الأمنُ في العراق/قاسم مُحمّد الكفائي
Fri, 23 May 2014 الساعة : 23:32

المقدمة !
الكثيرُ من مراكزِ الدراساتِ الأستراتيجيةِ ، العربيةِ والعالميةِ المتخصصةِ تناولت بحوثا كثيرةً ومُعَمَّقة ً حولَ مفهومِ الأمن ، بعضُها يُعبِّرُ عن الموضوعيةِ وآخرَ يُعبِّرُ عن الترَفِ السياسي الذي يعيشهُ الباحثُ المُترَفُ في ظلِّ دولتهِ المُترَفة . "فالأمنُ" من وجهةِ نظرِ دائرةِ المعارفِ البريطانية يعني "حماية الأمة من خطرِ القهرِ على يدِ قوةٍ أجنبية" . كذلكِ من وجهةِ نظر هنري كسينجر وزيرِ الخارجية الأمريكي الأسبق يعني “أيَّ تصرفاتٍ يسعى المجتمعُ عن طريقها إلى حفظ حقهِ في البَقاء” .
لقد اختلفَ الأكادميون المتخصصون حول التعريفِ الناجع لمفهوم الأمن لحَداثتهِ وتخرُّصاتهِ ، ولكنَّ التعبير المُنصف والأسلم في قولهِ تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ" ) . انتهى .
في هذا البحثِ المُختصَر لابدَّ لنا أن نبتعدَ عن الترَفِ الذي أشرنا اليه في مُقدمتِنا سلفا ، كونَ الواقع الذي يعيشهُ العراقُ والعراقيون هو واقعٌ محسوسٌ ، غيرُ مُستقرٍّ ، ينزفُ دما تحتَ وطأةِ ضرباتِ الأرهاب ، ليسَ للمواطنِ مَأمنا فيه ، وقد زادَ من حدَّتهِ بسببِ انعدامِ السُبلِ الكفيلةِ والناجحةِ لمكافحةِ مظاهر الأرهاب ووسائلهِ ، واجتثاثِ جذورهِ ، وقد تخبّطت المؤسساتُ الامنية ُ العراقية ُ المختصة بعملِها ، ففشِلت ، وجَنَت منهُ الدمارَ ، غيرَ أنها تتحدثُ عن أمنٍ وهميٍّ غيرِ مُستقرٍّ ولا مُنضَبطٍ ، مَصحوبا بالوعودِ في تغيير الخطةِ الامنيةِ القديمةِ بأخرى جديدةٍ ، لأن الوسيلة المُعتمَدَة في مكافحةِ الأرهابِ في العراق هي "العشوائية" التي لا ترقى الى أدنى درجاتِ المِهنية ، بل زادَت من حجم الخسائر بالارواح والممتلكاتِ ، ودارت فيها عجلة ُ البلادِ الى الوراء .
إنَّ من أولوياتِ العملِ على بسطِ الأمنِ وشعورِ المواطن بالطمأنينةِ والأرتخاءِ وليس الخوفُ والتوترُ هو أن توفرَ وتمنحَ مؤسساتُ الدولةِ بوافر جُهدِها للأنسان شيئين أساسيين هما : "الخبزُ والخدمات" . أما المرحلة ُ الأخرى التي يُمكنُ فيها العملَ على مكافحةِ الجريمة ِ والأرهاب والفسادِ العام ، وكلِّ مظاهرِ الأنفلات ، مع رَصدِ كلِّ حركةٍ معاديةٍ في الداخل أو قادمةٍ من الخارج ، فأنها تخضعُ لعمل ورعايةِ مؤسّساتِ أجهزة المخابراتِ وليس غيرها من المؤسساتِ الأخرى التي لا تشارك بلمسةِ أصبع إلا بالتشاور . إذا ! كيفَ يكونُ ممكنا وفي أيِّ ظرفٍ ووسيلة يتمُ إدارة هذه المهمة العظيمة ...؟
الذي أستطيعُ تحريرهُ هنا ، هو أن هذا العملَ له أسرارُه وغموضُه في عالم ٍ غامض ٍآخر ، ووسائلٌ أخرى غير وسائلِ الجُهدِ العسكري ، أو الأكاديمي والتكنولوجي الذي يعرفه ُطلابُ المؤسساتِ الأمنيةِ وقادتهُا ، ولا استغناءَ عن كلِّ ما وَرد .
)( أدناه ** رابطان فيهِما مجموعة ٌ من مقالاتي بعضُها تتحدثُ بهذا الخصوص لعلَّ المُتخصص والقارىء يجد فيها لمحة ً تدله ُ على شيىء ينتفعُ به )( .
العراقُ ما بعد التغيير تعرَّضَ لأنتكاسةٍ مُدمِرةٍ قصَمَت ظهرَهُ المخططاتُ الخارجية ، الدولية ُ منها والأقليمية ، وقد صنعتها عقولٌ أكبرُ بكثيرٍ وأوسعُ من المؤسسةِ الأمنيةِ العراقية بكل صنوفها واستعداداتِها ، بل ومن ذهن الأنسان العراقي العادي أوالمثقف ، وحتى المُتخصِّص . فالرَدُّ على تلكَ المخططاتِ يحتاجُ الى التدابيرِ والوسائل التي ترقى الى صناعةِ تلك المخططاتِ لتحجيمِها وتعريتِها ، ثم ردِّها على المستويين ، الداخلي والخارجي .
الفهَمُ السائدُ ( خطىءٌ قاتلٌ ومُدمِّر ) في المؤسسةِ الأمنيةِ العراقية ، ولدى كلِّ الخبراء الأمنيين والمثقفين بأن التخصص الأكاديمي في علوم الأمن هو يكفي للمتخصص أن يتبوأَ مقامَه الرفيعِ ليقودَ مؤسستهُ ويمارسَ عمله كي يأخذَ بيدِ شعبهِ ودولتهِ الى شاطىء الأمان والأستقرارِ . هذا اللونُ من الفهَم يفسّرُ حقيقة َ ابتعادِ هذه المؤسسةِ عن دورِها الحقيقي ، وغياب الوسيلةِ الصحيحةِ التي هي خارج دائرة هذا الفهم في معالجةِ تلك المظاهر وردمِها . فعلمُ المخابرات يختلف عن كلِّ العلوم ، لا يخضعُ لمعادلةٍ ولا يتحدَّد بتقييم ، بل يتحركُ مع حركةِ الأنسانِ ، فكرا وسلوكا وممارسة .
أيضا ! هناك فهمٌ خاطىءٌ آخرَ يتكررُ في تلك الواجهات ، هو أن الدراسة بهذا التخصُّص في أمريكا وكندا ودول أوروبا ، أو استراليا تكفي لأستيعابِ كلّ مستلزماتِ العمل والممارسةِ والتفوق في دوائرها حين عودتها بعد إكمال مهمة الدراسة ، وأن مؤسساتِ هذه الدول تعتمد في عملها الأستخباري على الكفاءة الأكاديمية ليس إلا . هذا الفهم نعني به الجهل الذي تتخيلهُ تلكَ المؤسساتِ وتنفردُ به كونها لا تدرك ولو عتبة بابِ السِرية التي يتحصن بها النهج والسلوك الذي تقف ورائه مؤسساتُ مخابرات هذه الدول في معالجة كلِّ ظاهرةٍ من مظاهر الحياة ( المعنى عميق وواسع كالمحيط ) . لأن الممارسة والسلوك اللذين تنتهجُهُما يبتعدُ كثيرا عن المعنى الأكاديمي الذي تتخيله مؤسساتنُا المرتبكة بغيبوبيتها ومشاهداتِها في عالم التطورِ والمدنية والاستقرار الذي تنعَم به تلك الدولُ وشعوبُها .
ليس بمقدورِ المؤسسةِ الأمنيةِ لأيةِ دولةٍ أن تقيمَ أو تؤسِّسَ على أرضِها وفي مجتمعِها قواعدَ للأمن بوسائل عشوائيةٍ تخضعُ لمقاساتِ وفهم الأشخاص ممن يحملون الرتب التقليدية ولا يحملون العقول المرنة أو القدرة على الأبداع والمناورة والحركة خارج الدائرة الضيقة بمعناها التقليدي الذي تتحرك به .
ففي كلِّ مؤسساتِ هذه الدول لا توجد دراسة للطلاب الوافدين عليها من دول العالم الثالث تهتم بقضايا الاغتيال السياسي والتصفيات لمواطنين آخرين على خلفياتٍ طائفيةٍ أو أثنية ، ولا توجد دراسة ٌ في مؤسساتِ هذه الدول تعني بالأختطافِ الذي يؤدي الى القتل وإعلان قصة مفبركة ما بعد الحَدث . هذا النهج ُ المُرعِب لعالم ٍ مُظلم ٍ هو نهجٌ مُستمرٌ تُحركهُ أصابعٌ خفية ويقتاتُ عليه عالمُ الديمقراطية لتك الدول ، وتنتشر تحت ظلهِ مبادىُ حقوقِ الأنسان ، ودوائرُها .
في ظلماتِ هذا العالم تبقى دوائرُ مخابراتِ تلك الدول تتحكمُ بعمل دوائرِ غيرِها من الدول التي لا تملك لنفسِها مقدارا من الفن والقوة والأبداع في عملها . ما يوازي هذه الحقيقة هناك كلامٌ آخرَ عن الواقع العراقي الذي بأمكان المؤسسات الأمنية للدول آنفةِ الذكر تغييره من واقعٍ دامٍ الى واقع ٍ مُستقرٍّ ، تزول منه كلُّ المظاهرِ التي صنعها الأرهابُ في حقبةِ ما بعد زوال مرحلةِ إرهابِ نظام صدام .، ولكنها لا تسعى للأستقرار ، بل يهمُها وتفرحُ بتأجيج الصراع ، وكلِّ حالاتِ التدمير ، تحقيقا للحلم الصهيوني الشامل .
أما القادمُ من هذه الدول – وبأيةِ صفةٍ مثلا - في زيارة رسمية الى العراق يستعرضُ في تصريحاتهِ أحيانا عَبرَ وسائلِ الأعلام العراقية فيشيدُ بدورِ المؤسساتِ الأمنيةِ وتصَدِّيها الناجح في محاربةِ الأرهاب .
(( هذا التصرفُ هو من أدبياتِ فكرِ وسلوكِ مؤسساتِ المخابراتِ لتكَ الدول لأبقاءِ تلك الدولة غافلة عن أخطائِها وغبائها كي تبقى فريسة ً للمخاطر ، وتبقى ممزقة . الحقيقة الأخرى التي في الصدور هو الأستهزاء والسخرية والأستحقار من الدولة ، مؤسساتٍ ومناصبٍ وعقول . ))
مما تقدَّمَ كان حلقة أضافية لحلقاتٍ تبعتها ، تبحث في غياب الدور الحقيقي ، والمنهج الصحيح لعمل مؤسسة المخابرات العراقية - الحلقة المفقودة - ، كنت قد نشرتها في مواقع محترمة لعلَ سطرا منها أو كلمة تجد طريقها الى قلوب وعقول مَن تصدوا للمسؤولية الكبرى وتحملوها من أجلِ دحرِ مواقع الشر في العراق .
الى هنا انتهينا من الخوضِ بغمارِ قطرةٍ واحدةٍ من محيط أوسع من كل مناحي الحياة ... إنه عالم المخابرات .
**