انه قطاف الصبر/طالب شريف ال طاهر
Tue, 11 Feb 2014 الساعة : 17:44

تماما مثلما كنت متزمتا بغيبياتي ، كنت واثقا متيقنا ، بان الظلام الحالك في بلدي ليس سوى ملاذ زائل تحتمي به إرادة السوء خشية انبلاج الق الفجر على اللصوص ، فكنت متفائلا بأن اليل لابد أن ينجلي ، ولابد للشمس أن تبعث شعاعها حتى مستقر لها ، وان التربة العطشى سترتوي من رائحة أبناءها من جديد ، لتخلع بذلك ثياب الحداد المهلهلة ، وتزدهي بثياب تستعير ألوانها من بهجة اللقاء .. وما أن حان ظني ، عَلَت زقزقت العصافير ، واخضرت الأرض وبزغت خيوط الشمس ذهبية لامعة على غير العادة ، وفاض إشراقها أكثر طربا وكأنه يردد ما استأنست به أرواح أطفال العراق من شجن ، وما تغنت به نفوسهم من هوى على أنغام ( موطني - موطني ) .
فبعد أن اجترعوا ما مضغوا من ظلم الدكتاتورية ، عقودا من مُّر الطغيان وجحيم التسلط ، تنفس العراقيون أخيرا من نسيم الحياة عليلها ، وذاقوا حلاوة حلمهم الوردي ، وامتصوا الرحيق من ألوانه الزاهرة ، فكان الربيع ربيعا حقا ، بطعم الجمال وسحر الحرية ووقع التحرر .. وانطلقوا من غدهم يغذون الخطى للّحاق بركب التقدم والبناء الذي تخطته أكثر الشعوب تخلفا ، وسبقتهم به أكثر المجتمعات فقرا .
وبالرغم من سعة التفاؤل ، كنت متحفظا في سري ، من غصة برزخ لا مفر منه ، متشائما من سحب ثقال قد تخيم ، ورياح عاتية من الحقد يشتد هبوبها على عالمي الندي من جديد ، زوابع شر تتخطف الأزهار في أكمامها ، وقد تأتي أعاصير التمزيق ، وتنزلق صواعق الترهيب المصحوبة بوعيد الرعد .. هكذا قرأت الأدوار اللاحقة لتغيير الواقع ، ولربما هذا ما غششتني به خبرتي المتخمة بصور الخوف والبؤس والتعاسة أيام السنوات العجاف ، وفصول الاستبداد التي تعاقبت على اهوار وجبال البلاد ، وصبّت في الحُكم جل مآسيها .
فما فتئ العراق يستقيم انحناءته من كبوة الدكتاتورية ، حتى زمجرت غراب الظلام نعيقها ، ونفثت صلال الغدر سمومها ، وانهمرت من كل حدب حمم الضغينة انهمارا .. فما أن يصد بيده الواهية جحافل الجهل والتخلف ، حتى تتراشق سهام الغل والكراهية بنيته التي لازالت متهالكة ، فتراه على شدة إعياءه ، ينش بعناد وصبر ذات اليمين وذات الشمال ، مغترفا من خزين تاريخه الثر ، الصلابة وشدة البأس وعزم المقدسات وغنى النفس وحيوية الإرادة .
فمن هذه القراءات كانت تعقد المخاوف , فمذ نفضنا غبار التعاسة أول لحظة ، والهجمات المنتظمة تكاد لا تمل وتزداد شهوة وشراهة إلى القتل ، ورائدها في ذلك بطبيعة الحال الرجوع بالإنسان العراقي إلى الوراء ، نعم تزداد لكن تهورا ، طالما يأتي ازدياد اندفاعها طرديا مع خيبة سعيها ، إذ لم تظفر بأية غاية من غاياتها العدائية ، لكن واقعا المواجهة لم تكسر شوك الإرهاب إلى الأبد ، نتيجة التعامل المنفعل مع القضية ، واعتماد ردة الفعل في التصدي ، بمعنى أكثر وضوحا ، لم يكن الرد ابتداءا ذي خطة ردع وتحدي تكشف عن عزيمة حضارية واثقة تحبط منهجية التحريض والعنف ، فلو تركز الرد على تذييل ثقافة التخلف بإرادة التطور والنظر إلى الغد وفق مسار إنمائي ثابت في العمران والبناء ، وتشييد المؤسسات العلمية والتربوية والمراكز الثقافية ، وإنشاء المعامل والمصانع ، وإفساح الطريق واسعا للفكر وإعطاءه الأولوية في الحضور ، على أولوية السياسة المدمرة ، لأسفرت الحرب عن نتائجها واتضحت معالم التغيير بملامح النصر .. ولو ارتفع النهوض بقدر القراءة الموضوعية للأي الطويل والتراجع المريع الذي سقط فيه العراق ، لما طمع الإرهاب بكبوة العراق ، ولما تفاءل زنادقته بطبيعة التنوع الثقافي الذي يحض فيهم نزعة التطرف ويحثهم على أن ينطوا برؤوسهم بين الفينة والفينة.
لكن السؤال الجدلي هنا ، هل نسمح لان تكون بنيتنا الثقافية وتركيبتنا الاجتماعية طعما للعاب الدول المجاورة إلى الأبد ، لا سيّما الطمع الطامح الى إفساد حلم العراقيين من أن يثبتوا للعالم إنهم شعب واع قادر على برهنة حضارته الإنسانية الأولى في التاريخ البشري .. والواقع الأمر ليس عصيا بالمرة ، لكنه بحاجة إلى يقظة تعي حقيقة أن لا فرصة تسنح لحلم آخر ، أو لقطاف ذي طعم بحلاوة التغيير .