إشكالية صناعة الدولة في العراق- ناصرعمران الموسوي

Sun, 14 Aug 2011 الساعة : 12:45

 مثل كل الموضوعات التي تثير إشكاليات معينه ويختلف فيها الفقهاء بحسب مشاربهم ,ظل تعريف الدولة واحد من المفاهيم التي تم تناولها كمرحلة حضارية نقلت التطور الإنساني من مرحلة الفوضى والمشاعة الزراعية إلى مرحلة التمدن , وهي في ابسط صورها عبارة عن مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لتنظيم معين , و يرى العميد (دكي ) إن اسم الدولة يطلق على كل تنظيم سياسي أيا كانت صورته , والدولة حسب نظره توجد حيثما تكون هناك تفرقة بين الحاكم والمحكوم , والخلاصة إن الدولة بمفهومها الكلياني والرؤى القدرية المتيقنة بين الفقهاء الدستوريين تعني المنظمة الاجتماعية والسياسية والقانونية ضمن إطار إقليمي محدد والتي تتحول إلى منظومة تنظيمية كبيرة سياسية يقوم فيها تقسيم العمل بين الحاكم والمحكوم بما يعرف بالسلطة وهي الظاهرة التي تترجم الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى واقع معاش ,ومن فاعلية وصياغة وبلورة عمل السلطة تظهر إشكالية العلاقة بين السلطة والدولة إيجاباً وسلبا ً , فيظهر في هرمية السلطة الملك والإمبراطور والرئيس والحاكم ومن خلال إدارة السلطة تبرز حالة الفرز بين رجل السلطة والحكم ورجل الدولة بالاستناد إلى إدارة وحكم المحكومين أو الشعب , إن صناعة الدولة أمر خرج من رحم ولادة تنظيمية اجتماعية تحمل طبائع وجينات مجتمعها , لكنها ليست بمنأى عن تطور التنظيم وحركته تاريخيا ً والعراق واحدة من الدولة التي يثير موضوع صناعة الدولة فيها الكثير من الرؤى والمفاهيم والتي على الرغم من اتساعها وتشتتها تتفق على ثنائياتها المتعارضة والمتفقة ,وذاتية فردها وبنيته السايكلوجية والاجتماعية ,والعراق بمفهومه الضارب في جذور التاريخ تحكمه ثنائية الحضارة والتمدن والكتابة والفن والقانون من جهة وثنائية الدم والقتل والسبي والألم والجريمة من جانب اخر ,كل المدن في العراق ذاقت حلاوة المملكة والدولة وكانت محط الأنظار ولبنة في تطور حركة التاريخ الضخمة بأفعالها وإحداثها وشخوصها تنوعت المدن بين أور والوركاء وبابل ونينوى والكوفة والانبار وبغداد والبصرة وساد تنوعها ألاثني والمذهبي والقومي حتى كأن الحقيقة التاريخية لا تغادر الكليانية في الإشارة إلى التنوع العراقي , بل إن الإرث التاريخي بكل ثنائياته أحداثا ً وشخوص وممالك وحكومات أضفى بناءً واضح المعالم على شخصنه المدينة العراقية والفرد العراقي , ربما يعتقد الكثيرون بان الاسترسال في الحديث عن الذات التاريخية العراقية هو نوع من التضخيم الذي زرعته مرحلة ما من مراحل التأليه العراقي للفرد والحاكم والمجتمع والتي تكون مندسة في أجندت فكرة حزب او جماعة او قومية , والحقيقة أن الأمر يبدو كذلك وتلك هي من علامات المفارقة الذهنية والتكوينية للحالة العراقية لكنها لا تذهب بكل ما تحمله الذاتية الفردية أو المكانية العراقية ,وإذا كان العراقي الأول هو أول من اوجد لمشاعره الصورة التعبيرية ليسوق بعدها البشرية ورائه حين سطر الحرف الأول ولهج لسانه بالشعر وحركت أنامله أنغام الأوتار فهجعت روحها الموزعة بثنائية الآلهة والبشر والمدنس والمقدس , وبالرغم من كل ذلك كانت شهيته مفتوحة للقتل والحرق والسبي والدمار ومن كل ذلك صنعت المدينة وجهها وصورتها فارتسمت في ذات الفرد ذات الصورة التي أغرقها الهجين والمتشابه , ليلتفت إلى ذلك باحثان اجتماعيان :هما (حنا بطاطو) و(علي الوردي ) اللذان اسميا الحالة العراقية بالتخلخل لدى بطاطو والتناشز لدى الوردي وهما بثنائية الفهم المنسجم بينهما كدلالات متقاربة في الرؤية ظاهرة انتقالية تقع خارج التشكيل الاجتماعي الجديد , إن هذه الظاهرة لما تزل تلقي بعواهنها المتعددة إخطبوطاً مرعبا يمسك بتلابيب الدولة التي تشكلت بإدارة هجينة أملتها ظروف معينة داخلية تمثلت بالهبة العشائرية المؤيدة بالغطاء الديني ضد المحتل الجديد للأرض العراقية بعد نهاية الرجل العثماني المريض وإسقاطات الحرب الكونية الثانية وما شهدته من تقسيم نفوذ استعماري جديد ووعود بريطانية أهمها مراسلات سياسية بين الشريف حسين كقائد للشعوب العربية ومكماهون , وعلى الرغم من كل ذلك لم تستقر أقدام العسكر البريطاني إلا بإدارة عراب السياسة البريطانية (البيرسي كوكس ) بعد أن فشلت سياسة الحاكم العسكري (ولسن ) في إدارة شؤون العراق ,والذي أعلن منذ توليه لمجابهة الثورة المسلحة نهاية الحكم العسكري والتنفيذ فعلياً بمشروع الحكومة العراقية المؤقتة كنسخة بريطانية ولعل أهم صعوبة واجهت البريطانيين هو اختيار شخصية رئيس الوزراء الذي آثرت أن يكون رجل معروف وكان اختيار عبد الرحمن النقيب نقيب أشراف بغداد ثم اختيار فيصل ملكا على العراق وهو احد أنجال الشريف حسين إيذانا ً بظهور العراق البريطاني كما يسميه (حسن العلوي ) ولم تكن مهمة الملك سهلة بل تمخضت في نهاية الأمر وفي ا لفترة الأخيرة من حكمه برسالة وزعها على المقربين منه تضمنت رؤيته لهذا البلد الذي خط اسمه فيه كأول ملك لدولة جديدة ظهرت للوجود في عام 1921 وقد تضمنت الرسالة ما يأتي :( في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد ,بل توجد كتلات بشرية خيالية ,خالية من أي فكرة وطنية ,متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية ,لا تجمع بينهم جامعة سما عون للسوء ,ميالون للفوضى ,مستعدون دائما لانقضاض على أية حكومة كانت ) إن النتيجة التي توصل إليها الملك فيصل وستقرئها حنا بطاطو ,هي نتيجة للطبيعة الصعبة التي تشكلت منها طبيعة الفرد العراقي ولذلك نرى رأيا ً آخر يتفق ويختلف مع الملك فيصل بالرغم من انه يسبق الملك بحقب زمنية حيث يقول الجاحظ في استقراءه لطبيعة العراقيين وسبب معارضتهم للسلطة والأمراء ( إن العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء أنهم أهل نظر وفطنة ثاقبة . ومع النظر والفطنة يكون ا لتنقيب والبحث ,ومع البحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء ...وما زال العراق موصوفا بقلة الطاعة والشقاق على أولي الرئاسة ) ولعل رسالة معاوية بن أبي سفيان إلى ابنه يزيد بخصوص أهل العراق أعدائه التقليديين واضح حيث أوصى ابنه يزيد بعد أن يرثه الحكم بأهل العراق (.. انهم لو ارادو كل يوم امير عليهم ففعل ... ان الامر يتضح جليا بحجم الهوة التي اوجدتها الطبيعة العراقية وامزجة الحكام ان هناك علامات فارقة في تاريخ العراق الدولة فبعد أن وطئت أقدام علي بن ابي طالب ارض العراق ومنح مصرها الكوفة الزعامة ونقل مقر الخلافة من المدينة إلى الكوفة كانت هناك مجموعة من العوامل التي أراد من خلالها علي بن ابي طالب بناء الدولة خارج ربقة السيطرة المكانية والعقائدية للمدينة المنورة وكأنما أراد ان يخلق من العراق دولة تؤمن بالعقيدة خارج إطار عقدة المكان والشخوص فولاة علي بن أبي طالب لم يكونوا من علية القوم بل كانوا من أبناء العامة وهي محاولته في بناء دولة ترسخ عنصر المساواة بين الجميع ونستطيع تلمس ذلك من أفعاله وأقواله فمقولته المشهورة التي تؤكد النظرة إلا نسانية بان الإنسان اخو الإنسان إذا لم يكن أخا ً له في الدين فهو نظير له في الخلق وسلوكه حين رأى مسيحيا يستجدي في أزقة الكوفة بعد أن بلغ من الكبر عتيا ً , فشق ذلك عليه وأمر ان يمنح له راتبا يحفظ له المعيشة والكرامة من بيت المال , وبيت المال الذي أغلق عطائه في وجه شقيقه عقيل بن ابي طالب ذات يوم حين جاءه طالبا ً في قصة لا تحتاج للسرد ان تلك السلوكيات المهمة للقائد والرئيس والخليفة هي نقطة التحول الكبيرة التي لم يحيطها الباحثون في السياسة بشكل كبير.
إن محاولات علي بن ابي طالب في بناء دولة الخلافة الإسلامية في العراق هي المحاولة المتجددة في صفحات تاريخ العراق , ولعل واقعة كربلاء هي امتداد تاريخي لرؤية علي بن ابي طالب في بناء الدولة بالرغم من عظم التضحية التي قدمها في مشروعه لبناء الدولة, ولا يمكن لأي باحث او قارئ يمر باشكالية بناء الدولة وصناعة المؤسسة التنظيمية بعمقها التاريخي دون ان يمر مرور الكرام على نضج تجربة المحاولة التي اراد من خلالها علي بن ابي طالب صناعة الدولة بل ان الجرأة المتحققة في نقل مكان الخلافة هيأت لظهور عواصم إسلامية جديدة أخذت استحقاقها تاريخيا من التجربة العراقية في الكوفة , ولعل ظهور بغداد كواحدة من أهم حواضر الدولة العربية الإسلامية كبناء وتنظيم وعوامل نشوء وإسقاطات رافقة تبوءها الزعامة الإسلامية وما شهدته حتى سقوطها على يد المغول في 656 للهجرة من انجازات وإخفاقات على كل الأصعدة لدليل واضح على عمق وإشكالية بناء الدولة على ارض العراق , أن رؤى الحاكم وامتدادات الرؤى المعارضة صنعت ما يسمى بأعراف الإلزام العراقية ومن اهمها مدارس الفقه الاسلامي ودور الاداب والعلوم واثرها في نجاعة القرار السياسي من جانب وعارضه له في الجانب الاخر, كذلك ظهرت على امتداد ظهور الدولة العراقية المعاصرة كانت العشيرة والطائفة والقومية محرك مهم جدا ً في صناعة الحدث ولو استغرق ذلك وقتا ً فبعد ظهور العراق البريطاني بحسب العلوي اتجهت مقاليد القرار السياسي بين الملك العربي القادم من الحجاز والعسكري القادم من مدارس الأستانة واسطنبول الذي لا يمكن فرزه عن حالة الصراع الفارسي العثماني على الأرض العراقية وهو الأمر الذي أدى إلى نشوء النزاع بين عبد المحسن السعد ون رئيس الوزراء آنذاك والمرجعية الدينية الشيعية حول الانتخابات والذي فرض فيه السعد ون النظام الانتخابي المحرم الاشتراك فيه من قبل الطائفة الشيعية آنذاك لتبزر واحدة من اهم إشكاليات بناء الدولة فقد رسخت في ذهنية العراقي الشيعي الشعور بالإقصاء والتهميش باعتباره ممثلا لصورة المعارضة وعلى ذلك سارت الدولة المملكة والجمهورية ...وهناك ظاهرة ساهمت في اشكالية صناعة الدولة الا وهي ظهور الزعامات العسكرتارية بالنتيجة فان العسكر وتحت وصاية الملك شهدت فترات حكمهم اضطرابات وانقلابات شهد العراق بعدها واحدة من أهم الظواهر التي وسمت تاريخه بالدم والقتل والدكتاتورية حيث ظهرت سيادة العسكرتارية على مقاليد الحكم وأشرت مجازر دموية مثل مجزرة قصر الرحاب التي اظهرت بالتزامن مع إعلان الجمهورية ونهاية الحكم الملكي , وبالرغم من ان الجمهورية الأولى شهدت انجازات كبيرة وكثيرة في عهد عبد الكريم قاسم الا ان التدخل الخارجي وبخاصة العربي كان على اشده وانتهى بانقلاب عسكري أطاح بالجمهورية ا في شباط من غام 1963 ومنذ ذلك التاريخ والعراق يرزح تحت سيطرة العسكر حيث جاءت الجمهورية الثانية والثالثة و الذي عرف نظام حكمها بالحكم العارفي حتى انقلاب 1968 وقيام الجمهورية الرابعة وبعدها الجمهورية الخامسة التي سيطر فيها صدام حسين بشكل واضح وجلي , بالرغم من ان صدام حسين لم يكن عسكريا إلا أن سنوات حكمه كانت الأتعس في تاريخ العراق حيث جر البلاد إلى الحروب والمجاعة والحصار وقبلها المقابر الجماعية والسجون والاغتيالات , ان جمهوريات العراق العسكرتارية باستثناء الجمهورية الأولى وسمت الدولة بطابع الحزب والفئة والمنطقة والعشيرة ثم العائلة وحتى العائلة شهدت الانقسام لتخرج منها المعارضة والقتل ,ويعتبر تاريخ 9/4/2003 علامة فارقة جديدة حملت ثنائية محاولة بناء الدولة بشكل جديد وبرؤى خارجية وضمن استراتيجية خاصة بعد قيام الولايات المتحدة وحلفائها بإسقاط النظام في بغداد وبإسقاطه انهارت البنى والمؤسسات المستندة إليه والتي كانت تعرف باسم الدولة ,ان تاريخ التغيير النيساني اسقط ورقة التوت عن مفهوم الدولة التي حاول صدام ونظام حزبه ترويجها على انها دولة قومية تنتهج خطوط وأجندات حزب تقدمي يؤمن بالديمقراطية كمنهج وسلوك في قيادة الدولة وقد ساهم استغلالهم البشع النفعي لمقدرات العراق وثرواته عن طريق دفع الرشا وشراء الذمم في تكوين رأي عام دولي جعل من الطاغية صدام في إحدى الاستفتاءات رجل سلام عالمي وهي المهزلة الكبرى آنذاك والتي يعرفها العراقيون ,الذين يذوقون كل يوم مرارة وسخط جوره وظلمه وجبروته . إن المرحلة الجديدة التي يعيشها العراق ورغم حداثتها واشكاليات مجرياتها الا انها غدت مناراً لظهور التغيير المهم في المنطقة الشرق أوسطية وبخاصة العربية وهي فاتحة لظهور الإستراتيجية الجديدة للمنطقة ,وما شهده العراق منذ التغيير لحد الان ستشهده الدول الأخرى , وان مرانه الديمقراطي الصعب بين التوق الشعبي لحياة جديدة ودولة مؤسساتية تحظى بدعم دولي وبين إسقاطات التجارب الكثيرة في تاريخ الدولة العراقية والتي تتمثل بالجانب الطائفي والقومي والاثني والعشائري ولمناطقي بما عرف تهذيبا ًبفن السياسة بالتوافقية السياسية ,وبالرغم من سلبياتها إلا أنها مرحلة لمعالجة الحالات التي تشكل العقبات الكؤودة في بناء الدولة ,ان الصناعة الحقيقية لبناء دولة المؤسسات لما تزل مليئة بالكثير من العقبات والمخاطر لكن الرهان الكبير في ظهورها على مقدار الوعي الكبير للمواطن العراقي الذي يملك الكثير من أدوات الضغط في تصحيح بناء الدولة والرهان على زوال الإشكاليات التاريخية والبنيوية في تأسيس الدولة العراقية وهذا لايتأتى من خلال النظريات والطرح والاحتقانات والتعنصر العصبي وإنما بالتأهيل الثقافي لهذه الإشكاليات ضمن مناخات الوطن الذي يتسع للجميع ويتلون بالجميع ليمنحهم هويته الحقيقية.

Share |