضب الناس من جهة ، ومن جهة ثانية كانت للتستُّر على الجناة من قتلة شيخ القبيلة  ..
 في هذا الموضوع كان عددا غير قليل من الناس البسطاء كانوا مبهورين بإخلاص شيخ القبيلة للناس في قبيلهم ... كان في القبيلة أيضا مجموعة يحاولون بكل جهدهم بث الوعي بين الناس وتنويرهم وتبصيرهم بما هم عليه من الظلم والقهر والإستعباد والإذلال من حكم شيخ القبيلة لهم ، لكن جهود هؤلاء لم تكن مؤثرة كثيرا ، لأن شيخ القبيلة كانت له الثروات الطائلة والأعوان الكثر ، حيث كانوا يزيِّنون للناس صورة شيخ القبيلة وحكمه الصالح ونزاهته في إدارتهم ، مضافا الى مجموعة الرهب والخوف والبطش والفتك العلنية والسرية لشيخ القبيلة التي زرعت الهلع والذعر بين أبنائها ...
في يوم من الأيام تعرضت هذه القبيلة لهجوم عدواني قوي وكبير من قبل عصابات كانت معروفة في تلك المنطقة بالسرقة والسطو وقطع الطريق والغدر  ، فأعملوا في القبيلة قتلا وحرقا ونهبا لأموال الناس ... الكثير من النساء والأطفال والرجال والشباب والشيوخ قتلوا ، أو جرحوا ، لكن لم يصب شيخ القبيلة ولا فردا واحدا من أبناءه وأهله بجرح شوكة ، لأنهم تمكنوا من الهرب وترك القبيلة وأهلها لمصيرهم المحتوم المنكوب ، حيث رحمة العصابة المسلحة الغادرة والمتوحشة .. حيث الخطف لعدد كثير من بنات ونساء القبيلة ، هو كان أعظم حالة كارثية ومأساوية عند القبيلة المغدورة كلها ..
بعد أيام مما تعرضت له القبيلة من المأساة والدمار أمر شيخ القبيلة بجمع جميع الناس في صعيد واحد ؛ نساءا وأطفالا ورجالا ، شبانا وشيوخا .. لما آجتمعوا قام رئيس القبيلة فيهم خطيبا ، فتحدث عما جرى لهم من المأساة الكبرى والفاجعة العظمى ، ثم قال مرات عديدة : أنا أعتذر لكم كل العذر ، فالذي جرى أنا المسؤول ، وأنا أتحمل مسؤوليته بشكل مباشر ، لأنه لولا – والكلام مازال لشيخ القبيلة – ظلمي وجوري وآستعلائي على الناس ، ولولا سوء تصرفاتي وأهلي وسوء إدارتي للقبيلة لما حصل الذي حصل أبدا ، لهذا السبب من بعد اليوم لست شيخا للقبيلة ، لأني لأستحق هذا المنصب والمسؤولية ، فآختاروا أيها الناس ، وأنا سأساعدكم في ذلك رجلا قويا وعادلا ونزيها وصالحا مكاني لمشيخة القبيلة ورئاستها ، ثم أضاف شيخ القبيلة : أنا أعترف بأني وأهلي وحاشيتي قد نهبنا وآستولينا بالظلم والقوة والخداع والغدر على الكثير من أموالكم وثرواتكم وأراضيكم ، لكني سأردها جميعا اليكم ، فهي حقوقكم التي إستولينا عليها بطرق الباطل والفساد والغدر والقوة ، إني أقسم بالله تعالى ، ثم بكرامة الدماء والدموع والآهات للناس في القبيلة كلها بأني سوف أرد كل حقوقكم ومظالمكم اليكم .. مرة أخرى ختم شيخ القبيلة بتقديم أشد الاعتذار والأسف للناس في القبيلة والدموع تنحدر من عينيه بغزارة ، بل كان يبكي كالطفل .
بعدها قام الشيخ بتشكيل لجنة مؤقتة لإدارة القبيلة وتسليم جميع الأموال والثروات الى أصحابها الحقيقيين ، وقد إستغرق ذلك أسبوعا واحدا ، ثم بعدها قام الشيخ بمساعدة اللجنة المؤقتة وجمع آخر من وجهاء القبيلة بالنظر في إنتخاب شخص آخر محلة لمشيخة القبيلة ، لأنه – كما قال هو – لم يعد يصلح لرئاسة القبيلة أبدا ، فآختاروا رجلا حكيما وونزيها وعاقلا وشجاعا لمشيخة القبيلة ورئاستها ، وأول من باركه كان شيخ القبيلة السابق الذي قال لشيخ القبيلة المنتخب الجديد : أنا أمام الله تعالى ، وأمامك أيها الشيخ الجديد للقبيلة ، وأمام الناس كلهم أعترف بظلمي وسوء إدارتي للقبيلة ، لهذا فأيَّ حكم ترضونه عليَّ فهو عدل ولا آعتراض لي عليه ، لكن الشيخ الجديد قال : المهم هنا رأي الناس ، ثم الناس الذين أمرت بقتلهم خلال مشيختك للقبيلة ، صحيح إن الثروات والأراضي تم آسترجاعها ، وذلك برجوعك – كان يخاطب الشيخ السابق للقبيلة – عن خطاياك والتوبة النصوح التي قمت بها ، لكن الأرواح التي أزهقت ظلما لاترجع مرة ثانية ، فذلك أمره متروك للمحكمة العادلة . بالحقيقة نادرا ما يفعل شيخ قبيلة ، أو رئيس قبيلة ذلك ، أي هكذا ندم وتوبة ورجوع الى الحق والعدل . حينها قرروا تشكيل عدة مجموعات للبت في هذه القضايا على أساس الحق والعدل .. كما تقول القصة فإن الشيخ الجديد كان رجلا صالحا وعاقلا ونزيها وبعيد النظر ، حيث أول خطوة قام بها ، هي تشكيل مجلس شورى واسع للقبيلة تضم في عضويتها جميع العشائر والبطون والأفخاذ الذين ينضوون تحت راية القبيلة ، ثم أمر بالاجتماع حول كيفية إيجاد قوة مسلحة كبيرة ومدربة لصد أيَّ عدوان خارجي محتمل ، ثم أمر الشيخ بالعمل الجدي ليل نهار من أجل إستعادة المخطوفين والمسبيات اللاتي تم خطفهن من قبل عصابات قطاع الطرق الغادرة . بعد مدة قليلة تمنوا من إستعدة جميع المخطوفين والمسبيات وقتل أكثر عدد من المجرمين وأسر عدد من رؤوسها ، وذلك لمحاكمتهم بالعدل على ما آقترفوه من الجرائم العظمى بحق القبيلة وأهلها الأبرياء .
تم تشكيل المحكمة ، فقدم رؤوس العصابة الى المحكمة ، ثم تلا رئيس المحكمة جدولا لجرائمهم البشعة والوحشية حيال الأطفال والنساء والعزل من الرجال والشباب والشيوخ ، فقال هؤلاء : نحن نعترف بأننا مجرمين وآقترفنا جرائم فظيعة ، لذا فأيَّ حكم ترونه علينا فهو عين العدل والانصاف .. بعدها تلا القاضي الحكم النهائي العادل ضد هؤلاء .. بعدها أصبحت القبيلة منعمة بمشيخة عادلة وعاقلة ونزيهة ، وبحكم يشترك فيه جميع الناس في القبيلة ، فتطورت القبيلة تطورا سريعا من نواحي الأمن والأمان والاستقرار المجتمعي ، وعلى صعيد الثروات والتجارة ، وعلى صعيد السلاح والقوة العسكرية للقبيلة ..

Share |