النفحة الإلهية التي تجذب القلوب إليه سبحانه/سيد صباح بهبهاني
Wed, 8 Jul 2015 الساعة : 17:50

المقدمة |
فاطمة بنت أسد عليها السّلام هي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ولدت في مكة المكرمة. زوجة ابن عمها أبي طالب وهي أم طالب وعقيل أم جعفر الطيار وأم علي بن أبي طالب وكانت كأم لمحمد بن عبد الله رسول الإسلام منذ صغره. أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشرة من المسلمين وكانت الحادية عشرة منهم والثانية من النساء. هاجرت إلى المدينة المنورة وتوفيت في السنة 4 للهجرة النبوية ودفنت في مقبرة البقيع . تزوجت فاطمة بنت أسد من أبي طالب فقط وكانت أول امرأة هاشمية تتزوج رجلاً هاشمياً. أسلمت في السنين الأولى للبعثة النبوية. وهي بمنزلة ألام لرسول اللَّه وكان يحبها ويحترمها ويناديها بأيامي .
كانت أوّل امرأة هاجرت إلى رسول اللَّه من مكّة إلى المدينة على قدميها، وكانت من أبرّ النّاس برسول اللَّه، فسمعت فاطمة رسول اللَّه وهو يقول : «إنّ النّاس يحشرون يوم القيامة عراة كما ولدوا»، فقالت: فسوأتاه، فقال لها رسول اللَّه فإنّي أسأل اللَّه أن يبعثك كاسية .
وهي أول امرأة بايعت . محمد بن عبد الله بعد نزول آية « يأَيهَا النَّبيُّ إِذَا جَاءَك المُؤمِنَات يبَايعنَك ...>> .
ولد الإمام علي في جوف الكعبة لدى كافة المسلمين وهي الوحيدة التي ولدت في الكعبة المشرفة وادخلها جبريل عليه السلام .
عن يزيد بن قعنب، قال: كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب وفريق من عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكانت حاملا به لتسعة أشهر وقد أخذها الطلق، فقالت : «رب إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وأنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي >>.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول بها يا أمي وترحم عليها ودفنها وقال : ثم قال: «اللهم ثبت فاطمة بالقول الثابت، رب اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي لأنك ارحم الراحمين», ثم ضرب بيده اليمنى على اليسرى فنفضهما, ثم قال: والذي نفس محمد بيده لقد سمعت فاطمة تصفيق يميني على شمالي .
النفحة الإلهية التي تجذب القلوب إلى الحضرة القدسية, فتآنست القلوب بالله، وفرتْ مما سواه فترى الرجل حين تهب عليه هذه النفحة، بواسطة أو بغير واسطة، يفر من الخلق، الأقارب والأجانب، أُنساً بالله وشُغلاً بذكره، لا يزال هكذا حتى يصل إلى مولاه، ويتمكن من شهوده أيَّ تمكُّن، فحينئذ يخالط الناسَ بجسمه, ويفارقهم بقلبه ذكروا المؤمنين والأئمة وكما القائل ونعم ما قال :
إِنَّي جَعلتُكَ في الفُؤَادِ مُحَدّثي ** وأَبَحْتُ جسمي مَنْ أراد جُلوسي
فَالْجِسْمُ مني لِلْجَلِيس مُؤَانِس ** وحبيبُ قَلْبي في الفُؤادِ أنِيسي
قالوا بعض السلف الصالح من المؤمنين : الاستقامة أن تشهد الوقت قيامة، فَما مِن وَلِيًّ وعارفٍ إلاّ وهو اليومَ يَفرُّ بقلبه من الجميع؛ لأنّ لكل شأناً يُغنيه، فالعارفُ مع الخَلْق لا بقلبه فالمرجو أن تصفوا النية يا أصحاب الشهادتين وتتركوا التفرقة وأسم غير الإسلام كما في سورة آل عمران 85 و19 وتوجد 3 بعد نافس وجدها بنفسك وتمتعت بالقرآن في شهر رمضان المبارك وأذكر الله ورسوله والمؤمنين وأهل البيت الذين نصهم .
إطلالة البدر
تقلّد عرب الجاهليّة قبل بعثه رسول الله صلّى الله عليه وآله طوقَ عبوديّة الشيطان، وكانوا يتسابقون في القتل والغارة على بعضهم البعض، ويفتخرون بوأد بناتهم، بل تفاخروا بكثرة أمواتهم في قبورهم. وكان الشيطان يزيّن لهم تلك الأعمال المنكرة، ويحتبل عقولهم بأحابيله، ويضلّهم بأضليله، ويحجب عن فطرتهم ـ بوساوسه ومكره ـ تلألؤها وصفاءها ونصاعتها، كي لا تدعوهم ـ إذا غدت صافية خالصة ـ إلى عبادة الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا وزير .
وكان ذلك زماناً قبع فيه الإنسان ( خليفة الله ) في قعر الظلمات، وتخبّط في مستنقعات الضلالة بعيداً عن ربّه، لا يُقيم وزناً لعِلمٍ ولا لمعرفة، ولا يستنكف عن تلويث نفسه بأقبح الرذائل والمعاصي.. زماناً وصفه ـ فأحسنَ وَصْفَه ـ أميرُ المؤمنين عليه السّلام، في قوله :
وأنتم ـ معشرَ العرب ـ <<على شرِّ دِين، وفي شرّ دار، مُنيخون بين حجارةٍ خُشنٍ، وحيّاتٍ صُمّ، تَشربون الكَدِرَ، وتأكُلون الجَشِب، وتَسفِكون دماءكم، وتَقطعون أرحامَكم؛ الأصنامُ فيكم منصوبة، والآثامُ بكم مَعصوبة >> (نهج البلاغة الخطبة 21 ) .
وعاش في تلك الحقبة المظلمة من التاريخ أُناس تصدّوا لسيل الضلالة كالجبل الراسخ المنيع، ولم يلوّثوا فطرتهم التوحيدية السليمة بعبادة أصنام من الحجارة والخشب، ولم يُودعوا قلوبهم غير الله الواحد الأحد، أُناس لم تترك عليهم البيئة صبغتها، إذ أنِفوا لأنفسهم أن يتشرّبوا بآثارها وينطبعوا بنهجها، فبقيت قلوبهم طافحة بحبّ الله تعالى، عامرةً بالإيمان به سبحانه .
وكان من بين هؤلاء الموحّدين فتىً شريف لم ينزّه فطرته عن عبادة الأصنام والتفاخر الباطل والحروب والغارات والآثام فحسب، بل كان ـ فوق ذلك ـ يدعو ربّه الواحد الأحد في خلوته من أجل نجاة قومه من أعمال السفهاء، ويأخذ بأيديهم إلى سبل الهداية والرشاد .
وكان هذا الشاب من أحفاد إبراهيم الخليل عليه السّلام، وكان يقتفي أثر جدّه الخليل، ويجهد نفسه على صعيد الفِكر والعمل في اللَّحاق بخُطى جدّه الكبير .
كان هذا الشاب يُدعى << أسد >>، واسم أبيه الجليل << هاشم >>. ولم يَغِب عن بال << أسد >> بفكره ودرايته أنّ أفضل سُبل طمأنينة الروح والجسد بالنسبة إلى شاب في مُقتبل العُمر هو الزواج، ولذلك اغتنم ذات يوم فرصةً مناسبة فأخبر والديه برغبته في الزواج، فاستحسن أبوه رأيه ووعده أن يساعده على تحقيق ما أراد .
وشرع الأبوان يبحثان عن فتاة شريفة من أسرة كريمة تكون زوجة صالحة لابنهما، فعترا على بُغيتهما في فتاة تدعى « فاطمة » تنحدر من نسب عريق أصيل، ويشترك أجدادها من الأب والأم مع أجداد النبيّ صلّى الله عليه وآله في جدّه الأكبر << فِهْر >> (فاطمة بنت هرم بنت هرم بن رواحة بن حجر ، المصدر من شرح نهج البلاغة لأبن حديد 1 : 6 ، وبحار الأنوار ،للمجلسي 35 : 182 ) .
الخِطبة
ثمّ إنّ أبا أسد فاتَحَ أبا فاطمة وخطب منه ابنته فاطمة لابنه أسد، وتزوّج أسد من فاطمة قبل هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله بما يقرب من 60 عاماً، فرُزق منها ابنة وسيمة سمّاها << فاطمة >> أيضاً .
كان أسد يحب ابنته فاطمة كثيراً على الرغم من أنّ العرب كانوا في ذلك الوقت كما وصفهم القرآن لقوله تعالى : (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ )النحل /58 ولقوله تعالى : (يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) النحل / 59 . وكان من العرب من يئد بناته الصغار خوفاً من أن يلحقهم بسببهنّ العار إذا ما سُبين. وكان أوّل من سنّ ذلك فيهم: قبيلة << بنو تميم >>، فقد أرسل إليهم النعمان بن المنذر ـ حاكم العراق ـ جيشاً كبيراً فأغار عليهم ونهب أموالهم وسبى نساءهم، فأرسل إليه كبار بني تميم وفداً وسألوه أن يُطلق سراح بناتهم ـ وكان بعضهنّ قد تزوّج في الأسر ـ فخيّرهن النعمان بين العودة أو البقاء، فاختارت ابنة << قيس بن عاصم >> أن تبقى مع زوجها، فصدم ذلك هذا الشيخَ الكبير ـ وكان مقدّماً في قومه ـ فعاهد نفسه أن يَئد كلّ فتاة تولَد له بعد ذاك، ثمّ انتشرت هذه السنّة والطريقة بين قبائل العرب الأخرى ( أسد الغابة ، لأبن الأثير ـ ترجمة قيس بن عاصم ) .
المرأة قبل الإسلام
كانت المرأة يوم ذاك تُباع وتُشترى، شأنها شأن البضاعة، كائناً محروماً من جميع الحقوق الفرديّة والاجتماعية، حتّى من حقّ الإرث. وكان رجالات العرب يعتبرون المرأة في عداد الحيوانات، ويجعلونها في عداد لوازم المعيشة ومتطلّباتها. وكانت المرأة إذا طلّقها زوجها، لا يحقّ لها الزواج من غيره إلاّ بإذن منه، وإذنه مرهون ـ في الغالب ـ باسترجاعه المهر الذي دفعه إليها. وكانت المرأة ـ فوق ذلك ـ تنتقل وتورث كما يُورث أثاث البيت ولوازمه .
وعلى الرغم من هذا الجوّ الحاكم على محيط بلاد الحجاز، خالَفَ أسد ـ مدفوعاً بفطرته وإيمانه وتوحيده ـ هذه الأفكار وهذه الممارسات، وكان يغرس في قلب << فاطمة >> الصغير عقائدَ التوحيد، حتّى نشأت امرأة كاملة مؤمنة.. فكانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإيمان، وكانت امرأة طيّبة السيرة، لبيبة عاقلة، بصيرة بأمور آخرتها، ذكيّة، عفيفة، طاهرة. وكانت على ( الحنيفيّة ) دين النبيّ إبراهيم الخليل عليه السّلام، فلم تسجد ـ حتّى قبل الإسلام ـ لصنم قطّ ( رياحين الشريعة ، بالفارسية 3 : 6 ) .
ويدلّنا على توحيدها وسلامة فطرتها مناجاتُها العجيبة عند الكعبة حين ضَرَبها الطَّلْق ـ وكانت حاملاً بأمير المؤمنين عليه السّلام ـ في عصر كان معظم سادة العرب وكبرائهم يعبدون القمر والنجوم والأصنام، ويكفي في جلالة قدرها ما قيل في حقّها :
كانت فاطمة بنت أسد من فُضلَيات الهاشميّات، بَزَغتْ في عصرها شمساً في سماء الكمال تتنقّل في أبراجه. شَرَفُ حَسَبٍ، فكَرَمُ مَحتِدٍ، فمكارمُ أخلاقٍ، فذكاءُ قلبٍ، فرجاحة حِجى، فطهارةُ نفسٍ، فجمالُ ذاتٍ، ففضيلةُ صفات. تلك حِلية هذه السيّدة الجليلة، ولذا اختارها سيّد قريش ولم يستبدل بها سواها مدّة حياته ( شيخ الأبطح ، للسيد محمد شرف الموسوي 111 ) .
الزواج المبارك
مرّت على فاطمة بنت أسد في أحد أيّام مكّة الحارّة لحظات حسّاسة لا تُنسى، لحظات تمرّ بها جميع الفتيات في مثل هذه المرحلة من العمر، فقد تقدّم لخطبتها شابّ مؤمن موحّد يُدعى << أبو طالب >>، شاب ينحدر من سلالة كريمة ومَحتِد أصيل، وقيل لها بأنّ جدّه هو << عبد المطّلب >>، ومَن مِن فتيات مكّة ـ فضلاً عن رجالها ـ لم يَقرَع سمعها اسمُ عبد المطّلب، ومَن منهنّ لم تبلغها جلالة قدره وكرم نسبه .
وجرت مراسم العقد، فدعا أسدٌ الناسَ ليحضروا، فلمّا التأم عقد المجلس نهض فيهم أبو طالب، فالتفت إلى أسد وقال:
>> الحمدُ للهِ ربّ العالَمين، ربِّ العرشِ العظيم، والمقامِ الكريم، والمَشْعَرِ والحَطيم، الذي اصطفانا أعلاماً وسَدَنَةً وعُرَفاءَ خُلَصاءَ، وحَجَبةً بَهاليلَ، أطهاراً من الخَنى والرَّيْب، والأذى والعَيْب، وأقام لنا المشاعرَ، وفضَّلنا على العشائر، نُخَبَ آل إبراهيم وصفوته، وزَرعَ إسماعيل... وقد تزوّجتُ فاطمةَ بنت أسد، وسُقْتُ المهر ونفذف الأمر، فاسألوه واشهَدوا، فقال أسد: زوّجناكَ ورَضِينا بك، ثمّ أطعَمَ الناس ( الحجة على الذاهب إلى عدم إيمان أبي طالب ، للسيد فخار بن معد الموسوي 185 ، بحار الأنوار ، للمجلسي 35: 98 ).
والتأمّل في مضامين هذه الخطبة الغرّاء التي أُلقيت قبل هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله بما يقرب من 60 عاماً يُقرّ في النفس بأنّ قائلها موحّد حكيم لا يُلقي بالاً إلى ما يفتخر به قبائل قومه يوم ذاك من القتل والغارة والتكاثر بالأموال والأولاد وألخ .....
وكان ذلك فضلاً جديداً في حياة فاطمة بنت أسد، فقد انتقلت إلى بيت زوج كريم موحّد هو أبو طالب عليه السّلام. وكان لهذا الزواج المبارك أثره الكبير الذي سيشهده العالم الإسلامي قريباً .
موجز عن أبي طالب
ينحدر أبو طالب من عائلة شريفة ذات نسب عريق، عُرفت باتّباع الحنيفيّة الإبراهيميّة، وبانحدارها من نبيّ الله إبراهيم الخليل عليه السّلام؛ فأبوه << عبد المطّلب >> الذي دانت له قريش بالفضل والسماحة والكرم والسؤدد، وكان لعبد المطّلب عشرة أبناء، منهم أبو طالب ( والد أمير المؤمنين عليه السّلام ) وعبد الله ( والد النبيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله )، وهما لأمّ واحدة تُدعى فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عِمران بن مَخزوم ( إعلام الورى ، للطبرسي 1 :282 ، ب5 ،الحجة على الذاهب 158). فلمّا قُبض عبد المطّلب انتهت الصَّدارة إلى ابنه أبي طالب، فعُرف بشيخ الأبطح، وبشيخ قريش ورئيسها .
وكان لأبي طالب الدَّور الكبير في رعاية النبيّ صلُّى الله عليه وآله وكفالته صغيراً يافعاً، وفي الدفاع عنه ومؤازرته شاباً، وكان يحرسه خِيفةَ أن يغتاله أعداؤه، ويُنيم أبناءه في فراشه، خاصّة في فترة المقاطعة والمحاصرة في شعِب أبي طالب. ويكفي في معرفة دوره الكبير في المحاماة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّ أبا طالب لمّا توفّي، هبط جبرئيل عليه السّلام على النبيّ صلّى الله عليه وآله فأمره بالخروج من مكّة قائلاً: يا محمّد! اخرُج عن مكّة فما لكَ بها ناصر بعد أبي طالب ( بحار الأنوار 35 : 11 ـ112). وقد قال الصادق المصدّق صلّى الله عليه وآله: لَم تَزَل قريشٌ كاعّةً عنّي حتّى تُوفّي أبو طالب (الحجة على الذاهب 261 ) .
ومن المؤسف أنّ هذه الشخصيّة العظيمة قد تعرّضت لهجمات ظالمة من قِبل أعداء أمير المؤمنين عليه السّلام الذين وَتَرهم في الدِّين، فأشاع بعضُهم ـ مع صراحةِ أبيات أبي طالب في الإيمان بالنبيّ صلّى الله عليه وآله والإقرار بما جاء به ـ أنّه مات ولم يؤمن!
وقد روي عن الإمام زين العابدين عليه السّلام أنّه سئل عن أبي طالب: أكان مؤمناً ؟ فقال: واعَجَباه! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقد نهاه الله أن يُقرّ مؤمنةً مع كافر في غير آيةٍ من القرآن لقوله تعالى : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) الممتحنة /10) ؟ !
ولا يشكّ أحد أنّ ( فاطمة ) بنت أسد من المؤمنات السابقات، وأنّها لم تزلْ زوجةً لأبي طالب حتّى مات أبو طالب رضي الله عنه ( الحجة على الذاهب 123ـ124 ) .
وسنتعرّض ـ بإيجاز ـ لبيان عظمة هذه الشخصيّة الجليلة :
شفاعة أبي طالب
روي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام أنّه قال: لو شَفَع أبي في كلِّ مُذنبٍ إلى وجه الأرض، لَشَفَّعه اللهُ فيهم ( بحار الأنوار ، للمجلسي 35 : 110 ) .
استسقاؤه لأهل مكّة
أصاب أهلَ مكّة جفافٌ وقحط في إحدى السنين قبل البعثة النبويّة، فلجأوا إلى أبي طالب ليستسقي لهم، فتوسّل إلى الله تعالى بالنبيّ صلّى الله عليه وآله ـ وكان حينذاك صبيّاً يافعاً ـ فسقاهم الله تعالى ( السيرة الحلبية ، للحلبي 1 : 125 ، الحجة على الذاهب 313 ـ 315 ) .
كفالة أبي طالب لرسول الله صلّى الله عليه وآله
كَبِرَت سنُّ عبد المطّلب جدّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وأحسّ باقتراب أجله، وكان هاجسه وهمّه الذي يشغله أمر كفالة النبيّ صلّى الله عليه وآله ـ وكان يوم ذاك في الثامنة من عمره الشريف ـ فجمع أبناءه ذات يوم وسألهم: أيّكم يكفل محمّداً بعدي ؟ فردّوا: هو أعلمُ منّا، فليختَر منّا مَن يشاء! فالتفت عبد المطّلب إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وقال له: يا محمّد، إنّ جدّك راحلٌ إلى الآخرة عمّا قريب، فاختَرْ مِن أعمامك أو عمّاتِك مَن يَكفُلك ويقومُ بأمرك بعدي. فتطلّع النبيّ صلّى الله عليه وآله إليهم ثمّ أشار إلى أبي طالب، فقال عبد المطّلب لأبي طالب: يا أبا طالب، لقد عَهِدتُ فيك دِينَك وأمانتك، فاكفُلْ محمّداً كما كفلتُه، وارعَه كما رَعَيتُه .
ثمّ حلّ اليوم الذي فارق فيه عبد المطّلب الحياة، فأخذ أبو طالب ابن أخيه محمّداً صلّى الله عليه وآله إلى بيته، وكان يرعاه هو وزوجته فاطمة بنت أسد، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يناديها بـ << أمّي >> ( الخرائج والجرائح ، للقطب الراوندي 1 : 138). وهكذا أنس النبيّ صلّى الله عليه وآله بعمّه أبي طالب، ووجد فيه خير مأوى ومُعين يذكّره بأبيه عبد الله، وكان أبوه عبد الله وعمّه أبو طالب لأمّ واحدة .
دفاع أبي طالب عن رسول الله صلّى الله عليه وآله
لم يدّخر أبو طالب وسعاً في الدفاع عن ابن أخيه النبيّ صلّى الله عليه وآله، حتّى بلغ به الحال أن كان يُنهضه من فراشه ليلاً فيُرقِد ابنَه عليّاً في موضعه خشيةَ أن يغتاله أعداؤه وهو نائم وتحمّل أبو طالب من أجل الدفاع عن النبيّ صلّى الله عليه وآله المشقّة والمعاناة في شِعب أبي طالب، ونافح عنه بأشعاره المُنبئة عن إيمانه وثباته ( من أشعار أبي طالب ـ الحجة على الذاهب 241 ـ ليعلم خيار الناس أن محمداً * نبي كموسى والمسيح أبن مريم * أتانا بهدي مثل ما آتينا به فكل بأمر الله يهدي ويعصم
عناية فاطمة بنت أسد بالنبيّ صلّى الله عليه وآله
وكانت فاطمة بنت أسد تُعنى بالنبيّ صلّى الله عليه وآله عناية خاصّة وتُؤثِره على أولادها. وعُرف عنها أنّ أبا طالب لمّا أتاها بالنبيّ صلّى الله عليه وآله بعد وفاة عبد المطّلب وقال لها :
اعلمي أنّ هذا ابنُ أخي، وهو أعزّ عِندي من نَفسي ومالي، وإيّاكِ أن يتعرّض عَلَيه أحدٌ فيما يريد .
فتبسّمت فاطمة ( بنت أسد ) من قوله، وكانت تؤثره على سائر أولادها ـ وكان لها عقيل وجعفر ـ فقالت له :
توصيني في وَلدي محمّد، وإنّه أحبُّ إليّ من نفسي وأولادي ؟!
ففرح أبو طالب بذلك ( بحار الأنوار ، للمجلسي 15 : 383 ـ ضمن حديث )
وعلى الرغم من تصريح هذه الرواية بأنّ فاطمة بنت أسد كانت ذات أولاد عند كفالتها للنبيّ صلّى الله عليه وآله، فإنّ بعض الروايات تدلّ على أنّها لم تكن ذات ولد حينذاك، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله رأى رغبتها في الولد، فقال لها :
يا أُمّه، قرِّبي قُرباناً لوجه الله تعالى خالصاً، ولا تُشركي معه أحداً، فإنّه يرضاه منكِ ويتقبّله ويُعطيك طلبتَكِ ويُعجّله، فامتثلتْ فاطمة أمره وقَرَّبتْ قرباناً لله تعالى خالصاً، وسألَتْهُ أن يرزقها لداً ذَكَراً، فأجاب الله تعالى دعاءها (بحار الأنوار 35:40 ، حديث 38 ـ الباب الأول ـ ضمن حديث ) .
ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين بأنّ كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله قد تقدّم على زمن كفالة أبي طالب له صلّى الله عليه وآله، وينبغي الالتفات إلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يَكبُر أميرَ المؤمنين عليه السّلام بثلاثين عاماً، ممّا يستوجب أن يكون عمره مماثلاً لعمر طالب ولد أبي طالب، ولابدّ إذاً أن يكون عقيل وطالب ـ على أقلّ تقدير ـ قد وُلدا في زمن كفالة فاطمة بنت أسد رسولَ الله صلّى الله عليه وآله .
وعلى أيّ حال ـ فقد اعتَنَت فاطمةُ بنت أسد بالنبيّ صلّى الله عليه وآله عناية فائقة، وأولَتْه رعايتها وحبّها، وكانت تُؤثِره على أولادها في المطعم والملبس. وقد أشار الإمام الصادق عليه السّلام إلى ذلك بقوله: << كانت ( فاطمة بنت أسد ) مِن أبَرِّ الناسِ برسول الله صلّى الله عليه وآله >> ( أصول الكافي ، للكليني 1 : 453 حديث 2 ).
وكانت تغسّله وتدهن شَعره وتُرجّله، وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله يحبّها ولا يناديها إلاّ بـ << أمّي >> ( بحار الأنوار 35 :83 ، حديث 26 ) .
فلمّا جاءه أميرُ المؤمنين عليه السّلام مضطرباً بعد ذلك بسنين، سأله النبيّ صلّى الله عليه وآله عمّا به، فقال: أمّي ماتت. قال: فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: وأمّي واللهِ، ثمّ بكى وقال: وا أمّاه! ( بحار الأنوار 35 : 81 ، حديث 23 ) .
وينبغي أن لا ننسى أنّ لعلائم النبوّة التي كانت فاطمة بنت أسد تشاهدها في محمّد صلّى الله عليه وآله وهو صبيّ صغير، الأثرَ الكبير في المحبّة الخاصّة التي انطبعت في قلب فاطمة، ممّا جعلها تكثر إكرامه ورعايته. ومن تلك العلامات والكرامات: ما شاهدته في بستان دارها .
قالت: كان في بستان دارنا نَخلات، وكان أوّل إدراك الرُّطَب، وكان أربعون صبيّاً من أتراب محمّد صلّى الله عليه وآله يدخلون علينا كلّ يوم في البستان ويلتقطون ما يسقط، فما رأيت قطّ محمّداً أخذ رُطبةً من يدِ صبيّ سَبَقَ إليها، والآخرون يختلس بعضُهم من بعض. وكنتُ كلّ يوم ألتقط لمحمّد صلّى الله عليه وآله حَفنةً فما فوقَها، وكذلك جاريتي. فاتّفق يوماً أن نَسيتُ أن ألتقط له شيئاً ونَسِيَتْ جاريتي، وكان محمّد صلّى الله عليه وآله نائماً، فدخل الصِّبيان وأخذوا كلّ ما سقط من الرطب وانصرفوا، فنمتُ ووضعتُ الكُمّ على وجهي حياءً من محمّد إذا انتبه .
قالت: فانتبه محمّد ودخل البستان، فلم يَرَ رطبةً على الأرض فانصرف، فقالت له الجارية: إنّا نَسِينا أن نلتقط شيئاً، والصِّبيان دخلوا وأكلوا جميع ما سقط .
قالت: فانصرف محمّد صلّى الله عليه وآله إلى البُستان، وأشار إلى نخلة وقال: أيّتها الشجرة أنا جائع. قالت: فرأيتُ الشجرة قد وَضَعتْ أغصانَها التي عليها الرُّطب حتّى أكل منها محمّد صلّى الله عليه وآله ما أراد، ثمّ ارتفعتْ إلى موضعها ( الخرائج والجرائح للراوندي 1 : 138 ـ 139 ، حديث 225 ، بحار الأنوار 35 : 83 ـ 84 ، حديث 26 ) .
رؤيا صادقة
بعد كفالتها لرسول الله صلّى الله عليه وآله رأت فاطمة بنت أسد ذات ليلة رؤيا عجيبة صادقة قالت: <<... رأيتُ في منامي كأنّ جبال الشام قد أقبلَتْ تَدِبّ وعليها جَلابيبُ الحديد. وهي تصيح من صدورها بصوتٍ مهيب، فأسرَعَتْ نحوها جبالُ مكّة وأجابَتْها بمِثل صياحها وأهْوَل، وهي تتهيّج كالشَّرر المحمرّ، وأبو قُبيَس ينتفض كالفَرَس، وفصاله ( أي قِطَعه ) تسقط عن يمينه وشماله، ( والناس ) يلتقطون ذلك، فلقطتُ معهم أربعة أسياف وبيضةَ حديدٍ مُذَهّبة، فأوّل ما دخلتُ مكّة سقط منها سيفٌ في ماء فغيّر وطار، و( طار ) الثاني في الجوّ فاستمرّ، وسقط الثالث إلى الأرض فانكسر، وبقي الرابع في يدي مسلولاً. فبينا أنا به أصول، إذ صار السيف شِبلاً ( الشبل: ابن الأسد )، فتبيّنته فصار ليثاً مَهُولاً، فخرج عن يدي ومرّ نحو الجبال يَجوب بلاطمها، ويخرق صلاطحها ( مكان سلاطح : عريض ، ومنه قول الساجع : صلاطح بلاطح ، بلاطح إتباع ، لسان العرب 7 : 387 << صلطح >>)، والناس منه مُشفِقون ومِن خوفه حَذِرون، إذ أتى محمّدٌ فقبض على رقبته، فانقادَ له كالظَّبية الألُوف. فانتبهتُ وقد راعَني الزمع والفزع، فالتمستُ المفسّرين وطلبتُ القائفين والمُخبِرين، فوجدتُ كاهناً زَجَر لي بحالي وأخبرني بمنامي، وقال لي: أنتِ تلدين أربعة أولاد ذكور وبنتاً بعدهم، وإنّ أحد البَنين يَغرَق ( وهو طالب الذي توفى صغيراً)، والآخر يُقتَل في الحرب ( وهو جعفر الطيار الذي استشهد في وقعة وؤته ، وأخبر النبي صلى الله عليه وآله المسلمين بمنزلته ، وأن الله تعالى عوضه عن يديه اللتين قطعتا في الحرب جناحين يكير بهما في الجنة مع الملائكة ، فلقب بجعفر الطيار.)، والآخر يموت ( بعد أن يُعمّر ) ويبقى له عَقِب ( هو عقيل الذي عمر وبقى له عقيب.)، والرابع يكون إماماً للخلق صاحب سيفٍ وحق ( وهو أمير المؤمنين علي عليه السلام .)، ذا فضلٍ وبراعة، يُطيع النبيَّ المبعوثَ خير طاعة >> (بحار النوار 35 : 41 ـ42 ، حديث 38 ـ ضمن حديث ) .
وقد تحققت هذه الرؤيا الصادقة، وأثمرت هذه الشجرة الطيّبة ـ التي قوامها رجلٌ مؤمن موحّد وامرأة مؤمنة موحّدة ـ ثمارها، فقد رزقهما الله تعالى أربعة أولاد، هم: طالب، ثمّ عقيل، ثمّ جعفر، ثمّ عليّ عليه السّلام؛ وابنتَين هما فاختة وتلقّب بـ << أمّ هانئ >> ( رياحين الشريعة 3: 3، بحار الأنوار 35 : 40.) .
وأم هانئ هي زوجة أبي وهب هبيرة بن عمرو بن عامر المخزومي، وكانت لها منزلة كبيرة عند النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقد شَفَعت عام الفتح لجماعة، فشفّعها النبيّ صلّى الله عليه وآله فيهم ( الخصائص الفاطمية ، للمولى محمد باقر واعظ الطهراني216.)؛ أمّا جُمانة ـ أو أسماء، أو رَيطة ـ فهي زوجة سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ( الخصائص الفاطمية ، للمولى محمد باقر واعظ الطهراني 216 ) .
ونتعرّض في هذا المجال ـ وباختصار ـ إلى ذكر أبناء فاطمة بنت أسد، لنتعرّف ـ من خلال مقاماتهم الشامخة ـ على الذروة الرفيعة التي رَقَت إليها هذه المرأة العظيمة .
1 ـ عقيل بن أبي طالب
وُلِدَ عقيل ـ وهو الابن الثاني لفاطمة ـ في حدود 40 عاماً قبل هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله، وكان يحظى بمحبّة خاصة من قِبل النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقد روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله: يا رسول الله، إنّك لَتُحبُّ عقيلاً ؟ قال: إي والله، إنّي لأحبّه حُبَّين: حبّاً له وحباً لحبّ أبي طالب، وإنّ وَلَده لَمقتولٌ في محبّة وَلَدِك، فتدمع عليه عيونُ المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون. ثمّ بكى رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى جَرَتْ دموعُه على صدره، ثمّ قال: إلى الله أشكو ما تلقى عِترتي مِن بعدي ( آمالي الشيخ الصدوق 11، المجلسي 27 ، بحار الأنوار 44:287 ـ288 . ويقصد صلى الله عليه وآله بولد عقيل المقتول في محبة الحسين عليه السلام : مسلم بن عقيل سفير الإمام الحسين إلى الكوفة ) .
وكان عقيل من الذين لم تَغرَّهم الدنيا فيتنكّروا للحقّ الذي عرفوه واتّبعوه، وقد ذكر لنا التاريخ أنّ معاوية أرسل إليه عدّة صِلات وهدايا مالية، لكنّه دوّن ـ وبأحرفٍ من نور ـ صلابة إيمان عقيل وجهره بالحقّ أمام معاوية رغم عَوَزه وشدة حاجته .
ومن مواقفه المحمودة: رسالته التي أرسلها لأخيه أمير المؤمنين عليه السّلام بعد غارة الضحّاك بن قيس على الحيرة في جيشٍ أمّره عليه معاوية، فقد روى ابن أبي الحديد أنّه قال في رسالته تلك: <<.. وقد تَوَهّمتُ ـ حيث بَلَغني ذلك ( يُشير إلى غارة الضحّاك وعودته سالماً لم يتعرّض له أحد بسوء ) أنّ شيعتَك وأنصارك خَذلوك، فاكتُبْ إليّ يا بن أمّي برأيك، فإن كنتَ الموتَ تريد، تحمّلتُ إليك ببني أخيك وولد أبيك، فَعِشنا معاً ما عِشتَ، ومِتنا معاً إذا مِتَّ، فواللهِ ما أُحبّ أن أبقى في الدنيا بعدكَ فُوَاقاً ( أي مقدار ما بين الحلبتين للناقة ). وأقسم بالأعزّ الأجَلّ، إنّ عيشاً نَعيشُه بعدك في الحياة لَغيرُ هنيء ولا مريء ولا نجيع، والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته >> ( شرح نهج البلاغة لأبن ألي الحديد 2 :118 ـ 119 ).
وخلّد التاريخ لعقيل موقفه من معاوية، فقد أمر له بمائة ألف، ثمّ قال له يوماً بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السّلام وصُلح الإمام الحسن عليه السّلام مع معاوية: يا أبا يزيد، أخبِرني عن عسكري وعسكر أخيك، فقد وَردتَ عليهما !
قال: أُخبرك، مَرَرتُ ـ واللهِ ـ بعسكرِ أخي، فإذا ليلٌ كلَيْلِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، ونهارٌ كنهارِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، إلاّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ليس في القَوم: ما رأيتُ إلاّ مُصلّياً، ولا سمِعتُ إلاّ قارئاً. ومررتُ بعسكركَ، فاستقبلني قومٌ من المنافقين ممّن نَفَرَ برسول الله ليلةَ العَقَبة ( شرح نهج البلاغة 2 : 124 ـ125 .) ـ الحديث، وفيه أنّه فضح معاوية وفضح قادته وذكر لهم من سوء أنسابهم ما أزرى بهم .
2 ـ جعفر بن أبي طالب
وُلد جعفر قبل هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله بثلاث سنوات، وكَفَله عمُّه العبّاس في ضائقة حلّت بأبي طالب. ورَأسَ جعفرٌ وفد المهاجرين الذين هاجروا إلى الحبشة فراراً من ظُلم قريش وأذاها، وكان له مع ملكها النجاشيّ موقف مشهور، فلمّا عادوا بعد 15 عاماً إلى المدينة ( في السنة السابعة من الهجرة )، استقبلهم النبيّ صلّى الله عليه وآله، فاعتنق جعفراً وقبّل جبينه، وقال ودموعه تتقاطر من شدّة سروره :
<< واللهِ لا أدري بأيِّهما أنا أشدّ سروراً: بِقُدومِكَ يا جعفر، أم بفتحِ الله على أخيك خيبر >> (بحار الأنوار 21: 23، المستدرك ،للحاكم النيسابوري 3 : 233 ، حديث 539 ).
ثمّ إنّه صلّى الله عليه وآله أهدى إليه هدية معنوية نفيسة، إذ علّمه الصلاة المعروفة بـ << صلاة جعفر >> أو << صلاة التسبيح >>. ومن مفاخر جعفر أنّه ثالثُ مَن أسلم وآمن بالنبيّ صلّى الله عليه وآله واتّبع دعوته ( شرح نهج البلاغة 13 : 224)
أمّا شجاعته وتضحيته في سبيل إعلاء كلمة << لا إله إلاّ الله >> فقد تجلّت في أروع صورها في غزوة << مُؤتة >> التي دارت بين جيش المسلمين وبين الروم، فقد روي أنّه أخذ اللواء فقاتل قتالاً شديداً، فقُطِعتْ يمينُه، فأخذ اللواء بيساره فقُطعتْ يساره، فاحتضنه وقاتل حتّى قُتل. وقد وُجد فيه بضعة وسبعون جرحاً ما بين ضربةٍ بسيف وطعنةٍ برُمح، ليس فيها شيء مِن ظَهرِه، أي أنّه لم يُدبر فارّاً لحظةً واحدة، بل كلّها في حال الإقبال لفرط شجاعته. وكان قد نزل عن فَرَس له شقراء فعَقَرها ثمّ قاتل حتّى قُتل، وفي هذا دليل على عظيم شجاعته ( السيرة النبوية لأحمد بن زيني دحلان 2 : 34)
وأمّا خَلْقه وخُلُقه فكانا في الذروة من الكمال، فروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال له: << أشبَهت خَلقي وخُلُقي >> ( المستدرك ، للحاكم 3 : 233 ، حديث 537 ) .
وقد أثاب الله تعالى جعفر بن أبي طالب على تضحيته، فعوّضه عن يديه اللتين قُطعتا دفاعاً عن دين الله بجناحَين يطير بهما في الجنّة مع الملائكة. وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: رأيتُ جعفرَ بن أبي طالب مَلَكاً يطير مع الملائكة بجناحَين ( المستدرك ،للحاكم 3 :231 ،حديث533)، وروي أنّه صلّى الله عليه وآله قال: نحن ـ بني عبد المطّلب ـ سادة أهل الجنّة: أنا وعليّ وجعفر وحمزة والحسن والحسين والمهديّ ( المستدرك 3: 233 ، حديث 538 ) .
3ـ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام
آخر أولاد فاطمة بنت أسد وأفضلهم بل أفضل الخلق بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، جَمَع الفضائل والكمالات، ونال درجةً من الإيمان لا تعلوها إلاّ درجة أخيه رسول الله صلّى الله عليه وآله. سبق إلى الإسلام وهو صغير السنّ، فصلّت عليه وعلى أخيه النبيّ صلّى الله عليه وآله الملائكةُ سبع سنوات، لأنّه لم يكن هناك مسلم مصلّ سواهما، وسَبَق إلى الجهاد والفداء، ففدى النبيَّ صلّى الله عليه وآله بنفسه وباتَ على فراشه يقيه خطرَ الاغتيال، حتّى باهى الله تعالى به ملائكته، وكان السابقَ دوماً إلى كلّ فضيلة، حتّى نزل في شأنه ـ باعتراف جميع المسلمين ـ ما لم ينزل في غيره من الآيات الكريمة ( أنظر مثلاً : الصواقع المحرقة ، لأبن حجر76 ) .
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: لو أنّ الرياضَ أقلام، والبحرَ مِداد ( أي: حبر )، والجِنّ حُسّاب، والإنس كُتّاب، ما أحصَوا فضائلَ عليّ بن أبي طالب ( المناقب ، للخوارزمي 328 ، حديث 61. ،ينابيع المودة للقندوزي 1: 246 ، حديث 28 ) .
وقال صلّى الله عليه وآله: النظرُ إلى وجهِ أميرِ المؤمنينَ عليِّ بن أبي طالب عليه السّلام عِبادة، وذِكره عبادة؛ لا يَقبَلُ اللهُ إيمانَ عبدٍ إلاّ بولايته والبراءةِ من أعدائه ( المناقب للخوارزمي 32 ـ 33 ، حديث 2. كفاية الطالب ، للكنجي الشافعي 252 ، فرائد السمطين للحموي 1 :18). وقال صلّى الله عليه وآله: أُوصي مَن آمن بي وصَدَّقني بولايةِ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، مَن تَوَلاّه فقد تَوَلاّني، ومَن تَوَلاّني فقد تولّى الله عزّوجلّ ( الفردوس ، للديلمي 1: 429 ، حديث 1751 . مناقب علي بن أبي طالب ، لأبن المغازلي230 ، حديث 277 ) .
4 ـ أم هانئ
امرأة جليلة ارتفعت في إيمانها وقدرها حتّى استحقّت أن يكون معراج النبيّ صلّى الله عليه وآله من بيتها ( بحار الأنوار 18 : 282). وقد أشرنا إلى منزلتها الكبيرة لدى رسول الله صلّى الله عليه وآله، حتّى أنّها قَدِمتْ عليه وأخبرته أنّ جماعة استجاروا بها، فقال صلّى الله عليه وآله: قد أجَرتُ من أجَرتِ ( بحار الأنوار 21: 131. سفينة البحار ، للقمي 8 :714 مادة : << هنأ ).>>
وروي أنّه صلّى الله عليه وآله قال يوماً مُشِيداً بفضلِ الحسنَين عليهما السّلام: ألا أُخبركم أيّها الناس بخيرِ الناس عمّاً وعمّة ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الحسن والحسين عليهما السّلام؛ عمُّهما جعفر بن أبي طالب، وعمّتهما أم هانئ بنت أبي طالب ـ الحديث ( بحار الأنوار 43: 302 ، المعجم الأوسط ، للطبراني 7 :237 ـ238 ، حديث 6458 . ذخائر العقبى ، للمحب الطبري 130 ).
ومن مفاخر أم هانئ أنّها كانت من رواة الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، ومن الروايات التي روتها عنه صلّى الله عليه وآله أنّه قال :
يأتي على الناس زمانٌ، إذا سمعت باسم رجلٍ خيرٌ من أن تَلقاه، فإذا لَقِيتَهُ خيرٌ من أن تُجرّبه، ولو جَرّبتَه أظهَر لكَ أحوالاً؛ دِينهم دراهمهم، وهمّتهم بُطونهم، وقِبلتهم نساؤهم، يركعون للرغيف ويسجدون للدرهم، حَيارى سُكارى لا مسلمين ولا نصارى ( بحار الأنوار 74 :166 ، سفينة البحار 3: 494 مادة << زمن ). >>
توهّج النور
بلغت مناقب فاطمة بنت أسد حداً تعذّر معه جمعُها في صفحاتِ كتاب، الاّ أنّ التاريخ لم ينقل لنا منها إلاّ النزر اليسير، ربّما لأنّ التاريخ دُوّن ـ في الأغلب ـ من قبل أعوان الحكّام الذين كانوا يجهدون ـ ما استطاعوا ـ في طمس مناقب ابنها أمير المؤمنين عليه السّلام، فكان من الطبيعي أن تتعرّض هذه المرأة الجليلة إلى تجاهل المؤرّخين ـ إلاّ ماندر. وكان من المتوقّع أن تتعرّض لإحجاف التاريخ، شأنها في ذلك شأن زوجها كافل رسول الله صلّى الله عليه وآله وحاميه وناصره .
الهجرة إلى المدينة
كتب رسول الله صلّى الله عليه وآله بُعَيد هجرته إلى المدينة كتاباً إلى الإمام عليّ عليه السّلام ـ بيد أبي واقِد اللَّيثي ـ يأمره فيه بالمسير إليه، فخرج عليّ عليه السّلام بفاطمةَ عليها السّلام بنتِ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأمِّه فاطمةَ بنت أسد، وفاطمةَ بنتِ الزبير بن عبدالمطّلب، وتَبعَهُم أيمَنُ مولى رسول الله صلّى الله وأبو واقد اللَّيثي، فجعل أبو واقد يسوق بالرَّواحل فأعنَفَ بهم، فقال علي عليه السّلام: ارفُقْ بالنسوة أبا واقد، إنّهن من الضعائف. قال: إنّي أخاف أن يُدرِكَنا الطَّلَب، فقال عليّ عليه السّلام: أربِعْ عليك، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لي: يا عليّ! إنّهم لن يصلوا من الآن إليك بأمرٍ تكرهه. ثمّ جعل الإمام عليّ عليه السّلام يَسوق بهنّ سَوقاً رفيقاً وهو يرتجز ويقول :
ليس إلاّ الله فارْفَعْ ظَنَّكا يَكفيكَ ربُّ الناسِ ما أهمَّكا
وسار، فلمّا شارف << ضَجْنان >> أدركه الطَّلَب: سبعُ فوارس من قريش مُستلئمين بسلاحهم، وثامنهم مولى الحارث بن أميّة يُدعى جَناحاً، فأقبل عليّ عليه السّلام على أيمن وأبي واقد ـ وقد تراءى القوم ـ فقال لهما: أنِيخا الإبل واعقِلاها! وتقدّم حتّى أنزل النسوة؛ ودنا القوم فاستقبلهم الإمام عليّ عليه السّلام منتفياً سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: ظَنَنتَ أنّك يا غدّار ناجٍ بالنسوة، ارجع لا أباً لك! قال: فإن لَم أفعل ؟ قالوا: لَترجِعَنّ راغماً، أو لَنَرجِعنّ بأكثرك شَعراً ( أي رأسك ) وأهوِنْ بكَ مِن هالِك! ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوّروها، فحال عليّ عليه السّلام بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه، فراغ عليّ عليه السّلام عن ضربته، وتَخَتّله عليّ عليه السّلام فضربه على عاتِقه، فأسرع السيفُ مُضيّاً فيه حتّى مَسّ كابثة فَرَسِه، فكان عليّ عليه السّلام يشدّ على قدمه شدّ الفَرَس، أو الفارس على فرسه، فشدّ عليهم بسيفه وهو يقول :
خَلُّوا سَبيلَ الجاهدِ المُجاهدْ آلَيْتُ لا أعبدُ إلاّ الواحدْ
فتصدّع القوم عنه، فقالوا له: أغنِ عنّا نفسَك يا ابن أبي طالب، قال: فإنّي مُنطِلقٌ إلى ابن عمّي بيثرب، فمَن سَرَّه أن أفري لحمه وأهريق دمَه، فليتبعني ـ أو: فلْيَدْنُ منّي. ثمّ أقبل على صاحبَيه أيمن وأبي وأقد فقال لهما: أطلِقا مطاياكما!
ثمّ سار ظاهراً قاهراً حتّى نزل << ضَجْنان >>، فتلوّم ( أي مكث ) بها قَدْر يومه وليلته، ولَحِق به نفرٌ من المستضعفين من المؤمنين، وفيهم أمّ أيمن مولاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، فصلّى ليلته تلك هو والفواطم: أمّه فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وفاطمة عليها السّلام بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفاطمة بنت الزبير، يُصلّون لله ليلتهم، ويذكرونه قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبهم، فلم يزالوا كذلك حتّى طلع الفجر، فصلّى بهم عليّ عليه السّلام صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه، فجعل وهم يصنعون ذلك مَنزِلاً بعد المدينة .
وقد نزل الوحيُ بما كان من شأنهم قبل قدومهم الَّذِينَ يَذْكُرونَ اللهَ قِياماً وقُعُوداً وعلى جُنوبِهم ويَتفكّرونَ في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ربَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً إلى قوله : ( فَاسْتَجَابَ لَهُم رَبُّهُم أنّي لا أُضيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكم مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى ) . ويقال في البحار للمجلسي 19 :64 ـ67 أنها إكراماً لعلي وفاطمة أو قالوا الفواطم .
وذكروا أنّ مدّة سفرهم هذا دامت 15 يوماً ( بحار الأنوار 19:106 ).
وقصّ علينا ابن الأثير في تاريخه كيفيّة قدوم أمير المؤمنين عليه السّلام المدينة فقال :
وأمّا علي، فإنّه لمّا فرغ من الذي أمَرَه به رسول الله صلّى الله عليه وآله ( من ردّ الودائع ) هاجر إلى المدينة، وكان يسير الليل ويكمن النهار حتّى قدم المدينة وقد تفطّرت قدماه، فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: ادعوا لي عليّاً، قيل: لا يَقدِر أن يمشي. فأتاه النبيّ صلّى الله عليه وآله واعتنقه وبكى رحمةً لما بقدمَيه من الورم، وتَفَل في يدَيه وأمَرَّهما على قدمَيه فلم يَشتَكِهما بعدُ حتّى قُتِل ( الكامل في التاريخ ، لأبن الأثير 2 : 106 ).
ونالت فاطمةُ بنت أسد في هجرتها مزيداً من السؤدد والفَخار، فقد مدحها الله تعالى في كتابه الكريم وذُكرت في المؤمنين الذاكرين الذين استجاب لهم ربّهم وأثابهم على أعمالهم، وتلك صفحة وهّاجة مُشرقة تضاف إلى كتاب مناقب فاطمة بنت أسد .
تحريم النار عليها
من الأماني التي تراود ذهن المُسلم: أن يأمَن نارَ جهنّم، ولمّا كان أنبياءُ الله تعالى وأولياؤه هم ـ دون غيرهم ـ الذين يأمنون شرّ هذه النار المستعرة المتأجّجة، فلا غرو أنّ على المسلم أن يستعيذ من عذابها بالله عز وجلّ ونبيّه وأئمّته الأطهار عليهم السّلام، الذين جعلهم الله أبواب أمانٍ للأمة وسُبُلاً لبُلوغ رحمته والفوز بجِنانه .
ومن الذين آمنهم الله تعالى من نار جهنّم: فاطمة بنت أسد، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه صلّى الله عليه وآله : إنّي حرّمتُ النارَ على صلبٍ أنزَلَك، وبَطنٍ حَمَلَك، وحِجرٍ كَفَلَك، وأهلِ بيتٍ آوَوك، فعبدُ الله بنُ عبد المطّلب: الصُّلب الذي أخرجه، والبطن الذي حمله آمنة بنت وهب، والحِجر الذي كفله فاطمة بنت أسد، وأمّا أهل البيت الذين آوَوه فأبو طالب ( الحجة على الذاهب 50 ، بحار الأنوار 35 :109 ).
ولقد رَعَت فاطمة بنت أسد رسول الله صلّى الله عليه وآله في صِغره، ورَبَّته، وحَنَت عليه حُنوَّ الأم الشفيق على ولدها، فجزاها الله تعالى عن حُسن صنيعها في نبيّه الكريم بأنْ حرّم عليها النار .
شفاعة فاطمة بنت أسد
فاطمة بنت أسد من جملة أولياء الله المقرّبين الذين شفّعهم في قوله عزّ من قائل : (وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) سبأ /23 .، وقوله تعالى : (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ )البقرة/255 ، وستشفع فاطمة بنت أسد ويشفع الأئمّة من ذريّتها لمحبّيهم ومُترسّمي خطاهم ومتّبعي نهجهم، من الذين ارتضاهم الله تعالى. قال سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) الأنبياء /28 .
وجاء في الرواية أنّ الإمام الصادق عليه السّلام علّم أحد أصحابه التوسّلَ بفاطمة بنت أسد لقضاء حاجةٍ له، فروى داود الرّقّي قال: دخلتُ على أبي عبد الله ( الصادق ) عليه السّلام، ولي على رَجُلٍ دَين وقد خِفتُ تواه ( أي ضياعه )، فشكوتُ ذلك إليه، فقال: إذا مررتَ بمكّة فطُف عن عبد المطّلب طوافاً وصَلِّ عنه ركعتَين، وطُف عن أبي طالب طوافاً وصَلِّ عنه ركعتَين، وطُف عن عبد الله طوافاً وصَلّ عنه ركعتَين، وطُف عن آمنة طوافاً وصلّ عنها ركعتَين، وطُف عن فاطمة بنت أسد طوافاً وصلّ عنها ركعتين، ثمّ ادعُ اللهَ عز وجلّ أن يردّ عليك مالَكَ. قال: ففعلتُ ذلك، ثمّ خرجتُ من باب الصَّفا، فإذا غريمي واقف يقول: يا داود حَبَسْتَني! تعالَ فاقْضِ حقَّكَ ( الكافي ، للكليني 4 : 544 ، حديث 21 ، الحجة على الذاهب 104 ).
وقد نالت هذه السيّدة الجليلة هذا المقامَ الرفيع في الدنيا، وعُدّت في الآخرة في عداد الشفعاء الذين يَشفَعون فيُشفّعهم الله تعالى. وقد جاء في زيارتها <<... ولا تَحرِمني شفاعَتَها وشفاعةَ الأئمّةِ من ذرّيتها... وأدخِلني في شفاعتها . ... >>
ولم تَنَل بنت أسد مقام الشفاعة السامي ألا في ظِلّ متابعة النبيّ صلّى الله عليه وآله، والتنزّه عن عبادة الأصنام، والثبات في توحيد الله عز وجل، وقد برهنت هذه المرأة أنّ المخلوق الضعيف يمكنه أن يرقى في الكمالات، وأن يصون نفسه أمام سيل الحوادث والبلايا، متمسّكاً بعبادة الواحد الأحد الذي لا شريك له .
من رواة النور
ظلّ حفظ الوقائع والأخبار، وحفظ الأحاديث الصادرة عن نبيّ الهُدى صلّى الله عليه وآله وأئمّة الدين منحصراً فترة صدر الإسلام في صدور الصحابة، وكان هؤلاء الرواة يتناقلون أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وآله ووقائع الإسلام عن طريق التحديث. وكان من بين هؤلاء الرواة عدّة نساء حَظَينَ ـ إضافةً إلى إدراك محضر المعصوم عليه السّلام ـ بفخر نقل الحديث عنه. ومن هؤلاء النسوة فاطمة بنت أسد وابنتها المكرّمة أم هانئ .
وقد ذكر بعض المؤرّخين أنّ هذه السيّدة الجليلة (فاطمة بنت أسد ) نقلت عن النبيّ صلّى الله عليه وآله 46 حديثاً. ونتعرّض في هذا المجال إلى إحدى هذه الروايات، نقلاً عن كتاب (الخرائج والجرائح ) للقطب الراوندي :
إنّه لمّا ظهرت أمارة وفاة عبد المطّلب، قال لأولاده: مَن يَكفُل محمّداً ؟ قالوا: هو أكيس منّا، فقل له يختار لنفسه، فقال عبد المطّلب : يا محمّد! جدّك على جناح السفر، أيّ عمومتك وعمّاتك تريد أن يكفلك ؟
فنظر في وجوههم، ثمّ زَحَف إلى عند أبي طالب، فقال له عبد المطّلب : يا أبا طالب، إنّي قد عَرَفتُ ديانتكَ وأمانتك، فكُنْ له كما كنتُ له. قالت: فلمّا توفّي أخذه أبو طالب، وكنتُ أخدمه، وكان يدعوني الأمّ ( الخرائج والجرائح ، للراوندي 1: 138 ، حديث 225 ) .
المقام الصالح
أحد المصادر الغنيّة التي ينفرد بها الشيعة دون غيرهم من فرق المسلمين: الأدعية ذات المضامين الرفيعة التوحيدية الأخلاقية والتربوية، والاجتماعيّة التي وردت عن المعصومين عليهم السّلام .
وقد وردت أدعية كثيرة في الإسلام ـ استهدفت بأساليب مختلفة ـ شدّ ارتباط الإنسان بالله تعالى، ومن هذه الأدعية دعاء الكامل ( ويُعرف بدعاء الحريق ) ويُقرأ ضمن تعقيبات صلاة الصبح، وفيه :
<< اللهمّ صلِّ على محمّد وأهل بيته الطيّبين، وعلى أصحابه المنتجَبين وعلى كلّ نبيٍّ وَلَد محمّداً، وعلى كلّ امرأة صالحةٍ كَفَلَتْ محمّداً>> ( مصباح المجتهد ، للطوسي 220 ـ227 ، مصباح الكفعمي 72 ـ78 .بحار الأنوار 83 :165 ـ170 ).
ومن الجليّ أنّ مصداق << المرأة الصالحة >> في الدعاء لا يتعدّى امرأتَين اثنتَين :
الأولى آمنة بنت وهب أمّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقد كفلته صلّى الله عليه وآله حدود 6 سنوات .
والثانية فاطمة بنت أسد، التي كفلته بعد وفاة عبد المطّلب، وكان له من العمر ما يقرب من 8 أعوام، فبقي في بيتها حتّى كبر .
ومقام الصالحين مقام عظيم لا يرقى إليه إلاّ مَن نال مرضاة الله عزّوجلّ، ويكفي في بيان جلالته أنّ الله تعالى نعتَ به أنبياءه، فقال عن يحيى عليه السّلام لقوله تعالى : (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) آل عمران /39 .
وقال عن إبراهيم الخليل عليه السّلام لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) البقرة / 130 .
بنت أسد وغبطة النبيّ صلّى الله عليه وآله
كمالات خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلّى الله عليه وآله ممّا لا يُحصيه العادُون، ولا يُحيط به المحيطون، فهو صلّى الله عليه وآله رحمة للعالمين، وهو الأُسوة الحسنة لجميع البشر الذين فطرهم الخالق على هذه البسيطة، وهو خاتم أولياء الله الخاصّين، وإكليل فخر جميع الخلائق، ولا عَجَب أن باهى سكّانُ الأرض به نظراءهم من سكّان السماوات .
لكنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله يعدّ ـ في حديث له مع أمير المؤمنين عليه السّلام ـ أنّه يفتقد مزايا خصّ اللهُ تعالى بها أخاه أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد قال له ـ كما في الحديث الشريف :
يا عليّ! لك أشياء ليس لي مِثلها : إنّ لك زوجة مثل فاطمة وليس لي مثلها، ولك وَلَدان من صُلبك وليس لي مثلهما من صُلبي، ولك مِثل خديجة أمُّ أهلك وليس لي مثلها حَماة، ولك صِهر مثلي وليس لي صهر مثلي، ولك أخ في النَّسَب مثل جعفر وليس لي مثله في النسب، ولك أمّ مثل فاطمة بنت أسد الهاشميّة المهاجرة وليس لي مثلها (بحار الأنوار 40 : 68 ، حديث102 ).
بلى، من المؤكَّد أنّ السيّدة آمنة بنت وهب لو قُدِّر لها الحياة وإدراك بعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله، لكانت من السابقين، إلاّ أنّ القضاء جرى بأن تفارق الدنيا والنبيُّ صلّى الله عليه وآله غضّ يافع، فتولّت كفالته وحضانته امرأة مثل فاطمة بنت أسد، ليسجّل لها التاريخ مواقفها في صفحات من نور .
ومن الجدير بالتأمّل أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أشار إلى خصلتَين من خِصال فاطمة بنت أسد: أنّها هاشميّة، وأنّها مهاجرة. ممّا يدلّنا على أنّ هذه المرأة حازت ـ فوق شرف النَّسَب ـ شرفاً اكتسبته في ظِلّ الإيمان بالله ورسوله واتّباع نهج الحقّ وامتثال أوامر الله سبحانه. وقد حازت بنت أسد قَصَبَ السَّبق في هذا المضمار على كثير من الرجال والنساء، فاستحقّت الفخر في الدارَين .
شمس إلى جوار قمر
لم يترك أئمّة الهُدى ـ بحكمتهم البالغة ـ فرصةً للدعوة إلى الحقّ، ولإحقاق الحقّ وإبطال الباطل، إلاّ استثمروها، نُلاحظ في هذا المجال الحكمة في وصيّة الإمام الحسن المجتبى في لحظات عمره الأخيرة أن يُحمل جُثمانُه الشريف إلى قبر جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله ليجدّد العهد به، وأن يُدفَن ـ إذا عارض القوم في دفنه عند جدّه ـ إلى جوار قبر جدّته الطاهرة فاطمة بنت أسد ( مستدرك الوسائل ، للمحدث النوري 2 :314 ـ الباب 13 ).
المرأة الطاهرة
تطرّقنا إلى الوضع العام لجزيرة العرب قبل الإسلام، ورأينا فاطمة بنت أسد صُلبةَ الإيمان، لا تتزحزح عن توحيد الله المتعال، ولا تركع لصنمٍ لا يقدر على استجلاب النفع لنفسه ولا الإضرار بها، وشاهدناها مرفوعة الرأس في الامتحان الذي خسر فيه الكثيرون، وعهدناها لا تأكل ممّا ذُبح على الأنصاب، فآلَ ذلك إلى طهارة الروح والجسد كليهما، واستحقّت ـ بذلك ـ شرف ولادة مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه السّلام. يقول جابر بن عبد الله الأنصاري :
سألتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله عن ميلاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال: آه آه، لقد سألتَني عن خير مولودٍ وُلِد بعدي على سُنّة المسيح عليه السّلام، إنّ الله تبارك وتعالى خَلَقني وعليّاً من نورٍ واحد قبل أن خَلَقَ الخَلْق بخمسمائة عام. فكنّا نُسبّح الله ونُقدّسه، فلمّا خلق اللهُ تعالى آدمَ قَذَف بنا في صُلبه، واستَقرَرتُ أنا في جنبه الأيمن، وعليّ في الأيسر، ثمّ نُقِلنا من صُلبه في الأصلاب الطاهرات إلى الأرحام الطيّبة، فلم نَزَل كذلك حتّى أطلَعَني اللهُ تبارك وتعالى من ظَهرٍ طاهر، وهو عبد الله بن عبد المطّلب، فاستودَعَني خيرَ رَحِمٍ وهي آمنة، ثمّ أطلَعَ اللهُ تبارك وتعالى عليّاً من ظَهرٍ طاهر وهو أبو طالب، واستودعه خيرَ رَحِمٍ وهي فاطمة بنت أسد ( روضة الواعظين ، للفتال النيسابوري 76 ،بحار الأنوار 35: 10 ،حديث 12 ).
نور الإيمان
إذا سعى الإنسان في الاقتراب من ينبوع اللطف والرحمة الإلهيّة، ارتوت روحه ـ بلا شكّ ـ من فيض هذا البحر الزاخر المعطاء المترامي. ومتى سوّلت له نفسه الأمّارة ـ في المقابل ـ الابتعادَ عن مصدر النور والفيض الإلهيّ، أضحى ـ دونما ريب ـ عُرضة للشيطان يتخطّفه، وللريح تهوي به من مكانٍ سحيق. نقرأ في الآية القرآنيّة الكريمة : (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة /257 .
ومن السابقين إلى الإيمان في صدر الإسلام: فاطمة بنت أسد، لا يختلف في هذا أحدٌ من علماء المسلمين، وقد صرّح بعضهم بأنّها أسلَمتْ بعد عشرة من المسلمين، وكانت الحادية عشرة ( شرح نهج البلاغة ،لأبن أبي الحديد 1: 14)، وقال عنها أحدهم: << جلالة فاطمة بنت أسد رضي الله عنها يُعلَم مِن ولادتها أميرَ المؤمنين عليه السّلام في الكعبة، وأنّها كانت من السابقين إلى الإيمان، أسلَمتْ بعد عشرة من المسلمين، فكانت الحادي عشر، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يُكرمها ويُعظّمها ويدعوها: أُمّي >> ( سفينة البحار للقمي 7 :122 مادة << فطم ). >>
ويعتقد البعض بأنّ فاطمة بنت أسد إنّما كانت الحادية عشرة ممّن يُظهِر إسلامه، ويستبعدون أمر كَونها حادي عشر مَن أسلم ( رياحين الشريعة ، للمحلاتي 3:6 ( بالفارسية)، ذلك أنّ التأمّل في مناجاتها اللهَ تعالى وقت طَلْقِها بأمير المؤمنين عليه السّلام عند الكعبة يبعث المرء على الاطمئنان بأنّها لم تتدنّس قطّ بعبادة الأصنام، وأنّ وجود النبيّ صلّى الله عليه وآله في بيتها عند طفولته وصباه ومشاهدتها الكرامات المتتالية منه صلّى الله عليه وآله، يجعل من المُستبعد أنّها تأخّرت في إسلامها إلى ما بعد عشرة أشخاص من المسلمين .
وقد لاحظنا في حديثٍ سابق أنّ الإمام السجّاد عليه السّلام يصرّح بكَوْن فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، فقد سئل عليه السّلام عن أبي طالب : أكان مؤمناً أم لا، فقال :
<< واعجباً! إنّ اللهَ تعالى نهى رسولَه أن يُقِرّ مسلمةً على نِكاحِ كافر، وقد كانت فاطمةُ بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تَزَلْ تحت أبي طالب حتّى مات>> ( بحار الأنوار 35 :17 ، حديث 4 . ونقلنا سابقا رواية مشابهة روها أبن معد الموسوي في الحجة على الذاهب 123 ـ124 ).
وقرأنا آنفاً في حديث مرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال عن ولادته وولادة عليّ عليهما وآلهما السّلام : << ... ثمّ نُقِلنا من صُلبه ( أي من صلب آدم ) في الأصلاب الطاهرات إلى الأرحام الطيّبة ... >> وعابدُ الوَثَنَ المشرك لا يمكن أن يكون له صُلب طاهر ولا رَحِم طيّب .
وروي أنّ فاطمة بنت أسد رأت النبيّ صلّى الله عليه وآله يأكل تمراً له رائحة تزداد على كلّ الأطائب من المِسك والعنبر، من نخلةٍ لا شَماريخَ لها، فقالت: ناوِلْني أَنَلْ منها، قال: لا تصلح إلاّ أن تشهدي معي أن لا إله إلاّ الله وأنّي محمّد رسول الله، فشهدتِ الشهادتَين، فناوَلَها فأكلتْ، فازدادت رغبتها، وطلبتْ أُخرى لأبي طالب، فعاهدها أن لا تُعطيه إلاّ بعد الشهادتَين ـ الحديث، وفيه أنّ أبا طالب شهد الشهادتَين فأطعمه النبيّ صلّى الله عليه وآله، وأنّ فاطمة عَلِقَت بعليّ عليه السّلام في تِلك الليلة ( بحار الأنوار 35 :17 ، حديث 14.)، ويُلاحظ أنّ فاطمة بنت أسد قد تشهدّت بالشهادتَين قبل النبوّة الظاهرية للنبيّ صلّى الله عليه وآله .
امتحان آخر
من المصائب التي ثَقُل وَطؤُها على رسول الله صلّى الله عليه وآله: فراق زوجته الوفيّة خديجة عليها السّلام أمّ المؤمنين، فقد فارقت هذه السيّدةُ المضحّية الحياةَ في العام الذي توفّي فيه أبو طالب، فسمّى النبيُّ صلّى الله عليه وآله ذلك العامَ بـ << عام الحُزن >>، وقد فقد النبيّ صلّى الله عليه وآله بوفاة خديجة الصدرَ الحنون الذي كان يُشاطره أفراحه وأحزانه، وفَقَد الرفيقَ الوفيّ الودود الذي وقف إلى جانبه في رسالته الشاقّة، وضحّى من أجل إعلاء الإسلام بكلّ ما يملك .
وكان عمرُ الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السّلام عند وفاة أمّها السيدة خديجة في السنة العاشرة من البعثة النبويّة لا يتجاوز خمس سنوات، وكانت أحوَج في طفولتها الغضّة إلى صدر حنون تأوي إليه، وقلب رحيم ودود يعوّضها ـ بالحبّ الذي يُغدقه عليها ـ عن بعض ما تجده جرّاء فقدها أمّها الحبيبة، ولم يكن ذلك الصدر الحنون والقلب الرحيم الودود سوى صدر فاطمة بنت أسد وقلبها الكبير، الصدر الذي نبض قلبه بحبّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وليداً، وأحرى به اليوم أن ينبض ـ كذلك ـ بحبّ فاطمة الزهراء عليها السّلام ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله وبضعته وفلذة كبده .
وهكذا خاضت هذه المرأة المؤمنة امتحاناً آخر في الحبّ والودّ، خَرَجت منه مُكلَّلة بإكليل الفخر والعزّ، فقد فازت ـ دون نساء العالَمين ـ بخدمة سيّدة نساء العالَمين (أنظر التفاصيل في رياحين الشريعة 3: 3 ـ4 ).
السَّبق إلى البَيعة
ذكر المؤرّخون أنّ فاطمة بنت أسد كانت أوّل امرأة بايَعت النبيَّ صلّى الله عليه وآله بعد خديجة ( بحار الأنوار 35: 182 .شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد 1 :14 )، وذكر بعضهم أنّ فاطمة بنت أسد تعرّضت ـ بسبب بيعتها ـ لملامة رجال قريش ونسائهم ( رياحين الشريعة 3 : 8 ـ نقلاً عن << خصائص فاطمية >>)، لكنّ إيمان بنت أسد لم يَضعُف وصلابتها لم تتزعزع قيد أنملة رغم مخالفة قريش وتهديداتها .
وروي عن الزبير بن العوّام قال: سمعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يدعو النساء إلى البيعة لمّا نزلت هذه الآية؛ يقصد قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ) الممتحنة /12 . فكانت فاطمةُ بنت أسد أُمُّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أوّلَ امرأةِ بايَعَت ( بحار الأنوار 36 : 122 ، حديث 65 ).
وكانت فاطمة بنت أسد من السابقين في الإسلام والإيمان، والبيعة، والهجرة، وقد خطتْ في هذا النهج بإرادة حديديّة وشوق وعزم راسخ وإيمان عميق، واستقبلتْ ـ صابرةً ـ كلّ أنواع الأخطار والأذى، فكانت حقّاً من مصاديق قوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة /100 .
وجاء في حديث عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام، قال :
إنّ فاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين عليه السّلام كانت أوّل امرأة هاجَرَت إلى رسول الله من مكّة إلى المدينة على قدمَيها ( الكافي للكليني 1: 453 ، حديث 2 ).
ونعرف ـ وفقاً للوعد الإلهيّ الذي لا يتخلّف، الذي ورد في الآية القرآنيّة الكريمة في حقّ السابقين ـ أنّ الله تعالى قد رضي عن فاطمة بنت أسد وأنّه أعدّ لها جنّات تجري تحتها الأنهار، ونقرأ في زيارتها : << ... رَضِيَ اللهُ عنكِ وأرضاكِ، وجَعلَ الجنّةَ مَنزِلَكِ ومَأواكِ>>.
ولادة النور
شاء الله عز وجلّ أن يُكرم هذه المرأة الوفيّة المضحية بما لم يُكرم به امرأة من نساء العالَمين، وهو عز وجلّ يختصّ برحمته مَن يشاء مِن عباده، فقدّرَتْ إرادة المُهيمن الأحد لفاطمة بنت أسد أن تَضعَ حَملَها المقدّس في مكّة المكرّمة أشرف بقاع الأرض يوم ذاك، وفي المسجد الحرام أشرف بقاع مكّة، وفي بيته الحرام: الكعبة أشرف بقاع المسجد، لم يسبقها في هذا الشرف سابق، ولم يُعقِبها فيه مخلوق .
يقول يزيد بن قُعنب : كنتُ جالساً مع العبّاس بن عبد المطّلب وفريق من عبد العُزّى بإزاء بيت الله الحرام، إذ أقبَلَتْ فاطمة بنت أسد أُم أمير المؤمنين عليه السّلام، وكانت حاملةً به لتسعة أشهُر، وقد أخذها الطَّلْق، فقالت: ربِّ إنّي مؤمنةٌ بكَ وبما جاء من عندكَ من رُسُل وكُتُب، وإنّي مصدّقةٌ بكلام جدّي إبراهيم الخليل عليه السّلام، وأنّه بَنَى البيتَ العتيق، فبحقِّ الذي بنى هذا البيت، وبحقِّ المولودِ الذي في بطني، لَما يَسَّرْتَ علَيَّ ولادتي .
قال يزيد بن قعنب: فرأينا البيت وقد انفتح عن ظهره ودَخَلت فاطمةُ فيه وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط، فرُمنا أن ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك أمرٌ مِن (أمر) الله عز وجلّ، ثمّ خَرَجتْ بعد اليوم الرابع وبيدها أميرُ المؤمنين عليه السّلام، ثمّ قالت: إنّي فُضِّلتُ على مَن تقدّمني من النساء، لأنّ آسية بنت مُزاحم عَبَدت اللهَ عز وجل سِرّاً في موضعٍ لا يُحبّ أن يُعبَد الله فيه إلاّ اضطراراً [ أي : بيت فرعون ]، وإنّ مَريمَ بنت عمران هَزّتِ النخلة اليابسة بيدها حتّى أكَلتْ منها رُطباً جَنِيّاً، وإنّي دخلتُ بيتَ الله الحرام، وأكلتُ من ثِمار الجنّة وأرزاقها، فلمّا أردتُ أن أخرج هَتَف بي هاتفٌ : يا فاطمة، سَمِّيه عليّاً، فهو عليّ، واللهُ العليّ الأعلى يقول : إنّي شَقَقْتُ اسمَه من اسمي، وأدَّبْتُه بأدبي، ووَقَفْتُهُ على غامض عِلمي، وهو الذي يكسر الأصنامَ في بيَتي، وهو الذي يُؤذّن فوق ظهرِ بيتي ويُقدّسني ويُمجّدني، فطُوبى لِمن أطاعه، ووَيلٌ لمن أبغَضَه وعصاه ( الأمالي ، للصدوق 114 ـ المجلسي 27 ).
وقد ذكر المؤرّخون المسلمون مسألة ولادة أمير المؤمنين عليه السّلام في الكعبة، وأوردوا في صددها طائفة من الأحاديث المستفيضة والمعتبرة، وقد أحصى الشيخ محمد علي الأُردوبادي في كتابه << عليٌّ مولود الكعبة >> ما يزيد على مائة مصدر من المصادر التي ذكرت هذه الفضيلة .
والتأمّل في مناجاة فاطمة بنت أسد ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار الأجواء السائدة في مكّة يوم ذاك ـ يُدلّل على سمّو مقام هذه المرأة الكريمة، فقد كان العرب في ذلك العصر يعبدون القمر والنجوم، بل كان بعضهم ـ كقبيلة بني مليح ـ يعبدون الجنّ، والبعض الآخر ـ كقبيلة حِمْيَر ـ يعبدون الشمس، ومنهم ـ كقبيلة كِنانة ـ من يعبد القَمَر.. وكان أغلب الناس يعبد الأصنام ويُقرّبون إليها القرابين رجاءَ كسب رِضاها، وكانوا إذا قرّبوا إلى الأصنام قُرباناً لَطّخوا رؤوسهم ووجوههم بدمائه، وكانوا إذا أرادوا فِعل أمرٍ مهمٍّ يقترعون بأخشاب كُتب على بعضها << افعَلْ >> وكتب على البعض الآخر << لا تَفعَلْ >>. والأفجع من هذا كلّه أنّ كلّ قبيلة كانت تختار رجلاً منها كلّ عام، فتجعله قرباناً للآلهة، وتدفن جثمانه المدمّى قُرب مذبح القرابين !
غروب البدر
لَملَمتْ فاطمة بنت أسد ذات يوم ذكرياتها وخواطرها خلال مسيرة حياتها المفعمة بالفداء والتضحية والثبات على المبدأ، وهُرعت صوبَ خالقها الودود الذي أكرمها في حياتها كما لم يُكرم امرأة قطّ، يحدو بها شوقٌ لا حدّ له لِلقاء ربِّها الكريم، والوفود على بَعلِها العظيم. وقد نقل المؤرّخون أن وفاتها كانت في السنة الثالثة ـ أو الرابعة ـ من الهجرة النبويّة، ودُفنت في المدينة المنوّرة، وكان لها عند وفاتها 65 عاماً تقريباً .
وروي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّ فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب لتبشّره بمولد النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال أبو طالب : اصبِري سَبْتاً أُبشرّكِ بمثله إلاّ النبوّة. وقال: السبت ثلاثون سنة، وكان بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السّلام ثلاثون سنة ( الكافي 1 : 452 ـ 453 ، حديث 1 ).
وروي عن الإمام الصادق عليه السّلام ( ضمن حديث ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان جالساً ذات يوم، إذ أتاه أمير المؤمنين عليه السّلام وهو يبكي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: ما يُبكيك ؟ فقال: ماتت أُمّي فاطمة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: وأمّي والله. وقام مُسرعاً حتّى دخل ونظر إليها وبكى، ثمّ أمر النساء أن يُغسّلنها، وقال صلّى الله عليه وآله: إذا فَرَغتُنّ فلا تُحدِثْنَ شيئاً حتّى تُعْلِمْنَني. فلمّا فَرَغْنَ أعْلَمْنَه بذلك، فأعطاهنّ أحدَ قميصَيه الذي يلي جَسَدَه، وأمرهنّ أن يُكَفِّنَّها فيه، وقال للمسلمين: إذا رأيتُموني قد فعلتُ شيئاً لم أفعله قبلَ ذلك فسَلوني لِمَ فَعَلتُه. فلمّا فَرَغْنَ من غسلها وكفنها دخل صلّى الله عليه وآله فحمل جنازتها على عاتقه، فلم يَزَل تحت جنازتها حتّى أوردها قبرها، ثمّ وضعها ودخل القبر فاضطجع فيه، ثمّ قام فأخذها على يَدَيه حتّى وَضَعَها في القبر، ثمّ انكبّ عليها طويلاً يُناجيها ويقول لها: ابنكِ ابنكِ. ثمّ خرج وسوّى عليها [ التراب ]، ثمّ انكبّ على قبرها، فسمعوه يقول: لا إله إلاّ الله، اللهمّ إنّي أستَودِعُها إيّاك. ثمّ انصرف، فقال له المسلمون: إنّا رأيناك فعلتَ أشياء لم تفعلها قبلَ اليوم، فقال: اليوم فَقَدت بِرّ أبي طالب، إنْ كانت لَيَكون عندها الشيءُ فتُؤثِرني به على نفسها ووُلدها، وإنّي ذكرتُ القيامة وأنّ الناس يُحشَرون عُراةً، فقالتْ: واسَوْأتاه! فضمنتُ لها أن يبعثها اللهُ كاسيةً، وذكرتُ ضغطةَ القبر، فقالت: واضَعفاه! فضمنتُ لها أن يكفيَها اللهُ ذلك، فكفّنتُها بقميصي واضطجعتُ في قبرها لذلك، وانكببتُ عليها فلقَّنْتُها ما تُسأل عنه، فإنّها سُئلتْ عن ربِّها فقالت، وسئلتْ عن رسولها فأجابت، وسئلتْ عن وليِّها وإمامِها فأُرتِج عليها، فقلتُ: ابنكِ، ابنكِ ( الكافي 1 : 453 ـ 454 ، حديث 2 ).
هكذا غَرَبتْ أمُّ الأئمّة وكفيلة النبيّ صلّى الله عليه وآله؛ وذُكر في كتاب (علل الشرائع) أنّها دُفنت في << الرَّوحاء >> ( الروح السعة، والروح ؛ انبساط في صدر القدم ، وقصعة روحاء ؛ قريبة القعر ، ويبدوا اسم الروحاء بشير إلى فسحة أرض البقيع قريبة من المسجد النبوي ، حيث يقع قبر فاطمة بنت أسد) مقابل حمّام أبي قطيفة، وقد اندثرت هذه الآثار فلم يبقَ من معالمها إلاّ أحجار يسيرة تشير إلى موضع قبرها وقبور الأئمّة الأطهار من بَنيها : الحسن المجتبى، وعليّ بن الحسين زَين العابدين، ومحمّد بن عليّ الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق صلوات الله عليهم أجمعين .
ورَحَلتْ فاطمة بنت أسد بعد عمر أنفقته في امتثال أمر خالقها وطاعة سيّدها ونبيّها المصطفى صلّى الله عليه وآله، فلم يكن عجباً أن يحزن نبيّ الرحمة صلّى الله عليه وآله لأجلها، ويدعو في حقّها بما دعا، ويلقّنها الولاية لإكمال إيمانها كما فَعَل. ويتصوّر البعض ـ خطأً ـ أن القبر الفعليّ لفاطمة بنت أسد هو القبر الطاهر لفاطمة الزهراء عليها السّلام، مع أنّ الأخبار الصحيحة وردت أنّ أئمّة البقيع الأربعة مدفونون إلى جانب جدّتهم فاطمة بنت أسد ( بحار الأنوار 48 : 298 ).
وهنيئاً لها وجوار قبرها وجنب مقام جبرائيل عليه السلام والدعاء المأثور : أي جواد أي كريم أي قريب أي بعيد أسألك أن تصلى على محمد وأهل بيته وأن ترد علي نعمتك . وندعو للجميع صالح الأعمال في شهر رمضان المبارك ويداً بيد لبناء الوطن ، ولشهداء العراق في الأحداث الأخيرة نهديهم ثواب سورة المباركة الفاتحة تسبقها الصلوات على أبو القاسم محمد صلى الله عليه وآله . وأرجو من القارئ الكريم أن لا ينسى روح أمي وأبي والمؤمنين والمؤمنات ويداً بيد للتعاون والتآخي لنصرة الجيش والحشد الشعبي والأيتام والأرامل الله الله بالوطن والله خير حافظ هو أرحم الراحمين.
أخوكم المحب صباح بهبهاني