اللعميّون-محمد الكاظم
Wed, 24 Aug 2011 الساعة : 15:38

في لحظات كثيرة اشعر بغرابة العراقي ، الذي لاتوجد لديه نقاط فاصلة بين موقفين ، فالمنطقة الرمادية تتسع لدى العراقي لتشمل جميع الالوان الواقعة بين الابيض والاسود، فالـ"نعم" يمكن ان تحمل دلالة اللا والنعم في وقت واحد .والعكس صحيح، فاغلب مواقف العراقيين عبارة عن "لعم"، ليست لا وليست نعم.
فانتماء العراقي لمذهبه، وولاؤه لعشيرته ، ويرفع في نفس الوقت شعار القومية العابرة للولاءات والحدود التي تمتد من المحيط الى الخليج ،
وينتمي العراقي لمدينته وعشيرته ويتحدث عن مشاعر أممية عابرة للالسن والثقافات والتاريخ.
ليس الموضوع متعلقا بتعدد الهويات التي اصبحت سمة المواطن العالمي الكوزموبوليتاني وهويته المعاصرة ، لكن في تشظي الشخصية التي تشبه مخزن الاشياء الزائدة في البيت الذي يمكن ان يحتوي اشياء متنافرة يجمعها مكان واحد .
فقد اثبت العراقي في مراحل متعددة من مراحل تاريخه المثقل بالدم والزيف ،انه يمكن ان يطيع شيوخ عشائره عندما يحتاج الى سطوة العشيرة ،ويكفر بما يسميها تقاليد بالية في لحظة اخرى .
يشارك بحماس في المناسبات العامة للقبيلة والطائفة والقومية، ثم يقف امام الرفيق الحزبي ويشي بابناء عمومته الهاربين من الجيش ويعطيه قائمة بمن يطبخون الهريسه في عاشوراء.
يجل العراقي رجال الدين ويسمع كلامهم ويصلي ورائهم وقد يذهب الى الحج ، وربما تسمع بعد فترة ان هيئة النزاهة اوقفته بتهمة سرقة المال العام .
يدافع العراقي عن وطنه ضد مذهبه كما حصل في انتفاضة 1991 عندما قمع الجيش العراقيين دفاعا عن العراق!، ثم يذوب في المذهب و يتخندق مذهبيا ضد المذهب الاخر كما حصل في الصراع الطائفي منتصف العقد الماضي .
ويدافع العراقي عن قوميته ضد مواطنته ، ويقف ضد قوميته دفاعا عن قيادته ، ويحارب العراقي ضد مواطنيه دفاعا عن وطنه كما حصل في تجربة العراقيين مع الدكتاتور الذي اختصر الوطن في شخصه، فصار كل معارضيه اعداءا للوطن.
العراقي كان يتابع خطابات صدام حسين على التلفزيون الرسمي ويستمع الى اذاعات المعارضة في نفس الوقت ، يغني في عيد ميلاد صدام ويطلق النكات على رموز نظامه ، يشارك في إجتماعات حزب البعث ، ويقرأ في السر منشورات حزب الدعوة ،
يغني "الله يخلي الريس" ويستمع الى خطب الشيخ احمد الوائلي من اذاعة طهران،
يحتفل بميلاد حزب البعث ثم يحيي بعد ايام ذكرى استشهاد الحسين عليه السلام،
ويطلق الأهازيج أمام مستشارالمالكي لشؤون المصالحة دون ان ينتبه الى ان تلك الأهازيج مستنسخة عن اهازيج تم ترديدها لأمين سر الفرع . دون ان ينسى ان يقبض من الطرفين
ازدواجية تحتاج الى اكثر من مجرد الاشارة اليها او انتقادها، لأن تلك الازدواجية مستمرة ونجد صداها حتى في اداء النخب السياسية التي يفترض بها ان تعي الخطوط الفاصلة بين المواقف ، فهناك كثيرون يعلنون تأييدهم للنظام السياسي ويعملون على تفتيته وتقليل الثقة به في ظل عقلية مزدوجة جاءت بمنطق المحاصصة ثم اتهتمه بالطائفية .وصنعت السياسة التوافقية ثم اتهمتها بتكريس الترهل والفساد وانعدام الكفاءه،
كتبت الدستور وصوتت له ثم خرقته وداست عليه ، وصارعت من اجل التواجد ضمن التركيبة الحكومية ثم عملت على الاطاحة بالحكومة ، ووافقت على مبدأ الشراكة ثم انقلبت عليه ، وتمتدح عمل المعارضة ولاتريد ان تكون في المعارضة ، وتوقع اتفاقات سياسية ثم تتحدث عن لادستوريتها، وساهمت في الترهل الحكومي ثم دعت الى الترشيق.تخرج من باب الحكومة ثم تعود من شباك البرلمان
وهذا انعكاس للجو الذي يتحمل السياسيون جزءا كبيرا من اخطاءه .فلايمكن فهم ان تشارك في بناء نظام سياسي وان تحن الى نظام غيره وتتلقى الاموال او النصائح من نظام ثالث، ولايمكن فهم ان يكون المرء جزءا من عملية سياسية ويفكر بعرقلتها او بالانقلاب عليها او الاطاحة بخصومه فيها، لأنها لم تعد مجرد مناخ تتحرك فيه النخبة السياسية وتتنافس فيه الاحزاب بل هي فرصة شعب كامل في ترسيخ تجربته واستكمال مشروع بناء الدولة والخلاص من تقاليد الاستئثار بالسلطة وتحقيق الرفاة والتعايش وبناء المستقبل .
والتجربة السياسية في العراق لايمكن ان تحقق انجازات كبيرة وتؤسس لحياة سياسية مستقرة مادامت المواقف تحمل كل هذه الزئبقية التي تجعل كل شيء هلاميا وغير واضح المعالم ومعرضا للتبدل تحت لافتة فن الممكن التي اصبحت اكثر مطاطية مما يجب ، لان ذلك يصعّب من عملية تأسيس قاعدة من المواقف والمتبنيات تقوم عليها اية عملية سياسية .كما يصعّب من نمو حياة حزبية وسياسية بعيدة عن منطق الصفقة بدل الاتفاق، ويشوش اذهان الجمهور ويفسد خياراته ويحيده عن دائرة الفعل .
عن جريدة العالم