الكلينكس السياسي-محمد الكاظم
Tue, 6 Sep 2011 الساعة : 0:11

مقدم البرامج الشهير فيصل القاسم الذي يقدم برنامج الاتجاه المعاكس من قناة الجزيرة منذ خمسة عشر عاما في وضع لايعلمه إلا الله، وهو يعيش تجربة الحيرة بين أمنه وأمن عائلته، وبين ماكان يردده طوال حياته من كلام ثوري يقترب من العنتريات التي ماتزال تداعب وتؤثر في مشاعر العالم العربي الغارق في حلم البطولة .
كلام القاسم كان مربحا له ومقبولا لدى محطته ومشاهديه حينما كانت الامور سمن على عسل بين بلده سوريا وبين دولة قطر، البلد الذي يمول القناة التي يعمل بها .
لكن الامور انقلبت وصار التهديد يترصده وعائلته ومصالحه وعلاقاته في سوريا، بعد تبين ان الاحتجاجات في سوريا ليست مجرد تظاهرات عادية وانما طوفانا يمكن ان يطيح بالنظام كله . فأقدم القاسم على الصمت وعلى الإستقالة في رواية اخرى .فإذا دافع القاسم عن نظام الاسد الذي تربطه به علاقات جيدة لن يكون بإمكانه الظهور من على شاشة الجزيرة التي صارت تلعب دورا معاصرا بديلا عن الاحزاب السرية والحركات الايديولوجية وصارت برامجها بديلا عن اساليب الجهاد والكفاح المسلح والانظمة الخيطية والاوكار التي تقام فيها الاجتماعات السريه، واخبارها العاجلة بديلا عن المنشورات السرية وكتابة الشعارات في الليل على الجدران. وتغطيتها بديلا عن البيان رقم واحد. وسيفقد في نفس الوقت جمهوره الذي اعتاد عليه قافزا ناطا مثل مدير لحلبة ملاكمة كلامية يتم فيها تعاطي فياغرا الخطابة .اما إن هاجم القاسم النظام فهو لايعرف عواقب ذلك على اسرته ولا يعرف مالذي يمكن ان يبدر من نظام محتضر.
مشكلة القاسم ليست مشكلته وحده بل مشكلة الاعلام العربي كله مع السلطة العربية .
واذا كان فيصل القاسم قد امسك بالعصا من الوسط ولاذ بالصمت فأن اخرين لم يتمكنوا من ذلك، فمقدم البرامج الشهير الآخر جورج قرداحي دفع ثمن كلمة قالها في سوريا ربما خوفا او مجاملة عندما ووصف الثوار في سوريا بالمندسين الامر الذي اعتبرته ادارة MBC السعودية تأييدا لبشار الاسد، وإضرارا بمصالح السعودية التي استثمرت في الثورة السورية اموالا وسلاحا وافكارا ومواقف ودشاديش قصيرة، فأوقفت برنامجا كبيرا وضخم التمويل كان قرداحي يستعد للظهور به بعد شهر رمضان.
الحاله معكوسة مع مذيعه اسمها هالة المصراتي اطلت من التلفزيون الليبي ووجهت فوهة مسدسها الى المشاهدين متوعدة ثوار ليبيا بأنها ستقاتلهم اذا وصلوا الى طرابلس. وهي لم تكن تقصد بالتأكيد ماكانت تقوله لكنها قامت بإستعراض لفظي لتقنع ولي نعمتها بولائها، وبعد أيام اطلت المصراتي باكية بعد اقتحام الثوار لمبنى التلفزيون وإلقائهم القبض عليها، إثر فرار القذافي من باب العزيزية، تاركا اياها لمصيرها الذي لن يكون بأي حال بعيدا عن مصير المطرب العراقي قاسم السلطان الذي نسي العراقيون حرب 2003 بكل تفاصيلها، ونسوا ثلاثة عقود قبلها، ونسوا وجوها سياسية كانت جزءا من منظومة النظام السابق اصبحت وجوها سياسية مألوفة في النظام الجديد. لكنهم لم ينسوا اغنيته الشهيره "فوت بيها وع الزلم خليها" حتى ان البعض حمّله مسؤولية انهيار النظام.
مذيعة العربية زينة اليازجي السورية الاصل حسمت امرها بالوقوف مع النظام السوري وإستقالت من قناة العربية السعودية مضحية برزقها من اجل سلامة عائلتها، وربما سيكتب الثوار اسمها في لائحة العار التي لم يسلم منها حتى غوار الطوشه .
وهناك عشرات الحالات المشابهه التي جعلت من الثورات العربية موسما لسقوط الانظمة وسقوط النخب الاعلامية التي تربط مصيرها بمصير الانظمة او تتورط بالدفاع عنها في لحظاتها الاخيرة ، خصوصا ان الانظمة العربية بكل اشكالها لاتنظر الى الاعلامي الا باعتباره ببغاء يردد ماتريد السلطة ان يقوله، لذلك يتم التخلص منه بسهولة مثل ورق الكلينكس متى ماعجز عن الاستمرار بإزالة قذارات السلطة.
الثورات العربية منحتنا دليلا جديدا على ان مايقال في وسائل الاعلام العربية عن حرية الاعلام وحياديته واستقلاليته ومهنيته والسماح للرأي والرأي الاخر بالتواجد على خارطة البث يمكن ان يكون صالحا عندما يتعلق الامر بتغطية اخبارية لزلزال هاييتي اومجاعة الصومال او انتخابات جورجيا
لكن حينما يكون البلد الذي يدفع رواتب المذيعين والصحفيين هو نفسه الذي يشتري الاسلحة للثوار والذخائر في البلد المجاور، او يدعم فصيلا سياسيا على حساب فصيل آخر في انتخابات الجيران، يصبح الرأي والرأي الاخر شعارا عسكريا، ويصبح الإصرارعلى أن نعرف اكثر، مناورة تعبوية من مناورات التوجيه المعنوي، وتصبح تكتيكات قصف العقول القادمة من دوائر المخابرات اكثر أثرا من الخطط التحريرية القادمة من غرفة الاخبار ،ويصبح الحديث عن السلطة الرابعة مجرد تعاط لمخدر سياسي سيء المفعول. ولايعود من المفاجيء مشاهدة الاعلام وهو يغض الطرف دون حياء عن أشاعة تلفزيونية عربية اسمها الموضوعية، ليرتدي الخاكي على غرار مذيعي الفضائية العراقية الذي ارتدوا عام 2003الملابس العسكرية وقرأوا اخبار النصر الذي لم يحدث الا في الغرفة المجاورة لأستوديو الاخبار .
في تلك الفترة اجتمع محمد سعيد الصحاف آخر وزير اعلام عراقي بالمراسلين الصحفيين العراقيين العاملين في المحطات الفضائية العربية التي كانت تغطي حرب اسقاط النظام السابق وقال لهم بالحرف الواحد انسوا مهنية محطاتكم، وانسوا الحيادية، نريدكم اليوم ان تكونوا وطنيين لامهنيين. والا.....
بعض الصحفيين الذي كانوا يفهمون الوطنية على انها الدفاع عن الانظمة التزم بمعادلة الصحاف وقتها . فيما ضحك عليه صحفيون آخرون يجيدون قراءة المستقبل ولايريدون التحول الى كلينكس سياسي .
تجربة الثورات العربية ستفرز واقعا اعلاميا جديدا يسير حسب معطيات المعركة الجارية بين الشعوب والانظمة ، فيما ستغيب اسماء الكثير من نجوم الاعلام والادب والفن والمجتمع لانهم ببساطة تحولوا الى كلينكس سياسي .