مقومات الزعامة العشائرية عند العرب(القسم الثاني)/عبد الهادي الطهمازي الربيعي

Sun, 2 Feb 2014 الساعة : 0:21

النمط الثاني في حياة العرب: الحياة المدنية، أو كما يعبر عنها بلسانهم (أهل المدر)، ويعنون بهم الساكنين في البيوت الطينية والحجرية، كسكنة القرى والمدن.
ولم تكن حياة هؤلاء العرب القاطنين في المدن والقرى على نمط واحد من جهة الزعامة أو القيادة للمجتمع، بل كانت عبارة عن نمطين من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأول منهما: كان المجتمع فيه أكثر تقدما، وتركوا لمن بعدهم من الأجيال حضارة تمتلث بالبناء والعمران، وبعض الصناعات البسيطة، إضافة الى أن هذه المجتمعات تمتعت بعلاقات مع بعض الدول المجاورة، كما هو الشأن في مملكة المناذرة في الحيرة، ومملكة الغساسنة في الشام، وممالك اليمن.
وكانت تلك المجتمعات كمجتمع الحيرة مثلا خليطا من العرب والقوميات المختلفة، وهذا النوع من الحياة المدنية عند العرب لا شأن لنا به، لأن ملوكهم كانوا يتصرفون من وحي موقعهم السياسي كملوك، لا كرؤساء قبائل، فموضوعنا لا يمت الى هؤلاء بصلة.
أما النمط الثاني من الحياة المدنية، فلم يكن يختلف كثيرا عن حياة البداوة، إلا من جهة الإقامة في أرض محددة، وفي سبل العيش ووسائل الكسب كما سيتضح، وكيفية إدارة القبيلة.
ومن أمثلة موضوعنا مجتمع مكة، فقد كانت قريش وكنانة عامة تسكن الجبال والشعاب المجاورة لبيت الله الحرام، وكان لقبيلة خزاعة اليمانية حجابة البيت الحرام وزعامة مكة، فجاء قصي بن كلاب أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله، فجمع قريشا وبعضا من كنانة، واستعان بأخواله من قضاعة (بني عذرة)، ودخل في حرب مع خزاعة لاستعادة زعامة مكة وحجابة البيت، واشتد القتال بين الفريقين، ولاحت علامات النصر لقصي وأتباعه، إلا أنه رغم ذلك رضي بجعل حكم بينه وبين خزاعة، فحكم القاضي بينهما أن قصيا أولى بالبيت، وأمر مكة من خزاعة.
وبالرغم من أن عناصر القوة تجمعت بين يديه، إلا أنه جنح للأسلوب السلمي في التعامل مع خزاعة، فلم يطردهم من المنطقة، بل تركهم يتجانسون في صفوف المجتمع المكي، فصار المجتمع المكي مكونا من قبيلة قريش، وخزاعة الأزدية، وبنو غنم من بني أسد، وبعض من سليم بن منصور، وكنانة، وبنو صوفة من تميم، وأخلاط من ثقيف وقبائل اليمن، إضافة الى الرقيق، وهم العبيد الذين كان يستخدمهم أثرياء مكة في العمل والخدمة، وكان هؤلاء العبيد بعضهم من أصل أفريقي سود البشرة، وبعضهم جيء به من العراق ومصر وبلاد الشام وأوربا.
وكان اعتماد المجتمع المكي على التجارة، لأن العرب الجاهليين كانوا يحجون الى بيت الله، وذلك يستلزم أقامة أسواق لهم، فكان سكان مكة يعملون في التجارة، ورحلتهم الى الشام واليمن مشهورة.
إن السياسية السلمية ومبدأ التحكيم في المنازعات الذي اتبعه قصي مع خزاعة، أصبحت سياسة شائعة عند قريش بعد ذلك، وبتعبير آخر وضع قصي لمن بعده، منهجا سياسيا يقوم على أساس التفاوض والحوار والتحكيم في أخذ الحق، بدلا من اعتماد أسلوب العنف والقوة والحرب. وصارت هذه السياسة تعرف عند العرب بالحكمة والحلم، وأضحى زعيم العشيرة الذي يتمتع بسعة الصدر والحكمة في التصرف أكثر مقبولية من غيره، فألتف جراء تلك السياسة التي اتبعها قصي ومن بعده أبناؤه الكثير من العرب حول قريش، وعقدت قريش تحالفات مختلفة مع شتى قبائل العرب.
ثم سار بنوه على هذا المنهج السلمي العقلائي حتى وصلت زعامة قريش الى أبي طالب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله، وأبو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فقد عرف أبو طالب بالحكمة والأناة في إدارة أمور مكة، ورسم سياستها، وحل الخصومات التي تقع بين أبناء قريش وغيرهم، وصارت هذه السياسة منهجا اتبعه الكثير من الزعماء العرب، فاعتلوا بسعة صدورهم، وحلمهم على المسيء، وحكمتهم في التصرف سدة الزعامة في قبائلهم كأكثم بن صيفي التميمي، الذي يعرف بحكيم العرب، فحينما سئل ممن تعلمت الحلم والحكمة والسيادة، فأجاب: ((من حليف الحلم والأدب، وسيد العجم والعرب، أبي طالب بن عبد المطلب)). (البحار: 35/134)
وحذا حذوه في ذلك الأحنف بن قيس السعدي التميمي، والذي تميز بالحكمة في التصرف، وسعة الصدر، والعفو عن المسيء، يقول هو نفسه يذِّكر قومه بني سعد بمواقفه تلك: ((أما بعد، فإنه لم يبق أحد من بني تميم، إلا وقد شقوا برأي سيدهم غيركم، وعصمكم الله برأيي حتى نلتم ما رجوتم، وأمنتم ما خفتم وأصبحتم منقطعين من أهل البلاء، لاحقين بأهل العافية)).
وبالحكمة ساد الاحنف تميما كلها، بل أصبح زعيما لقبائل مضر مدة أربعين سنة، قال الشاعر:
بحلم وعلم ساد في قومه الفتى***وكونك إياه عليك يسير.
وللحديث تتمة.

Share |