بين آلمفكّر و آلصّحفيّ – ألحلقة آلرّابعة/عزيز الخزرجي
Fri, 20 Dec 2013 الساعة : 11:18

ألفرق بين آلمفكّرين و أصحاب ألرّسالات ألسّماوية؛
في آلحلقة ألسّابقة حدّدنا رسالة ألمفكّر بكونهِ يسعى لبيان و نشر ألعدالة بين آلنّاس, بإعتبار تطبيق ألعدالة تُسبّب ألأمن و آلرّفاهية و آلأعتدال و آلسّعادة في كلّ ألمُجتمع, إنّما رسالتهم هي إمتداد لرسالات آلسّماء آلذي منّ علينا بآلرّسل و آلبيانات آلواضحة!
و من آلمعلوم أنّ آلله تعالى قد أرسلَ إلينا 124000 ألف نبيّ و مُرسل و معهم ألأوصياء و آلحواريون, و أنقطع عنّا خبر آلسّماء بعد نبيّنا الكريم محمد(ص) و آلأئمة المعصومين(ع), و لم يبق من يُمثّلهم سوى وليّ ألفقيه ألمتصديّ لأمر ألمسلمين و آلمؤيّد من قبل آئمة ألهدى ألّذين بيّنوا لنا مواصفاتهُ و خصوصيّاته(1) بآلنصّ ألواضح, يتبعهُ ويدعمهُ ألمُفكّرون و آلفلاسفة و من تبعهم من آلصّحفيين و آلمُثقفين لتحقيق ألعدالة ألمفقودة في آلأرض.
و بما أنّ عمليّة آلتّغيير لتطبيق ألعدالة ترتبط آليوم – و كما أشرنا سابقاً – بمسألة طبيعة ألنّظام ألسّياسي – ألأجتماعيّ – ألحاكم كوسيلة إجرائيّة .. لما يطرحه آلمفكرون ألأنسانيون ألذين يُمثلون أذرع ألولاية, كان لا بُدّ من بيان آلفرق بين آلفلاسفة آلمفكّريين و من يتبعهم من آلمُثقفين و آلكُتّاب و بين آلأنبياء و آلأوصياء أو مَنْ ينوبَ عنهم في واقعنا آليوم, لنقف على مسألة في غاية ألأهميّة تفتحُ أمامنا آفاقاً فكريّة كبيرة, و بآلتّالي تجعلنا ننظر إلى آخر آلمدى من خلال آلخلق و آلوجود و سير حركة الأنسان نحو آلأهداف ألّتي وجد من أجلها في آلأساس!
إنّ عدم آلتّدقيق في هذا آلأمر .. و آلتّركيز , بل و آلسّعي لإيجاد موقعنا في هذه ألعمليّة – ألتّغييرية ألّتي ترتبط بمصير ألأنسان – ألأنسانيّة – فأنّ آلظلم و آلفوضى و آلطبقية ستستمر و تتوسع و لا من أمل في المدى المنظور لتحقيق ألسّعادة آلتي هي نتاج ألعدالة.
و قبل آلدّخول في آلتّفاصيل – ألفرق بين المفكّرين و آلأنبياء - لا بُدّ لنا من معرفة نقاطٍ هامّة كمقدمة لأستعياب هذا آلموضوع ألحسّاس بوعيّ منفتح و بشكلٍ دقيق, و هي:
(رسالة ألأنبياء) كانت تُركّز بآلدّرجة ألأولى على مسألة ألتّوحيد, و وجود الله تعالى ألذي بيده آلأمر كلّه.
جاهد آلأنبياء لتعبيد آلنّاس على وجوب ألأيمان بالله تعالى كخالقٍ للكون, يُريد آلخير و آلصّلاح للبشريّة.
و آلأهمّ من كلّ ذلك هو أنّ آلأنبياء(ع) خاطبوا قلوب آلنّاس بآلدّرجة ألأولى ثم عقولهم من خلال آلتسامح و آلعفو و آلأيثار.
أمّا آلفلاسفة و آلمُفكّرون و معهم ألفقهاء فإنّهم خاطبوا عقولِ ألنّاس على آلأكثر ثمّ قلوبهم أحياناً بآلدّرجة الثانية!
و لكلّ فريقٍ أسبابٌ و عللٌ و مؤثّرات في تحديد خطابهم لعقل ألأنسان أو لقلبه أو آلأثنان معاً كما في حالة ألأنبياء, و آلفقهاء يأتون بآلمرتبة ألثانية بعد آلمُفكريين – إلّا إستثناآت منهم – يُمكن إعتبارهم مفكّريين مُجدّدين, و قد فصّلنا طبقاتهم في آلحلقة ألسّابقة!
و لعلّ آلسّبب ألأساسيّ في فشل أطروحة ألمرجعية ألتقليدية في العراق و غيرها على مدى آلقرون هو هذا آلأمر لا غيره, حين خاطبوا عقول ألنّاس فقط دون قلوبهم عن طريق بعض ألأحكام ألعباديّة ألجّافة في (آلعبادات و آلمعاملات), و أهملوا جهلاً أو تجاهلاً ضمير الأنسان و قلبهُ و إنسانيته و تطلعاته, لذلك بقتْ آلأمة في وادٍ و هم في وادٍ آخر .. بل تاهوا أخيراً وسط آلفوضى و التيارات و الأحزاب و القوانين العشائرية ألجاهلية و آلرّايات ألمختفة بعيداً كلّ البعد عن هذا آلأصل ألأهم في وجود و حركة ألأنسان و عبادة الله حقّ عبادته.
بآلأضافة لما أشرنا فإنّ آلمشكلة ألكُبرى ألأخرى ألّتي تُواجه ألمُفكريين و آلفقهاء ألتّقليديين أليوم هي مسألة تأويل ألنّصوص ألقرآنيّة و ما ورد عن ألرّسول(ص), و كذلك روايات ألمعصومين و آلّتي طالها آلدّس و آلجّعل و آلتّحوير و آلتّزوير بجانب ألتأويلات ألمختلفة, بحيث عقّدَتْ مسألة فهم ألدِّين و معرفة روحهُ و غايته و فلسفته آلنهائية .. ليس لدى آلنّاس فقط بلْ حتّى عند آلفقهاء ألتقليديون أنفسهم .. في مقابل وضوحها أمام آلمفكرّيين ألمُجدّدين ألذين لم يكتفوا بحدود ألنّظرية فقط بل إمتد لتطبيقه عملياً, و لعلّ هذا كلّهُ يعود إلى آلآليات و آلمنهج ألتّقليدي ألّذي لم يَعُد يُناسب روح آلعصر و تطلعات ألأنسان, و آلقضية كلّها تعود إلى مسألة تداخل ألأرادات ألثّلاث في آلكون وهي؛
[الله ؛ ألأنسان؛ ألشّيطان], و كلّما إقتربَ آلأنسان – ألنّاس – من أحدّ ألطرفين(الله , ألشّيطان)؛ مالت ألكفة لتلك آلجّهة, فلو مال آلأنسان نحو الله تعالى لسبّبَ ضعف قوى آلشّر و انهاكهُ, و بآلعكس لو إقترب آلأنسان – ألنّاس – من آلشّيطان لسبّب ضعف قوى ألخير و تشتته بل و إحلال ألظلم و آلأستغلال محلّه و هكذا يتحقّق ألتّناسب عكسيّاً بين آلجهتين, و تبقى حركة ألأنسان في هذا آلوسط هي آلسّبب في رجحان كفّة على آلأخرى!
هذه ألمُعادلة تبدو واقعيّة إلى أبعد ألحدود, خصوصاً للّذين درسوا آلتأريخ بوعيّ, و يُمكننا وصف آلأنسان ألمُعاصر – ألنّاس – إلى أنّهُ أقرب لكفة ألشّيطان منهُ إلى آلله تعالى, بآلطبع نقصد أكثريّة ألنّاس و بنسبٍ مُختلفةٍ من منطقة لأخرى و من شعبٍ لآخر و من فقيه لفقيه, و معيار هذا آلتّناسب يُمكن قياسهُ من خلال مدى آلعدالة و آلأمن و آلتّسامح ألسّائد بين أبناء ألمُجتمع أو آلشّعبٍ ألواحد, من خلال عدّة مداليل منها: نسبة ألأعمار؛ ألحالة الاقتصاديّة؛ ألحالة الأجتماعيّة؛ ألحالة ألعلميّة؛ آنسجام ألنّاس؛ ألأمن؛ ألتّسامح و آلمحبة, و غيرها من آلمؤشرات آلتي جميعها ترجع إلى مسألة ألفكر ألسائد.
من هنا جاء إهتمامنا آلأوّل بموضوع ألفكر ألأنساني - ألأنساني و دوره في عمليّة إنضاج ألمعرفة كَكُل كسفينة نجاة, هذا بعد ما أمسينا أمام مُعضلاتٍ قاهرة بدأتْ تندر بمستقبلٍ غير سعيد كأقلّ وصفٍ نطلقهُ على آلمستقبل ألمنظور, و آلفكر بمثابة مركز آلعمليّات آلذي يُغيير آلأحوال جميعها سلباً أو إيجاباً؛ شقاءاً أو سعادةً!
من هُنا نؤكّد بأنّ دور آلقلب يتقدّم كثيراً على آلعقل آلظاهر في تصفية و تنقية ألأمور و إدراك آلأمور لإعداد ألأنسان بإتّجاه حبّ آلخير و آلعمل ألصّالح و آلسّعي لإعمالهِ و تطبيقهِ .. كلٌّ بحسب طاقته و أمكانياته و وعيه, و يأتي دور ألمُفكّر في آلمُقدمة يتبعهُ كلّ فئات آلمجتمع آلمُتصّف بآلألهي أو ألقرآني, بحيث يكون دور و حركة ألصُّحفي و آلمهندس و آلطبيب و آلأداريّ و آلفقيه و آلرّئيس و كلّ أكاديميّ و مُتخصّص سائراً في أهدافه النّهائية طبقاً لتوجيهاته!
لكن ما آلفرق بين آلأنبياء أو من يمثلهم و بين آلمفكريين في آلجهة آلأخرى؟
هذا ما سنُبيّنهُ كمفتاح للحلقة أن شاء الله.
في قصّة مُعبّرة جدّاً يُمكننا إختصار ألرّسالة آلّتي نُريد إيصالها في هذه ألحلقة من خلالها, كان بطلها ألفيلسوف ألحكيم (إبن سينا) مع تلميذه ألذى رافقهُ في سفره للحجّ, و بعد ما إنطلقا من مدينتهم (همدان) قاصدين آلكعبة ألشريفة توقفوا في أحد منازل ألطريق العديدة ليلاً قرب أحدّ ألقرى, على أمل إكمال ألطريق غداً, و كان (آلفيلسوف ألحكيم) قد عطش و طلبَ آلماءَ من تلميذه, لكنّهُ لم يجلب لهُ آلماء رغم تكرار إبن سينا لطلبه, و عندما إرتفع آذان ألفجر من تلك القرية المجاورة نهض التلميذ مستعدّاً للصّلاة رغم برودة آلجّو, عندها إنتبه إبن سينا و قال: مهلاً, ألآن حان وقت جوابي على سؤآلك آلسّابق ألّذي سألتنيه قبل سفرنا حول (آلفرق بين آلأنبياء و بين آلفلاسفة ما دام آلأثنان يدعوان للتّوحيد)!
لقد كان آلتلميذ قد سأل ذلك آلسؤآل قبل سفرهما, و بآلمُناسبة ليس كلُّ أنسانٍ قادر على طرح الأسئلة ألجّيدة و آلتعليقات آلنّوعية ألتي تنمّ عن ذكاء ألسّائل أو آلقارئ و عمق معرفته؛ فالسّؤآل بمثابة آلعلامات الدّالة في طريق ألفكر ألأنسانيّ و آلتي بدونها قد يضلّ آلناس طريقهم, ونصّ آلسؤآل هو:
[إذا كانَ ألأنبياء يدعونَ لتوحيد الله و آلعدل بين آلنّاس و أنتم كذلك تدعون للتّوحيد و آلعدالة بين النّاس .. فما آلفرق بينكم و بين آلأنبياء؟].
كان جواب (إبن سينا) ألحكيم* هو: [إنّ ألأنبياء خاطبوا قلوب آلنّاس قبل عقولهم و نحنُ نُخاطب عُقولهم, و مُخاطبة ألقُلوب أعمق أثراً و أشدّ تأثيراً و حيويّة للأنسان من مجرّد مخاطبة عقله!].
و أضافَ؛ [لقد كشفتُ و عرفتُ و تيقّنتُ من هذا آلأمر بعد ما رأيتكَ نهضتَ مُلبياً رسول الله(ص) مُستعدّاً للصّلاة آلّتي أمرنا بها قبل قرون خلتْ, بينما دعوتك لجلبِ ألماء و أنا ما زلتُ حيّاً أمامكَ و أستاذكَ في نفس الوقت لكنكَ تكاسلتَ و إمتنعتَ عن ذلكَ, حينها عرفتُ كم آلفرق كبيرٌ بين منْ يُخاطب ألقلوب و بينَ من يُخاطب ألعقول فقط!].
ألدّرس ألكبير في هذه ألحلقة ألهامّة؛ هو: على آلمفكريين ومعهم الصُّحفيين أنْ يُركّزوا على مخاطبة قلوب النّاس و مشاعرهم بصدقٍ و أمانة و أدب, لكونها أللغة ألوحيدة آلّتي تُؤثّر في آلنّاس و تُفعّل بينهم ألقيم ألأخلاقيّة و آلعقائديّة بينهم, و يتطلّب آلأمر معرفة لغة آلقلوب و حالاتها و هي لغة صعبة نسبيّاً و حسّاسة و يتطّلب آلأمر ألمزيد من آلعلوم و معرفة قوى النّفس و إسرارها و قوى آلرّوح و أسفار ألأنسان و تطلعاتهُ و سبب خلقه, و آلمُؤثّرات ألتي تُشكّل حقيقة ألقلب و آلضّمير, و آلأهمّ هو معرفة ألفرق بين آلعقل ألباطن و آلعقل ألظاهر, وآلّتي تحتاج إلى مقدّمات عديدة منها؛ معرفة ألأسئلة السّتة و أجوبتها الشافية كمقدّمة للدّخول في ألأبعاد الحقيقية للمسائل ألتي أشرنا لها(2)!
و لا حول و لا قوّة إلّا بآلله العلي العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فرق كبير بين (ألحكيم) و (آلفيلسوف) و بين (ألحكيم و آلفيلسوف) و (آلمُفكّر), و بين جميعها من جهة و بين ألمُثقف (ألصّحفي) ألّذي يأتي في آخر ألمطاف.
(1) لمعرفة التفاصيل حول مكانة و دور ولاية ألفقيه؛ راجع مباحثنا في آلمؤلفين:
(الشهيد ألصّدر؛ فقيه ألفقهاء و فيلسوف ألفلاسفة), و كذلك؛
(مستقبلنا بين الدِّين و آلدّيمقراطية).
(2) للمزيد من آلتّفاصيل راجع: ألمُجلّدات ألأربع بعنوان: [أسفارٌ في أسرارِ ألوجود].