جدتي تحتضر يومياً/عباس ساجت الغزي
Thu, 13 Mar 2014 الساعة : 1:22

منيت نفسي كثيراً برؤية صوراً مفرحة مع مرور الوقت الذي افنيت من عمري بانتظار الفرج بعد الشدة , لكن المشاهد المؤلمة التي ترافقها كلمات جدتي وهي تحتضر لا زالت تضج مضاجع اللحظات الجميلة التي اشعر بها لبرهة تأمل من الزمن احلم فيها بالغد المشرق .
اكره كلمة التشاؤم كثيراً , لكن كلما تصفحت اوجه التغيير في الزمن شعرت بالإحباط لكثرة فقدان الاشياء الجميلة في دوران المتغيرات عكس عقارب الساعة دائماً , ان لم ابالغ في القول ان اقطاب الارض قد تبادلت الادوار في بلادي , والشيء الوحيد الذي لم يتغير صوت جدتي الذي طالما تردد في مسامعي واشعر به يحاكي الحاضر .
في السبعينيات من القرن المنصرم , كنت حينها طفل صغير لكني افهم كل ما يدور من حولي بل واشعر بشدة بحرقة جدتي وهي تجمع المؤن الغذائية وتشد أزارها وتضع على راسها ( الزبيل ) وهو يشبه الوعاء كان يصنع من خوص النخيل ( وكان يستعمله الحمالون في الاسواق ومحطات القطار آنذاك ) , وتردد كلماتها وهي تنظر الى السماء ( ربي رد كل غريب لأهله ) .
كنت اشعر بمعاناتها الكبيرة وهي تقطع مئات الكيلومترات بوسائط النقل القديمة لزيارة والدي الذي كان يخدم الوطن في المناطق الشمالية الساخنة في ذاك الوقت , واذكر كيف تعود بعد ايام وهي تعبة وقد انهكها طول الطريق , لكن ما ان ترتاح ويجن عليها الليل حتى تستقبل القبلة وترفع يدها بالدعاء بعد ان تخرج خصلات شعرها الحمراء لكثرة استعمالها الحناء ( ربي رد كل غريب لأهله ) .
انتهى ذلك الفصل المؤلم في حياتنا الاسرية وعاد والدي لننعم بأحضانه الدافئة , لكن فرحتنا لم تدم طويلاً لنسمع الاهازيج ( احنه مشينه للحرب وعاش اليدافع من اجل محبوبته ) ليحمل والدي السلاح بغيرة العربي الاصيل حين يتعرض ماله وعرضه الى اعتداء , وهو يمسح على راس امي ويقبل راس جدتي بفخر ويقول " ناموا رغد شحده اليوصل يم حدنه ) , وعادت جدتي لتردد موالها القديم لكن خصلات شعرها لم تعد بتلك الكثرة التي رايتها اول مرة .
طالت السنين العجاف وفجعت جدتي بالكثير من الاقارب الذين قضوا نحبهم بحرب طاحنة اتت على كل شيء الحرث والنسل , وتزايد خوفها على والدي حتى جافت عيونها النوم لكثرة الخوف والترقب من سماع خبر مفجع , وباتت جدتي القوية طريحة الفراش وهي تحتضر , وامي تواسيها بترديد موالها القديم وهي تجلس قرب راسها , حتى وافاها الاجل بانتظار رؤية وجه والدي المشرق .
دارت الايام واخذت امي تمارس ذاك الدور لتتقنه شيء فشيء كما كانت تفعل جدتي , لكن هذه المرة ليس من اجل ابي بل من اجلي , فقد تسرح والدي والتحقت بالخدمة العسكرية لإكمال مسيرة الاولين , وانتهت حرب والدي لتبدأ معركتي التي كانت السبب في رحيل امي باكراً لأنها كانت تنزف عذوبة ومحنة , لم تكن لتحتمل كل تلك المواجع .
لا اخفيكم رغم كل المآسي كان الزمن جميل بكل ما فيه من القيم والمبادئ وحب الوطن والتضحية والايثار والكثير من الصفات الاخرى التي كانت تخفف الوطأة على الاباء والامهات والابناء , اما اليوم فالموت قريب الكل يدعوا للكل , والكل يدعوا وما اكثر المساجد ودور العبادة لكن ما من فرج يلوح بالأفق , اما انا طمأنينتي كلمات جدتي وهي تحتضر ( ربي رد كل غريب لأهله ) .
عباس ساجت الغزي