سيابنا الرائع ومواقف الحياة الحلقة الثالثة -كريم مرزة الاسدي-امريكا

Sat, 14 May 2011 الساعة : 11:05

 بدر شاكر السياب ...ومواقف الحياة
الحلقة الثالثة
أخذت بغداد تسمع له ,وتحتفي به عند المشاركة في مناسبات أجتماعية ,وندوات أدبية كالاحتفال بذكرى الرصافي ,ومروراربعين يوما على وفاة عبد المسيح وزير ,وتهنئة الشاعر خضر الطائي عندما يفوز بجائزة ,لفت الانظار بجديده والقائه ,اذ يذوب في الكلمة ,ويتفاعل معها بحركات غريبة ,واسلوب مؤثر ,وراح يرتاد مقاهي بغداد الادبية كالبرازيلية والزهاوي والبلدية لتوثيق علاقته الاجتماعية ,والاحتكاك بالمثقفين ممن غدوا فيما بعد رواد حركة الشعر الحر امثال بلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وورشيد ياسين وسليمان العيسى ,ولاننسى الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي بقى محافظا على القصيدة العمودية ,ومرة ينزوي في مقهى ابراهيم عرب أو مقهى مبارك لينفرد مع كتبه ودواوين شعراء العصر العباسي الكبار , وطورا يطل على مقهى حسن عجمي لملاقاة الجواهري ,والتمتع بالحديث معه اعجابا وتقديرا,وكان السياب على معرفة بالاستاذ المحامي ناجي العبيدي صاحب جريدة (الاتحاد ) في الصابونجية , الذي نشر له اول قصيدة عام 1945 , ويزعم السياب ان النشر قد تم سنة 1941, ويتزود شاعرنا بالتراث الشعري العباسي , ويبدأ مع مهيار الديلمي والبحتري ,ويقرأ(الشعر والشعراء )لابن قتيبة الدنيوري ,ثم يواصل مسيرته مع المتنبي وببعض قصائد ابن الرومي,ولكنه يزداد تعلقا بأبي تمام المجدد والمصور والمبدع ,وفي وقت مبكر كبادرة لانفتاحه على الادب الاوربي , يطالع كتاب أحمد الصاوي محمد عن الشاعر الانكليزي برسي شللي ,ثم يرجع للاصل الانكليزي لشعر الشاعر حتى يعمق معرفته ,ثم يتجه لنهم ترجمات علي محمود طه ,وأحمد حسن الزيات لقصيدة (بحيرة )لامارتين,واشعار الفريد دي موسيه , استعار شاعرنا - وهو في زحمة القراءة والكتابة - مقولة المعري (تراني في الثلاثة من سجوني ), جعلها سجناً واحداً , وأغلالاً متعددة في قصيدته ( السجين ) :
( سجين ٌ ) ,ولكن ّ سجني الكتاب وأغلالي الآسرات الســـــطور
فما بين جنبيه ضاع الشبـــــــــاب وفوق الصحائف مات السرور
وفي الجامعة تحرك السياب في السنة الدراسية (1944-1945 ) لتشكيل جماعة (اخوان عبقر ) وهدفها الاهتمام بمواهب الشعراء الشباب , واقامة الندوات الشعرية والادبية , والتطرق الى أهداف الشعر وأثره في الحياة ,وكانت الشاعرة نازك الملائكة ,والاستاذ كمال الجبوري والدكتور المطلبي من المؤسسين ,وساهم عميد الدار الدكتور متي عقراوي و الاساتذة العراقيون والمصريون في دعمها .
وعندما نجح للصف الثالث (السنة الدراسية 1945-1946 ) ,حاول باصرار الانتقال لفرع اللغة الانكليزية , ليتخلص من الاعتماد على القواميس عند ترجمة نتاج شعراء الانكليز الكبار , ثم انها محاولة كسر الجمود الصامت في كيان التراث الشعري العربي ...نعم انها محاولة جادة وخارقة من مبتدىء مغوار تحمل باصرارتغيير الاقدار ..اقدار الشعر العمودي ونهجه ,نجح في هذا طائرا الى أفق جديد , و شاركته في مسعاه الحميد رفيقة دربه ,وزميلة درسه ,وسامعة شعره , وزفرات لوعته في باحات الكلية , ورحاب قاعاتها الشاعرة الرائعة نازك الملائكة , وان كل واحد منهما ادعى الريادة الريادة ,فكلاهما رائدان ,والطريق يتسع .
وفي أواخر سنة 1945 يختارشاعرنا أرضا لا يجيد السير عليها,وبقدمين لم يخلقا لهذه الاراضي الوعرة ,اذ يتخذ موقفا سياسيا بأنتمائه للحزب الشيوعي العراقي متأثرا بشخص مثقف من الاهواز اسمه أحمدعلوان وعمه عبد المجيد ,كان الاجدر به أن يكون حر الابداع والرؤيا ,لانه يمتلك جناحين جبارين يحلق بهما في الاجواء العالية , ولكنهما يعيقانه عن المشي على الارض ,كما يقول شارل بودلير في أزهار شره ,فالسياسة مكانها الارض ,والشعر مجاله السماء ,فعند الهبوط ..التصادم واقع لا محالة ,والتعثر ضريبة مستحقة الدفع, والرجل وقع..ودفع ..ودفع ..والقصة آتية ,خسر الملذات الفانية,وربح الذكرىالباقية, وبمعنى اخر , السياسة واقع يوعد بالاحلام , والشعر أحلام تتمنى الوقوع ,والسياسة علم يبنى عليه ,والشعر خيال يتطلع اليه ,لذلك هو يرجو ,ويتمنى ,ولا يرى ,ربما الى مدى ,يقول سيابنا الجميل :
وأين القطاف؟
مناجل لا تحصد ,
أزاهرلا تعقد ,
مزارع سوداء من غير ماء !
أهذا انتظار السنين الطويلة ؟
أهذا صراخ الرجولة ؟
أهذا أنين النساء ؟
أدونيس ,يا لاندحار البطولة .
لقد حطم الموت فيك الرجاء
وأقبلت بالنظرة الزائغة
وبالقبضة الفارغة
لم تكن صرخاته الثورية ,ومواقفه الوطنية , أقل شأنا ,وأضعف رابطة من الرصافي او الجواهري ,ان لم تكن أكثر ألما وتوجعا ,مهما يكن من أمر ,الرجل شارك في مظاهرات ,واضرابات أواخر السنة المذكوره ,وسجن بداية سنة 1945 وأطلق سراحه,وفصل من الدراسة , ,وضاعت عليه السنة ,ودفع ثمن النضال .ولكن يواصل دراسته للسنة الدراسية (1946- 1947),ؤيدخل السنة الثالثة,فرع اللغة الانكليزية, فحقق بعض ما يصبو اليه - وسط اندهاش زملائه وزميلاته , وتساؤلاتهم عن شاعر عربي يهجر عربيته - وذلك بالتعرف على شعر وودزورث وكيتس وشللي ,ويعجب بشعر أليوت وأديث سيتويل ,ومن ثم يقرأ ترجمة أزهار شر شارل بودلير ,فتستهويه , ويضمّن بعض المقاطع الشعرية لهم في شعره المستقبلي , أو يتأثر بها شكلا ومضمونا بشكل جلي وواضح ,أو يستوحي أفكارها وصورها ,صائغا ذلك حسب شاعريته الفذة وعبقريته , والشعر العالمي يؤثر , ويتأثر .

ولابد من التعريج على موقفه السياسي في هذه الفترة ,ففي تموز 1946 وكان حينها بدر قابعا في قريته, مفصولا من كليته,يلحأ اليه أحد قيادي الحزب الشيوعي الملاحقين ( نعيم طويق ) , بأمر من قيادة الحزب نفسه ,فهيأ له مكانا بين أحد بساتين النخيل ،ويتثقف عليه المادية الديالكتيكية ,والشؤون الحربية ,وفي احدى الليالي ,صحب صاحبه الى جلسة طرب في بستان مجاور , ودارت عليهما الخمرة ,فسكرا.
وفي بداية السنة الدراسية 1946- 1947 ,يعود المفصول الى داره العالية ,ويواصل دراسته ,وأول عمل قام به يزور رفيقه القيادي المعروف حسين الشبيبي - الذي أعدم من بعد -,فيكلفه بقيادة رفاقه في الدار ,يفرح لهذا الامربادئا ,تم يعتذر لصعوبة المهمة السياسية ,وضعف القدرة البدنية.
السياب يبدأمرحلة شعر التفعيلة...ويشهر ذلك ...ولنازك رأي :
في كانون الاول من عام 1947 ,يصدر السياب مجموعته الشعرية الاولى (أزهار ذابلة ) من مطبعة الكرنك بفجالة القاهرة, تتضمن قصيدته (هل كان حبا ),والتي يزعم إنه نظمها عام 1946 , وهي متعددة البحور والقوافي ,او بكلمة أدق من بحر (الرمل ومجزوءاته ) .بقواف مختلفة ,أي التفعيلة (فاعلاتن ),تتكرر بأعداد متبايننة من شطر الى اخر ,وهذا التغيير يعتبر طفيفا ,ولكن كبداية تحسب له طفرة رائدة ,ترتب عليها ما بعدها ,واليك بعض من (هل كان حبا ) :
هل تسمين الذي ألقى هياما ؟
أم جنونا بالاماني ؟ أم غراما ؟
ما يكون الحب نوحا وابتساما
أم حقوق الأضلع الحرى ,اذا حان التلاقي
لعيون الحور , لو أصبحن ظلا في شرابي
جفت الاقداح في أيدي صحابي
دون أن يحضين حتى بالحباب
هيئي يا كأس , من حافاتك السكرى ,مكانا
تتلاقى فيه يوما شفتانا
في خفوق والتهاب
هذا ما ثبته السياب ,وسجل له ,وقيد باسمه,وسانده روفائيل بطي, ؤدعمه قي موقفه ,بكتابة مقدمة لأزهاره الذابلة قائلا :عسى أن يمعن في جرأته في هذا المسلك المجدد ,لعله يوفق الى أثر في شعر اليوم ,فالشكوى صارخة على أن الشعر العربي قد أحتفظ بجموده في الطريقة مدة أطول مما كان ينتظر من النهضة الحديثة .
ونازعته نازك الملائكة على تجديده زاعمة الاسبقية لها ,وانها استوحت في 27 -10- 1947 أصوات سنابك الخيل الناقلة لجثث موتى وباء الكوليرا الذي حل بريف مصر ,فنظمت قصيدتها (الكوليرا ) ,من شعر التفعيلة ,وعرضتها على أمها ,فاستصغرت التجربة ,اما ابوها فسخر منها ,وأصرت هي عليها ونشرتها ,فكانت الرائدة ,ويقول النقاد القضية لم تحسم بعد ,واليك مطلعها :
سكن الليل
اصغ الي وقع صدى الآنات
في عمق الظلمة ,تحت الصمت ,على الأموات
صرخات تعلق تضطرب
حزن يتدفق يلتهب
يتعثر فيه صدى الآهات
نشرت هذه القصيدة في ديوان نازك (شظايا ورماد) ,الذي صدر 1949 ,ومعظم قصائده تجري على النمط الجديد من الشعر , والحقيقة كانت الشاعرة أكثر ادراكا لجديدها ,وأعلنته رسميا ,والسياب يذكر - كما يقول الدكتور احسان عباس في مؤلفه عنه -:ومهما يكن ,فأن كوني أو نازك أو باكثير ,أول من كتب الشعر الحر ,أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم , وأنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر , فيجيد فيما كتبه .
تجربته العاطفية الأخيرة مع الشاعرة ....ويبقى حتى الزواج
وعلى الجانب العاطفي , في السنة الدراسية الأخيرة له في داره العالية (1947- 1948 ) ,يجرب حظه هذه المرة مع شاعرة عراقية معروفة , كانت علاقتهما أولا ذات طابع سياسي , ثم تمتنت روابط الصداقة , لتتحول الى وشائج حب عاطفي ,يهيم بهما للارتماء في أحضان جيكور ثلاثة أيام بلياليها , وينظم أشعار العشق والغرام فيها بين زوارق الأحلام ,وبساتين الهيام , ولكن حاجز الدين أقوى من غرائز أثنين,فتقف الامور عند حدها لهذا السبب او لآخر ,ربما الشعر يغري ,والهيئة تزري ,والنساء يغرهن الثناء , والله خير العالمين ! , فمن ديوانه ( أساطير )الذي خصص معظم قصائده عنها , إليك من قصيدة (وداع ) ,ما يستطاع :
ستنسين هذا الجبين الحزين
كما انحلت الغيمة الشاردة
وغابت كحلم وراء التلال
بعيدا..سوى قطرة جامدة
ستنثرها الريح عما قليل
وتشربها التربة الباردة
********
ورب اكتئاب يسيل الغروب
على صمته الشاحب الساهم
وأغنية في سكون الطريق
تلاشت على هدأة العالم
أثارا صدى تهمس الذكريات
إذا ما أنتهى همسة الحالم
**********
تلفت عن غير قصد هناك
فأبصرت ..بالانتحار الخيال!
حروفا من النار..ماذا تقول؟
لقد مر ركب السنين الثقال
وقد باح تقويمهن الحزين
بأن اللقاء المرجى..محال!!
يصاب الرجل بخيبة أمل كبيرة في الحب ,عشق سبعا ,وما نال حب واحدة ,عدد معي رجاء ,وفيقة, هالة ,لميعة,ناهدة, لبيبة (لباب ) ,لمياء , أليس ,ولك أخريات من وهم الخيال ,ليلى ,سلوى ,نادرة ....واليك مايقول معترفا للباريسية ,وقيل البلجيكية الانسة لوك لوران :
وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا
ولكن كل من أحببت قبلك ما أحبوني
ولا عطفوا علي ,عشقت سبعا ,كن أحيانا
ترف شعورهن علي, تحملني الى الصين
سفائن من عطور نهودهن , أغوص في بحر من الاوهام والوجد
امرأة باعته من أجل المال ,والاخرى من أجل الجمال ,ولو كانت أكبر منه سنا ,والثالثة تريد قصرا وسيارة ,وما عنده غير كوخ وحجارة , ودفتر اشعاره !..... والأخيرة شاعرة , تختلف عنه بالديانة....ونحن بالانتظار أن تقبل عليه (إقباله ) . وفي بداية الانتظار يصر شاعرنا على الانسلاخ من روابط الحب السرابي , لينطلق نحو رفاق السياسة , وأصدقاء العلاقة, ففي قصيدته (سوف أمضي )من (أساطيره ), يقول :
سوف أمضي حول عينيك, لا ترنّي اليا
إن سحرا فيهما يستوقف القلب الكسيرا
أتركيني ها هو الفجر تبدى , ورفاقي في انتظاري
ليس هذا فقط ,بل أخذ السياب في قصيدته ( ليالي الخريف ) ,من نفس ديوانه (الأساطير ) , وفي السنة ذاتها 1948 , تراوده عقدة الموت , بلا مقدمات تذكر ه به ,ولا أمراض تشير إليه , إنها الهواجس , والاضطراب النفسي القلق :
كيف يطغي على المسا والملال!؟
في ضلوعي ظلام القبور السجين
في ضلوعي يصيح الردى بالتراب الذي كان
أمي ,غدا سوف يأتي
فلا تقلقي بالنحيب
عالم الموت حيث السكون الرهيب
سوف أمضي كما جئت واحسرتاه !
واتنهت المرحلة الرومانتيكية المبكرة لشعره ,وكان نتاجه فيها ثسعا وتسعين قصيدة , مغناة,لاتتصف بالطول ,نظمها ما بين (1941-ومنتصف 1948 ), وتضمنتها دواوينه (أزهار ذابلة 1947 ) , ( أعاصير 1948) حافظ الشاعر في هذا الديوان على الشكل العمودي في قصائده ذات المضمون الانساني ,(أساطير1950 ) , أعادالشاعرطبع قصائد الديوان الأخير في ديوان (أزهار و أساطير ) بأستثناء ( سراب ,عبير , عينان زرقاوان , يا ليالي , خطاب الى يزيد , الى حسناء القصر ), ثم ضمنت بعض قصائد هذه المجموعات في دواوين طبعت فيما بعد .

 

Share |