نفور العراقيين من وطنهم نحو المجهول ! -صلاح غني ألحصيني

Mon, 22 Aug 2011 الساعة : 1:29

عمرها يقارب السبعين ، استلمت اخر تقاعد لزوجها المتوفي قبل اكثر من عشرين عام وارزمته مع مبلغ كانت تحتفظ به لتجهيزها عند الممات ، اخذت جزء منه لشراء بعض الادوية المتعلقة بمرض السكر والضغط الذي كانت تعاني منه وذهبت بما تبقى صوب مكاتب الصيرفة لتحوله الى بضع دولارات ، تنقل خطواتها بثبات رغم كبر سنها بعد ان تركت عباءتها تكسح طبقات الاتربة الجاثمة فوق الاسفلت لتحوله الى غبار متطاير يسير خلفها مثل الظل ، الامر الذي دفعني بان استوقفها واسالها عن سر حركتها الغير معتادة عسى ان يكون الامر خيرآ ، فما كان منها الا ان تجيبني بمفردات يتداخل معها لهاث الكبر (( انني قررت السفر الى سوريا فقد تعبت من عيشة العراق .. اريد ان ارى وجه الله ))
لا غرابه في مشروع سفرها فهو امر قد اعتاد عليه العرافيين موخرآ ، الا ان الغريب ما دفعها الى السفر ( تعبت من عيشه العراق ) .. كيف لها ان تفكر هكذا بعد ان افنت كل سنين عمرها فوق هذه الارض بالسراء والضراء ، هل وصلت حد الجزع وتريد ان تتدارك ما فاتها من العمر؟ لم يخطر في ذهني شيء سوى كيف ان اغير فكرتها بالعزوف عن السفر تلافيآ لحدوث امر ما قد يضر بصحتها ، فمن الصعب ان تتحمل عنا السفر وقطع هذه المسافة الطويلة الى سوريا في هذا الجو الحار ، وخير ما املكه من قول قد ينفع لا قناعها ما تشهده سوريا من تظاهرات ومواجهات مسلحة تنتقل من مدينة الى اخرى ، قلت لها قد تعرضك هذه الاحداث الى متاعب انت في غنا عنها ، اجابت باستهزاء وهي تبرطم شفاهها ( الحمد لله والشكر هو هذا كلام عاقل ! ، مهما تكن الظروف هناك فهي ارحم من عيشتنا.. لا كهرباء لا ماي والحر كاتلنه ايخليك اشك اهدومك وتطلع عريان ) ، عندها ايقنت بان موضوع النقاش قد انتهى ولا جدوى من الاطالة في الكلام وانهيت حديثي معها : كم يوم سوف تبقين هناك ؟ ، اجابت باختصار ( عساني لا رجعت ) ودعتها وتمنيت لها سلامة الوصول واخذت انقل خطواتي من حيث اتيت الا ان كلماتها رغم بساطتها بقيت عالقة في ذهني لأمرين :
اولآ .. واقعيتها في الطرح لما يتعرض له الفرد العراقي من معاناة ، فما يمر به العراق شيء فريد من نوعه ومنقطع النظير من حياة البؤس والحرمان رغم انه بلد غني ويطفوا على جزيرة من النفط ويمتلك ثروات وموارد طبيعية ونعم من الله لا حصر لها ، وبنفس الوقت شعبه فقير جدآ .. جدآ يقع في اسفل قائمة المحتاجين والمصابين بمختلف الامراض في العالم وفقدانه لكثير من مقومات الحياة المدنية ونقص حاد في الخدمات خاصة الكهرباء التي اصبحت هم كل عراقي وعراقية صغارآ وكبارآ دون حساب الى وزارة الكهرباء وسرطان التوليد التجاري وخلق مجتمع منقسم بين الثراء وبين الفقر وانتظار المجهول ، هذا البلد الغني بعطائه التاريخي والمتصحر المتخلف بحاضره المشؤوم بسبب انظمته السياسية. هذا البلد الذي انتقل من مدارات اعلى الى الادنى خلال قرن كامل عكس حركة التاريخ والمنطق تمامآ ، حتى اصبح طاردا لأبنائه وللأخرين .
وثانيآ..عدم واقعيتي في الطرح بمنعها من السفر الى سوريا بسبب الاحداث القائمة هناك فهي لم توثر على مجريات الحياة رغم انه بلد معروف بموارده المحدودة ، ويشهد بالفعل حالة من الارباك السياسي والامني ، ومواقف دولية تحاول النيل من نظامه الحاكم ، وكثافة اعلامية تسلط الضوء على الصفحة السوداء فقط ، ومثل تلك الاحداث تودي بطبيعتها الى شلل في منظومة الحياة لكن الواقع هو نقيض ذألك تمامآ فالحدود مفتوحة امام التجارة الدولية وتمارس نشاطها الاقتصادي والسياحي بكل حيوية فهو يستقطب فقط من العراقيين الاف الوافدين يوميآ ، وتشير اخر احصائية للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين ان عدد العراقيين - المسجلين فقط - لديها في سوريا وصل الى ما لا يقل عن 140 الفآ .
حقيقة انها مفارقة تجعلنا ان نتأمل لما نحن فيه ، كيف لبلد مثل العراق تعلن حكومته يوميآ عن وجود استقرار في وضعه الامني ، بالإضافة لما لديه من معالم سياحة ودينية بكثرة ليس لها مثيل في العالم وقادره على استقطاب اجناس مختلفة من شعوب العالم ويمتلك موارد طبيعية وبشرية توهله للنهوض بواقع متطور في كافة المجالات والأصعدة ان يكون مصدر نفور لأبنائه وللأخرين وما من صغيرة وكبيرة الا واستوردها بملاين الدولارات ، وبلد مثل سوريا بحالته تلك يستقطب يوميآ الاف السواح من كافة دول العالم وصادراته الصناعية والزراعية تغطي اغلب بلدان المنطقة .
لو عكسنا المعادلة لما يحدث في سوريا ان يحدث في العراق فمن البديهي سوف تغلق الحدود وترتفع الاسعار وتشح المواد وتختفي الكهرباء وينقطع الماء .. وهذا يعني ان هناك خلال في تركيبة المعادلة العراقية التي تحتاج الى موازنه علمية وعملية تعتمد على نشاط الحكومة العراقية وتغير ذألك المفهوم بإيجاد حالة من الواقعية التي تحاكي العقل وترتبط بالواقع ، فلا يعقل ان تنحدر الاوضاع نحو الهاوية لتصل الى درجة نفور ابناء البلد من وطنهم نحو المجهول من اجل ساعة راحة بما فيهم من بقى من عمره ايام معدودة وان يكون اول لاجئ لدى دولة جنوب السودان صحفي من العراق ، علية لابد من الحكومة العراقية ان تعي جيدا بان الشعب هو المكون الاساسي وهو راس مال الحكومة ومن خلاله ولآجلة كتب الدستور وشرعت القوانين وصيغة القرارات حتى تصب بالنهاية لمصلحته ولراحته واستقراره وتحقيق شيء من الرفاهية في وطنه لا في الاوطان الاخرى .
اخيرآ عادت العجوز الى ارض الوطن مكرهه بعد ان نفذ ما لديها من مال تحمل معها اكتشاف علمي يتعلق بمرض الضغط والسكر على انه مرض موجود في العراق فقط واقسمت بالسيدة زينب بان طول مدة بقاءها في سوريا لم تتناول جرعة واحده من علاجها رغم ما تناولته من اغذيه تحتوي على نسبة عالية من السكريات والدهنيات ، تقول ما ان وصلت العراق حتى اخذت قرص لازكس وجرعتين من الخابط والصافي حتى هبط السكر الى 360 درجة ( دائرة مقفلة ) .. لابد الخروج منها فالشعب لا يريد ان يعيش في وطن ليس فيه حياة لان مستقبلة بحاجة الى وطن وليس بقايا وطن ..
 

Share |