فنّ آلكتابةُ و آلخطابَةُ – ألجزء ألثّاني ح11/عزيز الخزرجي
Tue, 31 Dec 2013 الساعة : 23:51

قال تعالى في كتابه ألمبين؛ [أدع إلى سبيل ربّكَ بآلحكمة و آلموعظة آلحسنة و جادلهم بآلتي هي أحسن, إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله و هو أعلم بآلمهتدين](1).
مسؤوليّة ألتبليغ في آلأسلام ..هي مسؤولية جميع ألمسلمين, بإعتبار ؛ [كُلّكُم راعٍ و كُلّكم مسؤولٌ عن رعيّتهِ](2), و بآلرّغم من أنّ أئمتنا(ع) أكّدوا على أسبقيّة ألتّبليغ بآلسّلوك و آلجّوارح و آلعمل ألصّالح لما لهُ من أثرٍ فعالٍ في حياة ألمجتمع كقول آلأمام زين آلعابدين(ع)[كونوا لنا دعاةً صامتين بغير ألسنتكم]؛ إلّا أنّ هذا آلأمر لا يعني إهمال آلدّعوة عن طريق ألخطابة و آلكلمة آلقيّمة, و إنّما غاية أئمتنا(ع) هو تحويل آلنّظريّة إلى مشروع عملٍ و إنتاج بين آلنّاس و عدم آلأكتفاء بآلبيانات و آلأصدارات و آلخطابة, لأنّ آلعقيدة و آلمفاهيم و آلقيم تفقد رونقها و فاعليتها بدون تطبيقها.
أهميّة آلخطابة تظهر بوضوح في سورة آلجّمعة, حيث قال تعالى: [يا أيّها آلّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم ألجّمعة فأسعوا إلى ذكر آلله ...](3), و معروفٌ أنّ صلاة ألجّمعة هي ركعتان فقط, بدل صلاة آلظهر آلّتي هي أربعُ ركعاتٍ, و من هنا نفهم أنّ آلخطابة بمثابة آلصّلاة و آلعبادة(4), و بما أنّ آلصّلاة تنهى عن آلفحشاء و آلمنكر؛ فأنّ آلخطابة تهدف لذلك أيضاً و أكثر عن طريق توجيه الناس بتوضيح معاني آلصلاة و آلعبادة بشكل عام لأعدادهم روحيّاً و نفسيّاً للعمل و آلأنتاج و آلبناء.
إنّ أهمّ موضوع يجب آلأنتباه لهُ في آلتبليغ آلأسلاميّ هو أنّه ليس مهنةً كما يتصوّرهُ آلبعض بل هي إنعكاس للمهن و آلأختصاصات و آلمواقف, فآلأئمة و آلمراجع ألصّالحون و آلمُفكرون ألحقيقيون من بعدهم لم يتّخذوا آلتبليغ كمهنةٍ و عملٍ و غايةٍ للأرتزاق!
و هكذا كان آلرّسول آلكريم محمد(ص) و جميع آلأنبياء و آلمُرسلين و آلأولياء من قبله؛ يُمارسون أعمالهم و تخصّصاتهم سواءاً في آلتّجارة أو الرّعي أو الزّراعة أو الخياطة أو الطب أو الأدارة و غيرها بجانب تبليغ رسالة آلسّماء .. و كان آلتبليغ يأتي بموازاة آلعمل و آلأنتاج, و للأسف ألشّديد نرى آلكثير من آلمعمّمين و آلخطباء آليوم قد أتّخذوا آلتبليغ مهنةً موسمية للشّهرة و لجمع الأموال من السّذج كما يفعل ألوهابيّون و آلسّلفيون ألفاشلون في آلحياة و معهم بآلمقابل بعض آلمرتبطين بالحوزات التقليدية في مدرسة أهل البيت(ع)!
من أهم قواعد ألتبليغ ألأسلاميّ ألنّاجح هي معرفة آلناس ألّذين نتحدث إليهم؛ معرفة مستوياتهم؛ أعمارهم؛ ميولهم؛ ثقافتهم؛ ظروفهم, فآلمنطق و آلأسلوب ألذي نستخدمهُ لتوعيتهم و هدايتهم يختلفُ من طبقةٍ لأخرى, فآلأسلوب آلمُستخدم لهداية إمرأة عجوزة يختلف عن آلأسلوب ألذي نستخدمهُ لهداية شابٍ في مُقتبل ألعمر, أو ذلك الذي يحمل شهادة جامعيّة!
إنّ آلخطاب أو آلكتاب ألّذي كان في زمنٍ مُعيّنٍ سبباً لهداية ألنّاس و تنوير آلطريق أمام آلأمّة؛ هو خطابٌ أو كتابٌ ناسبَ ذوقَ و مستوى آلنّاس في وقتهِ .. و نفس هذا آلخطاب أو آلكتاب قد يكون سبباً لأنحراف آلنّاس في زمن آخر, لأنّ آلطبيعية الأنسانية الفكريّة تتطور و تنموا و يزداد آلوعي و تختلف أساليب الحياة و آلأرتباط و العلاقات من زمن لآخر .
إنّه لأمرٌ عجيب أن يكون كتابٌ أو خطابٌ يهدي الناس بآلأمس و يكون سبباً لأنحرافهم أليوم!؟
نعم إنّ آلخطاب آلألهيّ و أقوال آلمعصومين(ع)هي وحدها آلتي بقيتْ خالدة و ستبقى للأبد, لأنّها من آلله تعالى, و أيّ خطاب آخر عداها و في أحسن آلأحوال .. ليست لها رسالة خالدة سوى هدفٌ و مضامينٌ محدودة لزمانٍ و مكان معيّنين, و بمجرد إنقضاءه و مرور بعض آلزّمن عليه؛ تنقضي أثاره, و هذه مسألةٌ إجتماعيّة هامّة .. ترتبط بتفكيرِ ألنّاس و تطور ألفكر ألأنسانيّ و وسائل الأتصال و التقدم التكنولوجي و عدد آلسّكان و آلعلاقات آلدّولية و غيرها.
إنّ مسائل آلهداية في كلّ زمنٍ يختصّ بزمانه و نحن هنا نريد آلتأكيد على موضوع الخطابة حصراً و نظريّة الأسلام حولها, و كما أشرنا لآية "ألدّعوة" في بداية الموضوع بقوله تعالى: [ إدعُ إلى سبيل ربك بآلحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بآلتي هي أحسن, إن ربك أعلم بمن ضلّ عن سبيله و هو أعلم بآلمهتدين].
تفسير هذه الآية يتركّز في ثلاث محاور هامّة:
ألأول: إسلوب ألحكمة.
ألثّاني: عرض ألبراهين.
ألثّالث: ألإثبات ألعقليّ.
فلو تجسّدتْ هذه ألمبادئ ألثلاثة في عمليّة آلخطابة نكونُ قد حققّنا بشكلٍ كاملٍ هدفنا في آلخطابة.
[ألحكمة و آلموعظة آلحسنة ...]؛ تعني إنتخاب و معرفة ألزّمكاني ألمناسب و آلنّاس آلمُعيّنين؛ و تتطلب معرفة ألمسائل و آلأساليب آلعلميّة و آلمنهجيّة ألرّصينة, و إستخدام أللغة آلواضحة ألمُترابطة و آلبيان آلجيّد و آلعبارات ألمحكمة و آلأستدلال على ذلك بآلقصص و آلعبر و آلأحداث آلتأريخيّة لأيصال ألرّسالة المطلوبة لتلامس ألقلوب ألّتي فتحتْ أبوابها أمامَ آلخطيب, و يجب ملاحظة مستوى آلنّاس و قدراتهم على هضم ألمسائل ألعلميّة, فآلكثير قد لا يُمكنهم إستساخة آلنّظريات و آلأفكار ألعلميّة, بل طرحها قد تؤديّ إلى إنحرافه, و لذلك فإلأسلوب ألقصصي آلمُلامس لحواس آلأنسان يكون عادةً ما مؤثراً أكثر, لأنّ طبيعة ألنّاس مجبولة على حبّهم للوقائع و آلحوادث و آلقصص ألمفيدة خصوصاً تلك التي ترتبط بأصل عقائدهم و متبنياتهم الفكريّة الأصوليّة, حيث يكون وقعها كبيراً على آلقلوب, فأكثر ألنّاس يعيشون مرحلة القلوب و آلأحاسيس آلتي تتناغم مع آلحواس, و ليس مرحلة الفكر و العقل و آلبرهان و التي عادة ما تعتبر مرحلة متقدمة و تخصّ المفكريين و الفلاسفة و الأكاديميون.
[و جادلهم بآلّتي هي أحسن ...]؛ لو واجهتَ إنساناً ليس هدفه كشف ألحقيقة و لا يُريد فهم أسرار ألحياة, بل جاء للمجادلة و آللغو و سرد آلأشكالات بسبب عقدٍ و مخلّفات عقليّة و تربويّة .. بحيث يكْمنُ لكُلّ صغيرةٍ و كبيرة, فلو سمع كلمةً أو حديثاً فأنّهُ يتّخذها دليلاً للمحاججة و آلمجادلة من دون تأملٍ لما قبلها و لما بعدها و لغاية ألمطلوب من أصل آلحديث؛ فما هو آلمطلوب في مقابل أمثال هؤلاء؟
ألموقف ألمطلوب و كما أشرنا سابقاً؛ هو عدم آلتّصادم مع مثل هؤلاء, و لو لم يبق مجالاً للحفاظ على سلامة آلأجواء و حفظ آلمحيط؛ فهنا يجب مواجهتهُ بمهنية عالية و بآلمثل و آلجّدال بآلّتي هي أحسن, فلا يجوز آلخروج عن طريق ألحقيقة و آلآداب و آلأخلاق, و يجب أنصاف آلمقابل, و إحياء آلحقّ و عدم آلكذب, و لو أنّ هذا يكلّفكَ الكثير من تدمير ألأعصاب و لكن لا محيص للخطيب الهادف و المفكر آلمبدع إلّا إتباع ذلك لنشر آلحقّ!
إنّ آلآية آلكريمة آلّتي ذكرناها آنفاً, تُؤكّد على تنوّع إساليب آلهداية و فنون آلدّعوة و عدم آلأقتصار على نهجٍ واحدٍ و إسلوبٍ مُحدّدٍ.
و يُمكننا أنْ نتعلّم دروساً كبيرةً من إختلاف أساليب و معجزات آلأنبياء في آلتّبليغ, فآلرّواية آلمعروفة عن "إبن السّكيت" و هو ينقل عن آلأمام آلهادي(ع) فيها درسٌ بليغٌ, فقد عاش في زمن آلمتوكل ألعباسيّ ألذي قتلهُ لأنّهُ كانَ من آلشّيعة ألموالين لأهل ألبيت(ع).
تقول ألرّوايات إنّ سببَ قتلهِ كان لموقفه آلبطولي ألتأريخيّ لنصرة أهل البيت(ع), حيث كان معلماً "للمعتز" و "آلمؤيد" إبنا ألمتوكل ألعباسي, و كان آلمتوكل يعرف بأنّ إبن آلسّكيت يُحبُّ آلعلويين, فصادفَ أنْ كانَ إبن آلسّكيت(رض) جالساً مع آلمُتوكل و أقبل عليهما إبنا آلمتوكل, و حينها إلتفتَ آلمُتوكل بآلله إلى إبن آلسّكيت و سألهُ:
[هل إبناي هذين أفضل, أم إبنا عليّ "الحسن" و "آلحسين"]!؟
و عندما حاولَ آلأفلات من آلجواب .. إلّا أنّ آلمُتوكل حاصرهُ و لم يدعهُ حتّى يسمع آلجواب, عندها أعلن إين آلسّكيت رأيهُ بصراحةٍ قائلاً:
[إنّ (قنبر) غلام عليّ بنظري أفضل من إبناك و أبوهما], عندها أمرَ آلمُتوكل غلمانهُ و حرّاسهُ آلأتراك ألممسوخين بإخراج لسانه من خلف رقبتهِ, و هكذا فعلوا بهذا آلعالم ألمجاهد ألّذي لم يتوانى على قولِ ألحقِّ أمامَ سلطانٍ جائرٍ ظالمٍ, ليستشهد في سبيل رفع كلمة آلله و آلموقف آلعادل ليتخلّد في التأريخ إلى آلأبد.
لقد سأل هذا آلعالم ألشّهيد من آلأمام ألهاديّ(ع): [يا إبن رسول الله؛ لماذا كانت معجزة موسى(ع) تنحصر في عصاه آلتي إنقلبتْ إلى أفعى و آليد آلبيضاء و غيرها لهداية آلنّاس, و كانت معجزة عيسى(ع) شيئاً آخر و هي شفاء آلمرضى و آلعاهات ألدائمة كآلأعمى و آلأبرص و آلأبكم و إحياء آلموتى و غيرها, و أمّأ رسولنا آلكريم محمد(ص) فأنّ معجزتهُ كانت تختلف عنهم, و أنحصر بآلبيان و آلكلام و آلقرآن ألمجيد]!؟
أجاب آلأمام الهادي(ع): [ذلك كانَ لأختلافِ آلعصورِ و آلأزمنةِ, ففي زمن موسى(ع) كانَ آلمُسيطر على آلأفكار و آلعُقول و آلعيون هو آلسِّحر و آلشّعوذة و ما يتعلق بذلك, فكانتْ مُعجزة موسى شيئاً شبيهاً بما كانوا يفعلون, أمّا في زمن عيسى(ع), فكان آلطب و آلأطباء هو آلمُنتشر و كانوا مُتبحرين في علوم آلطب و آلعمليات ألجراحيّة, و كان آلطب هو آلمعيار لقياس قيمة ألنّاس في آلمجتمع فكانت معجزتهِ(ع) على أساس ذلك, أمّا زمن رسولنا آلكريم(ص) فقد إشتهر بآلبلاغة و آلشّعر و آلأدب و آلكلام, و كانَ الناس يُقيّمونَ آلأنسانَ على أساسِ هذا آلمعيار, و لذا جاءتْ ألرّسالة آلأسلاميّة في لباس آلفصاحة و آلبلاغة و آلمعنى معاً لتكون معجزة خالدة إلى يوم الدِّين]!
عندها قال إبن السّكيت(رض):
[ألآن فهمتُ آلعلّة].
كما قال آلرّسول(ص): [إنّا معاشر آلأنبياء نُكلّم آلنّاس على قدر عقولهم](5).
و قال آلأمام عليّ(ع): [لا تُكرهوا(تُجبروا) أولادكم على أخلاقكم فأنّهم خُلقوا لزمانٍ غير زمانكم](6).
و قال آلأمام ألخميني(رض) بعد إنتصار في ذكرى إنتصار ألثّورة: [إنّ آلجيل ألحقيقي ألذي سيبني دولة آلأمام(عج) سيولد بعدكم فهو لم يزل في آلأصلاب, و سيتحمّل أعباء النهضة الأسلامية العالمية, و أملي كبير ليمهدوا للدولة المهدوية العالمية أن شاء الله](7).
كما إن آلفيلسوف الكبير محمد باقر آلصّدر(قدس), كثيراً ما كان يوصي العلماء و طلبة الحوزة بضرورة استيعاب الشباب ومخاطبتهم بما يُناسب عقولهم وزمانهم، و يندد بأولئك الذين يتكلمون مع الناس و كأنهم يتكلمون مع آبائهم أو مع الموتى ـ على حدّ تعبيره ـ حيث قال بآلنّص: (لا بُدّ انْ نتحرّر من النزعة الاستصحابيّة؛ نزعة التمسك بما كان حرفياً، نحن نتعامل مع عالم اليوم لا مع عصر المماليك .. إننا لم نتعامل مع الناس كما كان مطلوباً، و انما تعاملنا مع اجدادهم، انهم يشعرون اننا نتعامل مع الموتى لا مع الأحياء ..)(8).
هكذا كانَ آلأنبياء و آلأوصياء و آلمفكرون يهتمون بتوعية و تثقيف ألشّباب و آلتنظير للأجيال أللاحقة من أجلِ إحيائهم و تعبئتهم لحملِ راية ألثّورة و آلتغيير و آلبناء لتحقيق ألعدالة و آلسّعادة, و لا حول و لا قوّة إلّا بآلله ألعليّ ألعظيم.
عزيز الخزرجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل / 125.
(2) ألجامع آلصغير؛ص95.
(3) سورة الجمعة /
(4)جاء في الحديث: [إنما جُعلت آلجمعة ركعتين لمكان آلخطبتين]. و في حديث آخر: [إنّما جُعلتْ آلخطبة يوم آلجمعة, لأنّ آلجّمعة شهدُ عامّ], و كذلك؛ [إنّما جُعلتْ خطبتين ليكون واحدةً للثّناء على الله و آلتّمجيد و التقديس له عزّ وجل, و آلأخرى للحوائج و لأمور آلدّنيا و آلأعذار و آلأنذار و آلدّعاء لما يُريد أن يُعلّمهم من أمره و نهيه و ما فيه آلصّلاح و آلفساد], أيّ الأولى؛ للدعاء و الثناء و الحمد, و الثانية؛ لحوائج الناس و آلأرشاد و الموعظة للبناء و الأنتاج و العمل آلصالح.
(5) ألكليني, (أبو إسحاق1981م). أصول الكافي, دار آلتعارف للمطبوعات - بيروت, الجزء الأول, ص23, ط1.
(6) نهج ألبلاغة للأمام علي بين أبي طالب.
(7) خطاب آلأمام ألخميني(قدس) في (22بهمن) ذكرى إنتصار الثورة الأسلامية المباركة في إيران عام 1980م.
(8) كراس المحنة/ السيد الشهيد الصدر (رض)/ ص 81 ـ 83.