عاش الملك ..مات الملك ..والملكيون أكثر من الملك /معتصم الصالح

Fri, 14 Mar 2014 الساعة : 1:46

بسم الله الرحمن الرحيم
أي غول هو الإنسان ...وأي طرافة وأي وحش ..وأي فوضوي وأي تناقض ..وأي فلتة !وأي حكم في كل شيء .. دودة الأرض الضعيفة , مستودع الحقيقة وبالوعة الشك والخطأ ..مجد الكون وعاره ...
باسكال
قد افهم مثلا سر تطلع الزعيم عبد الكريم قاسم وعصبة الضباط الأحرار للانقضاض على ملك عرش العراق وخلعه .. لكني لا افهم أبدا أن يقوم عامة من الناس بسحل نوري السعيد والوصي عبد الإله وصلبهم في إحدى شرفات المنازل !!..
في مشهد أخر, من هذه الصور الدراماتيكية السوداء يخرج علينا احدهم حاملا صورة رئيس دولته المخلوع ويضربها بالنعال أمام الكاميرات .. لكنه نسي أن ينتزع وردة من أعلى الصورة ..والتي على الأرجح كانت في تزين بهو داره ..
تغتصب نساء في قارعة الطريق في إحدى قرى دولة ما والمغتصبين يصرخون " الله اكبر "
يعتدون على رئيس دولة آخر بأبشع الأفعال ثم يصلون على جثته !! ربما بعد أن اشمئز العالم من فضاعة فعلهم !
صور كثيرة تمر في البال في محاولة لفهم سر الشخصية العربية عموما والشخصية العراقية تحديدا ..
صور التأرجح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وكان لا يوجد شيء اسمه محايد او مسالم أو مراقب ..الكل يريد شرف الاشتراك ..وأي اشتراك !!
سر التناقض في الشخصية وسلوكها وانفعالاتها فسره د.علي الوردي " بالازدواجية " إي إن يكون للشخص رد فعل ثنائي القطب لذات المؤثر, فيقبله مرة ومرة يرفضه .. كما عبر عنه في قوله ( في بيته حجي عليوي مع حبيبته دون ستوارت ) , (إمام الناس قديس وفي خلوته إبليس) .. لكن الدكتور الوردي اغفل أن يضع حدود هذه الازدواجية في إطارها العام ,
وهل هي ضمن الحدود الطبيعية المقبولة أم تجاوزها إلى حدود مرضية أو متطرفة في الشدة ..
في حين ذهب فرويد في عقيدته التحليلية إلى الحرمان أو الكبت حيث أن المجتمعات التي تكثر فيها لغة العيب والحرام والمحرمات ..تؤدي انفصال الجانب العاطفي عن الجانب الواقعي ..وحتى أن توفرت ظروف ملائمة للتعبير العاطفي لمؤثر ما يصعب إعادة لحم الجانب العاطفي مع الجانب الواقعي ..وتتجلى الانفعالات بأوضح صورها بدلا من التفاعل مع المؤثر سلبا أو إيجابا ..
قد تبدو الشخصية العربية والعراقية من ابسط الشخصيات ..لكنها في الواقع شخصية مركبة يصعب جدا التعامل معها او التنبؤ بردود أفعالها تجاه لون معين من المؤثرات ..
إن النفس البشرية ذات طبيعية سيكولوجية خالصة ولا تؤمن أبدا و تتعامل مع المنطق مطلقا إلا في حالات خاصة , تماما مثل الطفل الذي يقلب رأسه لرؤية صورة مقلوبة بدلا من محاولة تخيل وضعها الأصلي ..
يعاني اغلب الناس من الشعور بالنقص , وأيضا هناك شيء اسمه "عقدة النقص" ..الشعور بالنقص أمر طبيعي فمثلا فالطبيب مثلا يفوق المحامي في المعلومات الطبية وربما يتساوى معه في المعلومات السياسية لكن المحامي يفوق الطبيب بالقانون .فالشخص الذي يشعر بأنه اقل من خصمه ,يسعى لاكتساب معلومات أو مهارات اكبر فيما إذا ما كانت لديه .ومن جهة أخرى أذا شعر بأنه لا يستطيع عمل شيء يجعله مساويا لنده ,سيدرك نقصه ويصبح مسرورا نقصه راضيا لتقبل الحالة الناتجة ,أذا تبنى موقفا صحيحا .
أما عقدة النقص فتولد مظاهرا سلوكيا لا يمكن السيطرة عليها او حتى إدراكها بهذه الطريقة فالفرد يكون قلقا بهذا الشكل يمكن إن يتصرف كأنه ارفع من كل إنسان آخر أو يتصرف كفرد يبحث عن حب الناس ومدحهم وثنائهم وعطفهم او سيتصرف كما لو ان المجتمع دار ظهره له ويريد الانسحاب منه نهائيا .
أن كثير من الناس يعانون من نقص أو آخر في حياتهم .وقد يستطيع البعض التقليل من مظاهر هذا النقص في حياتهم . او الاعتراف بتقبل الحالة والتصالح مع النفس ..
في مجتمعنا يصبح مركب عقدة النقص أمر يصعب تعويضه ويأخذه شكله في التكوين الكلي الشخصية , وكأن كل عنصر من عناصر هذا التكوين يتوفر بصورة اقل مما ينبغي لبناء الشخصية الكاملة .
لو رجعنا بصورة سريعة والقينا نظرة على بعض الجوانب التربوية في مجتمعاتنا ..نجد مثلا ان الطفل الذي اسمه " عبد الكريم " أبواه وأهله قبل الغرباء يطلقون عليه لقب " أكرًيم " في أحسن الأحوال بل وصلت بنا الانفعالات في التعامل الى المغالاة في الحب والكره ولعل الكره او التصغير او التحقير يأخذ مدى أوسع من الحب .. مثلا يقال لأستاذ جامعي بسبب موقف معين بأنه ابن " الحفافة ..او ابن الخبازة .. دون النظر بموضوعية إلى سبب مقنع لسلوكه مع طلابه او الآخرين ..
حتى الشخصيات التي لا يمكن المساس بها ومنها القيادات والزعامات السياسية والدينية وذات المكانة الرفيعة , يلجا العامة عند بغضهم إلى إحاطة هالة حولهم من نسج خيالهم لتعويض النقص الحاصل في عدم القدرة على المساس بهم ..كم مرة سمعنا ان الرئيس الفلاني يسخر له فيلق من الجن .. وأخر له جنود وشرطة وتقنيات تجسس بكل مكان .. والزعيم الديني له كرامات لمحبيه , ولعنات ماحقة لمبغضيه ..
حتى إذا ما اتضح زيف هذا التصور او الخيال عاد هولاء الأفراد لمعاقبة ذاتهم أقصى عقوبة . لو لمعاقبة صور رمزية لتلك الشخصية تمزيق صوره أو سحل تماثيله أو حرق دور أو مباني تمثل رمزا لسلطته ..وحتى هتك الحرمات والإعراض ,في حوادث هي اليوم الأكثر تكررا ومشاهدة بواقعنا المعاصر .
.لذا نرى انه من أهم الجوانب من جوانب هذه الشخصية هي كون صاحبها لا يستطيع توفير القدر الكافي من الاستجابات الضرورية في مجال العاطفة والحركة والعلائق الاجتماعية , وبهذا يعاني من عجز دائم ومتجمع في التزاماته الحياتية ضمن حدود النطاق العائلي والاجتماعي ..
وهو لهذا السبب ولهذا العجز المتولد يجد نفسه مضطرا لاتخاذ مرتبة أدنى في التعامل مع الغير ويقبل لنفسه مرتبة أدنى ويقبل لنفسه الخنوع والخضوع .. وهكذا نجد ان أصحاب هذه الشخصيات من يتجه الى الانسياق الى خدمة الغير في مجالات الانحراف والابتذال ..لا لأنهم يميلون أليها بالضرورة .. أنما توفر لهم مستوى من رضا النفس عنهم المقبول لإمكانياتهم المحدودة ..فكما قلنا النفس البشرية كائن سيكولوجي بحت ,والنفس في هذه الأنماط من الشخصية لا ترحم .. لذا وجب تقبل طاعتها ورضاها عن أصحابها ولو بهذا الشكل الواطئ ..
اما كيف يتم رضا النفس عن أصحابها فهو بان يصبحوا ممن يطلق عليهم اسم الشخصية الثانوية او الهامشية inferior person .. وهي شخصيات لا تملك ألا أن تعيش في فلك غيرها من الشخصيات ممن يطلق عليها superior person ..
فأصحاب الشخصية من الشخصية الثانوية فاقدين القدرة على الابتكار والارتجال .. وعالة على غيرهم
ان مصطلح الــ inferior person لاينوه بمعاني خلقية بقدر ما ينوه بان صاحب هذه الشخصية له مكونات الشخصية اقل مما يتطلبه تقدير الذات , ومعظم الذين يعانون من هذا النمط من الشخصية يتقبلون لأنفسهم مكانا هامشيا في الحياة , وهو يعيشون عالة على الغير في موقع من التواكل والتطفل بدون إن يجدوا في ذلك عضاضة أو يحرك في نفوسهم رفضا . فتخدير النفس الهائجة بهذه الطريقة أكثر واقعية من سواها ..
إلى هذا الحد قد تبدو هذه الشخصية طبيعية نوعا ما , ومسالمة , لكنها في الوقت الراهن بدت أكثر الشخصيات عنفا وقسوة وتمردا . فإذا ما مات الملك وانكشف الغطاء عن ملك ورقي وان الشخصية العليا التي تدور في فلكها الشخصية الهامشية لا تستحق كل هذا الخنوع والخضوع .. ثارة ثائرة النفس لدى أصحاب الشخصية الهامشية , وكيف لهذا النمط من الشخوص أن يتصالح مع نفسه التي خدعها كثيرا وكيف له ان يرضي واقعه مسرورا قانعا .. فتظهر أهم معالم هذه الشخصية في الاضطراب السلوكي وعدم استجابة هذا السلوك إلى استعمال وسائل الشدة واللين ويتخذ هذا الاضطراب سلوك اتجاها مؤذيا ومعاديا للمجتمع والاندفاع الزائد والخارج عن السيطرة الإرادية ..قد ترتكب الجرائم والفظائع في مجتمعات هي كانت تعبد الله وهذه الجرائم من المحرمات في القوانين اللاهية المعروفة ..لكن هنا يتم خرقها وبسهولة , وبضمير مرتاح ربما !!.
قد تلعب وسائل الإعلام والظروف المحيطة دورا في توفير بيئة ثقافية انتقالية لهذه الشخصية توفر لها معلومات عن نقاط خلاف مع الشخصية العليا الورقية السابقة ..وتبدأ رحلة البحث عن قيم أخلاقية جديدة غير القيم الأخلاقية السابقة , منها قيم الطائفة والعشيرة والأعراف المحلية مثلا , وهنا قد يحالف الحظ أصحاب هذا الشخصية بان تتوحد مجددا مع شخصية عليا تدور في فلكها .فلا الوقت يسمح بتدارك النقص الحاصل ولا النفس الثائرة على أصحابها تغفر لهم كل هذا الهدر في الكرامة ..فلا حل سوى شخصية عليا ذات صفات أخلاقية جديدة تدور في لفلكها الشخصية الثانوية هذه ..وتعاد الدورة من الجديد ..وغالبا ما تكون الانتقال تقهقر أكثر منه تطور!!
ولتفسير حالة التنقل من حالة إلى أخرى أورد مثالين بسيطين لتوضيح الفكرة
المثال الأول : اخفق شاب رغب في تحقيق مكانة وخبرة دينية لها قيمة في نفسه .جاء الإخفاق بسبب الارتباك والاضطراب اللاشعوري الذي يسيطر على الشاب نتيجة إلى المقارنة بين أبيه وبين الله , أبيه الذي لم يحسن معاملته يوما ويعامله بصورة انتقائية واعتاد أن يتجاهل رغباته منذ الصغر ,فهذا العامل النفسي في حياته وهو صغير ولد عند هذا الشاب شعورا بالخذلان , وبان الله لا يستجيب إلى دعواته وانه غير مهتم به . يبدو الشاب مؤمنا لكن كثير من أفعاله لا تدل على ذلك . قد يستبدل الكثير من الشخصيات الثانوية رمز " الله" برمز الحاكم والرئيس والملك فيكون رفضا وتقاطعا معه ومن ثم تقاطع مع المجتمع ..
في مثال ثاني قصة لشابة أحبت شابا قريبا لها في مرحلة الدارسة الإعدادية وتمت الخطبة بينهم , على أمل الزواج بعد الجامعة .. ولما دخلت الفتاة الجامعة أحبت غيره , وكي تخدع نفسها بأنها إنسانة على قدر من التربية والأخلاق ساعدها علمها بأنه خطيبها الأول يدرس الدين والشريعة , حولت تفكيرها من عدم مصارحته برغبتها بالانفصال عنه إلى تزعزع إيمانها الديني ب " الله " , ولكي تدافع عن وجهة نظرها في ضعفها من مواجهة الأعراف والتقاليد , وحفظ ماء وجهها أخذت تصطنع الحجة تلو الحجة حتى بنت لها صرحا من الإلحاد والذي اخذ يخدعها هي نفسها ..فليس لملحد ان يتزوج بمؤمن ..
وبعد الإلحاد, جاء الانغماس بالملذات والمحرمات !!
ثم أعادة توجيه اللوم إلى الله والى المجتمع ممثلا بالحاكم هم الذين على ما يبدو هم من خذلوا الفتاة, ولم يخذلها قصور تفكيرها ..فليس لهذه الشخصية الشجاعة على مواجهة النفس ومصارحتها .
في هذين المثالين نجد إن أصحاب الشخصية الثانوية الهامشية لديهم القدرة على التنقل بين القواعد والأخلاق والقفز فوق الثوابت وخلق شخصيات عليا يؤمنوا بها ..ثم ما لبثوا أن يكفروا بها وبكل أخلاقها ..بعد أن يتبدل الهوى وشكل المحيط ..هذه الشخصيات تقلق الاستقرار ويكونوا مادة جيدة للاضطراب السلوكي للمجتمع .. وهم كثر جدا اليوم ..
وأخيرا اختم هذا الموضوع بهذه الأبيات من الشعر
(( كيف استطيع أن أفسر
كيف استطيع إن أفسر لكم
ستفهمون الأقل بعد تفسيرها
وكل ما ارجوا إفهامه لكم
هو الحوادث فقط... وليس الذي حدث
والناس الذين لم يحدث لهم شيء أبدا
لا يستطيعون فهم عدم أهمية الحادث ))
للشاعر ت س اليوت
من لقاء العائلة

عاش الملك ..مات الملك ..والملكيون أكثر من الملك 

Share |