اغتيال الحقيقة .. والكشف عن المخبوء في تاريخ العراق المعاصر-إبراهيم سبتي

Sat, 13 Aug 2011 الساعة : 10:57

للتاريخ وجهان ، احدهما ظاهر مكشوف والآخر متواري ، وهو الخفي المثير بأسراره وغرائبه واللائذ خلف أقنعة لوجوه مثلت ادوارا لبلوغ المجد او للاستحواذ على المشاعر السيّالة للناس . هو الوجه المستور خلف سدود كادت ان تغير صفحة الحقيقة إذن . ومنذ ان وجدت الشعوب ، كانت الأقنعة الجاثمة على وجوه بعض الحكام تستميل رعاياها ببذخ الكلام المصفوف والمنمق والمزخرف كما هي ألوان الحيل والخدع والابتسامات الماكرة التي يجيدها من نال هوس السلطة وأعماه بريقها ، فلا احد يظل قريبا منه، ولا احد يظل عزيزا ، فرعيل الثورة يحرق نفسه بنفسه ويتدفأ هو وحده الحاكم المطلق بنيراهم جميعا يوم لا يريدهم أحياء فيغتاظ منهم ويوم لا يسمع كلامهم فيهتاج عليهم .. هو المطلق في كل شيء وهو الرائي لأيامه وحده دون نصير ينظر بأفق ضيق لا يرجى اتساعه .. في العراق المعاصر ثمة سطور متوارية عن العيون رغم ان البعض حاول الاقتراب منها لكنه قنع بالقليل المتيسر وظلت صفحات كثيرة مهمة في طي النسيان او بعيدة المنال لصعوبة الحصول عليها بالوثيقة او بالشهادة التاريخية والأمانة المفترضة . وكانت بحاجة مؤكدة الى التأمل مرة والتبصر مرات لكي تقدم للأجيال التي لم تعرف من تاريخ العراق الحديث سوى ما كتب من قبل المحسوبين على السلطة او على التاريخ نفسه ، فضاع لمعان الحقيقة وساد الفهم السطحي للمكشوف من الأحداث وضاع ما خفي منها في أدراج التعمد والغياب المقصود .. و ثمة مقاربات تاريخية معاشة لكنها لم توثق من تاريخ العراق المعاصر الممتد من اول يوم لثورة 14 تموز 1958 حتى زوال النظام البائد ، فهذا هو المفصل المثير المفقود في مذكرات وكتابات اكثر المؤرخين الذين لم يغوصوا كفاية في تلك الساعات الحالكة والخطيرة وخاصة أيام عبد السلام عارف المشوبة بالانحراف والتفرد وازدراء الآخرين وضياع الاهداف .. في كتابه ( اغتيال الحقيقة .. عبد السلام عارف وإشكالية الكتابة في تاريخه السياسي ) سبر الباحث طالب الحسن ، غور الوقائع والخطب والحوارات والتنافر والتناقض ، متناولا فترة حرجة بل قل من اخطر الفترات التي مر بها عراق ما بعد ثورة تموز 1958 ، وهي فترة التقلبات السياسية وعدم وضوح الرؤية وضياع الهدف المتوخى من الثورة ذاتها بفعل سطوة الأنا عند البعض من قادتها واعتقاده بأنه هو من خطط لها وحري بالتاريخ ان يذكره كفاتح ومحرر أوحد . وهكذا برزت ملامح الصراع الخفي بين الأقطاب سرعان ما أصبح ظاهرا بين القادة الجدد ، فكان البعض ينفث سمومه منذ اول ايام الثورة ، مستمدا شعوره الفوقي من علل نفسية وأمنيات بالانتصار على الأصدقاء قبل الأعداء ، فكان عبد السلام عارف اول من بدأ الحرب على المقربين منه معتقدا بأنه سيصنع التاريخ وستسجل الثورة باسمه كأنها ضيعة متنازع عليها . في تلك الحقبة كان العراق السياسي يتأرجح بين مكونات الجيش الذي قاد الثورة وأطاح بالملك وعائلته وأنهى حكمهم الى الأبد لينقسم العراقيون بعدها بين مؤيد لإنهاء سطوة الملك وملوكية العراق ، وبين معارض أبكاه مصير العائلة المقتولة عن بكرة أبيها . فحمل الجيش الثائر على قصر الرحاب لافتة التغيير كما ذكر في البيان رقم 1 الذي قرأه عبد السلام عارف عبر إذاعة بغداد ثم حاول مستقتلا ان ينسب كتابته لنفسه دون جدوى ( المؤلف ) . وصنعت تلك الفترة سجالا بين بعض المؤرخين الذين لم يستطيعوا نقل الحقيقة كاملة طيلة أربعة عقود ماضية ، خشية عدم رضا النظام السابق على ما يكتب للدور المعروف الذي لعبه الحزب المقبور في أحداث تلك الفترة العصيبة ، او لعدم حصولهم على الوثيقة المهمة والشهادة المصدقة ، او لتعاطف بعضهم وشغفهم وحبهم لرموز الثورة مما يبعدهم عن الموضوعية والأمانة التاريخية . الباحث طالب الحسن يتمعن في اخطر مرحلة من تاريخ العراق الحديث ، باحثا في العمق مقدما صفحات سرده بالدليل والوثيقة وشهادات الأحياء ومذكرات المجايلين للثورة والمشاركين فيها في كتابه ( اغتيال الحقيقة .. عبد السلام عارف وإشكالية الكتابة في تاريخه السياسي ) الذي جاء ردا على كتاب ( عراق بلا قيادة ) لمؤلفه عادل رؤوف الصادر عام 2002 . ويقول الباحث طالب الحسن في مقدمة كتابه ( في عام 2002م وقبل سقوط النظام البائد في العراق ، صدر للكاتب العراقي عادل رؤوف مؤلفه ( عراق بلا قبادة ) أعاد فيه دفاعه عن عبد السلام عارف ، الذي بدأه في كتاب سابق له بعنوان " العمل الإسلامي في العراق بين المرجعية والحزبية " ، وفي الكتابين وردت معلومات غير دقيقة ، ادهشت القّراء المعاصرين لحقبة الحكم العارفي من الذين شهدوا طريقة تعاطي عبد السلام عارف مع ادارة الحكم وعلاقته مع مواطنيه القائمة على خلفيات التميز العرقي والمذهبي والعشائري والمناطقي ) ص 6 ، وهو ما استفز مؤلف ( اغتيال الحقيقة ) وحمله على الاستجابة ص6 ، فجاء الرد عبر ستة فصول وملاحق و462 صفحة من القطع الكبير . تكمن أهمية الكتاب في سرد الوقائع بالتحليل والاستنتاج وإبداء الرأي والموضوعية في المتناول من المادة التاريخية التي تمتاز بحساسيتها وخطورتها ما يؤكد صعوبة دخول الميدان الوثائقي لفترة حرجة وهو ما درج عليه المؤلف بكتبه المتناولة لتاريخ العراق الحديث جميعا . ضم الكتاب ستة فصول في طبعته الثانية بعد ان كان عددها أربعة في الاولى ، مستعينا بالعلمية في منهج البحث بدلالاته المعرفية والأسلوبية اذ توفرت للباحث المقومات الفكرية ورسوخ الرأي وبعد البصيرة في دراسته لأحوال العراق السياسي في حقبة تعتبر نواة فعالة للتي تلتها وخاصة تلك الأربعة عقود اللاحقة من حكم البعث . تناول الباحث في الفصل الأول من كتابه خطب الرئيس عبد السلام عارف وهي خطب غير مدروسة ص26 ويبدو ان عارف كان شغوفا بالخطب رغم ان اغلبها دون هدف يذكر وكأنه اراد ان يكون بغير منافس إعلاميا ، مضيفا اليه خصلة لم يذكرها من درسوا تلك الحقبة وهي العناد والسلوك العنيف والتعالي وظاهرة ازدرائه لمرؤوسيه وعدم احترامه للأدنى منه موقعا وأحيانا يتعمد الاهانة والاحتقار للآخرين كما ورد في الكتاب. ان الباحث الحسن ، قد ركز على سلوكية عارف مع زملائه الضباط وغيرهم سواء بالتعالي او بالاعتداد برأيه وهو ما افقده الكثير من المقربين وانسلاخهم عنه . وفي الفصل الثاني عقد المؤلف مقارنة بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وهي ليست بالأمر الهين كما يقول المؤلف ص67ويؤكد بان الفرق يبقى شاسعا بينهما حيث شعبية قاسم تنمو وبعكس عارف الذي لم يتذكره احد ص332 . وفي الفصل الثالث الذي حمل عنوان عبد السلام عارف والشراهة في القتل وهو ما كان من امر الرغبة بالمبالغة والعصبية الشديدة وسيطرة الروح الثأرية وكان " السيد الرئيس " ضعيفا ومجاملا الى حد القرف مع الذين يشعر بخطورتهم عليه ص142. وحمل الفصل الرابع عنوان : الذاتية تفتك بالتقييم وهي ظهور النزعة الفردية إيذانا بالانحراف عن مسار الثورة والاستبداد الفردي فتفشى الصراع بين الأقطاب وعمت الفوضى اركان الحكم وضربت الأحقاد والضغائن رجاله . والفصل الخامس كان مدخلا لطائفية عبد السلام عارف وهي مؤشر خطير لم يتطرق اليه اغلب الكتاب وأكد عليها طالب الحسن عبر الوثيقة والشهادة وهو امر قد يفاجيء الكثيرين الذين لم يعرفوا او يسمعوا او يقرأوا ذلك الأمر من قبل . وحمل السادس عنوان طائفية عبد السلام عارف وثائق وحقائق . وينتهي الكتاب بخاتمة وستة عشر ملحقا مع صور ووثائق . ان تناول عبد السلام عارف تناولا موضوعيا محايدا ، يضيف الى الذاكرة العراقية أحداثا لم يجرؤ احد على تناولها رغم انها معاصرة ولم تبتعد كثيرا بعد . ولم يعد التاريخ في منأى عن كشف الخفايا والغموض ولم يعد منيعا للباحث الحذق ، بل سحبت الوثيقة الدامغة والشهادة الصادقة ، الأرضية التي كان يستند اليها غموض الحدث وباتت الوقائع تثير علامات التعجب والأسئلة والحيرة . ولا يمكن ان يضيع الحدث مهما ابتعد وطال زمن وقوعه ، ان وجد من يبحث عنه صادقا فيمسك به مكتشفا كما هو حال المنقب الأثري الذي يزيح التراب عن اللقى والآثار النفيسة بعد تاريخ طويل ، انها مهمة غاية في الدقة وخاصة ان تطلبت ازاحة الحجب والحواجز والموانع عن الوقيعة والحدث الذي ان نشر ، قد يغير كثيرا من المفاهيم والاعتقادات وخاصة في الإحداث العراقية المليئة بالتناقض والارتجالية وفقدان التخطيط السياسي والفكر المدروس . ان تناول الباحث طالب الحسن الجزء الأخطر في تاريخ العراق المعاصر من خلال كتبه الأربعة ( حكومة القرية ، اغتيال الحقيقة ، طه الجزراوي ، بطانة السلطان ) يؤكد مدى منهجيته في البحث والتدقيق وقدرته العلمية في اختيار الموضوعة المناسبة والتي اثرت فعلا على المناخ السائد وقتئذ وغيرت وجه العراق السياسي منذ ثورة 1958 . والباحث الموضوعي هو من يحمل التاريخ بأمانة ويلخص دروسه بموضوعية ولم يتحيز او يداري جهة على حساب اخرى ما يكسبه ثقة المتلقي المتلهف للاطلاع والاكتشاف وهو امر يثير الفضول منذ الوهلة الاولى لقراءة أية مادة تتعلق بتلك الحقبة كما في ( اغتيال الحقيقة) وهو جهد مكثف وكشف مهم لتاريخ أريد له ان يطمس وتضيع تفاصيله عبر الاسترسال المتلاحق في سرد الأحداث بطريقة لا تخلو من التشويق والإثارة .

اسم الكتاب : اغتيال الحقيقة .. عبد السلام عارف وإشكالية الكتابة في تاريخه السياسي .
اسم المؤلف : طالب الحسن
عدد الصفحات : 462 من الحجم الكبير
جهة النشر : دار اور للطباعة والنشر ، بيروت
السنة : 2010
الطبعة الثانية

Share |