بين المفكر و الكاتب الصحفي - الحلقة الثانية/عزيز الخزرجي
Tue, 17 Dec 2013 الساعة : 17:02

فرق كبير بين مَنْ ينتج ألفكر و من يرتزق عليه!
و لعلّهُ آلفرق ألأبرز و آلأكبر بين آلمفكر ألحقيقيّ و آلكاتب ألصُّحفيّ ألعاديّ!
ألمُفكّر هو بمثابة ألباطن و آلأساس لأنتاج آلفكر ألبنّاء, و آلصُّحفي هو آلظاهر و آلعنوان و آلنّاقل لهُ!
ألمُفكّر يبحثُ في آلأسرار و آلجّذور لكشفها و آلصُّحفي يبحثُ في آلظاهر و آلسُّطوح لينشرها!
مصطلح "ألمُفكّر" يُمكن أنْ تَدّلُّ على ثلاثةِ أنواعٍ من آلأشخاص:
- من يحمل ألأفكار و آلنّظريات ذاتِ ألأبعاد ألمعرفيّة ألعلميّة ألواسعة ألّتي توصّل إليها و لم يسبقهُ إليها غيره, و هؤلاء هم ألنُدرة في تأريخ ألبشريّة كلّها .. لهم صفاتٌ أخلاقيّةٌ عمليّةٌ و منهجيّةٌ فريدة يعجز آلعالمين بما فيهم آلصُّحفي من الأتيان بمثلها, و يتحلّونَ بآلطّهارة و آلنّقاوة و أكل ألحلال و آلتّواضع و آلشّجاعة و آلصّدق؛ بمعنى آلأمتناع عن إرتكاب ليس فقط ألمُحرّمات بلْ حتّى ألمكروهات, و ليس تهديد النّاس و قتلهم و إرهابهم كما يفعل أكثر ألعراقيين أليوم للأسف, ظنّاً منهم أنّها هي آلشّجاعة آلّتي تعلّموها من آلأسلام آلسّائد و من آلمدرسة و آلتربية ألسائدة و آلأنظمة السّياسية آلتي تعاقبتْ عليهم!
ألمُفكّرون رجال آلحقّ و آلفكر آلأنسانيّ ألنّبيل ألأصيل ألهادف .. يتحلّون بآلأيثار و آلصّبر و آلحلم و لا تُؤثّر فيهم كلّ آلعوارض و آلعروض و آلتّقلبات و آلنّفي و آلتّشريد و آلظلم و آلضّغوط و آلأموال و آلمناصب!
- قد يكون ألمُفكّر صاحب ألأختصاص ألعلميّ؛ (ألطبيب، ألمُهندس, ألقانونيّ، ألأديب, ألفقيه) هذا بشرط أن يُرافق صاحبه جميع ألصّفات الأخلاقيّة و آلأنسانيّة ألّتي أشرنا لها آنفاً و في مُقدّمتها لقمة آلحلال بجانب إنتاج ألأفكار و آلأبداعات ألجديدة كلٌّ في مجال تخصّصه.
- و قد يكون آلمُفكّر شخصٌ ذو خبرة فنيّة و ثقافيّة و إجتماعيّة رفيعةٌ و بارزة تمنحهُ وزن و مكانةٌ مرموقةٌ في آلخطاب ألعام, لكنّهُ يبقى فاقداً لمُؤهّلات ألمُفكّر و لا يرتقي لطبقتهم ما لمْ يتحلّى بآلصّفات ألأخلاقيّة ألعاليّة آلّتي أشرنا لها في آلصّنف ألأوّل!
كما عرّفنا ألأنسان بشكلٍ عامّ في موضوعاتٍ سابقةٍ و بيّنا آلفرق بينهُ و بينَ آلبشر و بينهما و بين آدم – لا سيدنا "آدم" عليه السلام, بل آلآدم ألنّوعي!
فآلحالة ألبشريّة مُستوىً مُعيّن إختصرنا وصفهُ بكونهِ؛ يأكلُ و يشربُ و يتزاوج و يمتلك هيئةً بشريّةً كرأسٍ و بدنٍ و أعضاءٍ و جوارحٍ, كما جميع ألحيوانات تقريباً بإستثناء ألأميبيا أو آلمخلوقات ألأخرى ألأستثنائية ألتي تختلف نسبيّاً عن هيئتنا ألشّكليّة ألبشريّة.
أمّا آلأنسان(ألحالة ألأنسانيّة) فأنّها تأتي بعد آلبشريّة بآلإضافة لإمتلاكه ألمُواصفات ألبشريّة آلتي بيّناها أعلاه يمتاز أيضاً بكونهِ كائنٌ مُفكّرٌ و إنْ وجد عند بعض آلحيوانات "قدرٌ من آلتّفكير" لكنّه لا يرقى سوى لحلّ مُشكلات عالم ألحيوان .. كلٌّ على كيفيّته وطبيعته آلتي جبله الخالق عليها .. و بحسب تطبّعه ألغريزيّ ألذي طبعهُ آلله عليها لأداء دوره في هذا آلوجود طبق مسارٍ مُحدّدٍ لهُ تقريباً, و إنْ كان آلشّرع الأسلاميّ يُعتبر تصرفاتهُ و عوارضه – خصوصاً ألأليفة منها - مُرتبطةً بشكلٍ من آلأشكال بصاحبهِ الذي يمتلك ناصيته, و لذلك حدود و ديّات و قوانين لا محلّ لها هنا لطرحها!
أمّا آلآدميّ (ألحالة ألآدميّة)؛ فهو مستوىً عالٍ لنْ يصلها إلّا آلقليل من آلنّاس ألنّوعيين, حيث يحتاج تحقّقها في آلأنسان إلى ألكثير من آلجّهد و آلمُثابرة .. ليَعبُر آلسّالك مرحلة ألبشريّة ثم آلأنسانيّة ليتحلّى بألصّفة آلآدميّة, أيّ يكون آدميّاً بحقّ, بمعنى أن يكون متواضعاً كأديم ألأرض و هي إشارة إلى آلحالة ألترابيّة التي يتطبّع عليها آلأنسان نتيجة ألمجاهدة و المراقبة الدائمة ألمُستديمة لتقويم ألنّفس ألأمارة بآلسّوء طبقاً للموازين الأخلاقية ألعالية بعد عبور مرحلة علم آليقين ثم عين آليقين ثمّ حقّ أليقين, و لذلك كنّى آلرّسول ألكريم إمامنا العظيم عليّ(ع) بأبي تراب بسبب تحقّق تلك الحالة ألمثاليّة فيه و هي من صفات ألأمام المعصوم(ع)!
أما مُشكلات ألإنسان و آلحيوان وآلجّماد و آلنّبات فحلولها آلطبيعيّة مرهونةً بالمُفكر ألإنسانيّ, و آلمُفكّر ألأنسانيّ ألسّوي هو آلشّخص ألذي تحقّقت في وجوده آلحالة آلآدميّة و لو مرتبةً من مراتبها, و ذلك بإعمال العقل آلباطن بكلّ طاقته ليأتي بجديدٍ لحلّ مشكلةٍ أو ظاهرةٍ خاصّة أوعامّة مُستخدماً طريقة عصف ألذهن (ألبرين إستورمنك), Brain Storming وهي درجة من درجات ألإلهام ألأشراقي ألذي يتداخل فيه علم (الكوانتوم) و آلمفكّرون أصحاب الفكر النافع للبشريّة, و مشتقات كلمة فكرة و تفكير و فكر و مُفكّر و أفكار, و تقابلها آلـ "آيديا" و منها "آيدولوجي" و تعني ألفكر ألمثاليّ و قديماً قيل "أنا أفكّر إذاً أنا موجود".
و آلمُفكّر يستخدم ألعقل ألباطن و يختلف عن ألعقل الظاهر(1) المجرّد ليحلّ مُشكلةً أو ظاهرةً عجزَ آلآخرون عن ألأتيان بحلٍّ لها, و آلتّفكير أنواع, منه:
ألتّفكير ألعلميّ؛ و يبدأ من آلإحساس بالمُشكلة و إستدعاء حلول من آلذّاكرة و آلقلب (العقل الباطن) ثمّ آلإتيان فجأةً بحلٍّ جديدٍ و أصيلٍ و يُعبّر عنه ألعُلماء بآلأشراق – أيّ إستخدام العلوم ألطبيعيّة بجانب آلغيبية – لإختلاق حلاً فجائياً جديداً و سريعاً لمشكلة مّا, و أقرب نظريّات علم ألنفس لهذا آلسّياق هي؛ نظريّة "ألجشطلت" أو "ألإستبصار", و آلتّفكير بهذا آلمُستوى .. أساساً لهُ علاقة بآلعقل و آلذّكاء و آلوراثة و البيئة و آلعائلة و درجة التعليم و طبيعة ألأنظمة ألأجتماعيّة - السياسيّة الحاكمة و فوق كلّ ذلك مدى إرتباط ألأنسان بآلغيب من آلجهة آلأخرى و عوامل مُتعدّدة أخرى.
و آلإنسان في كلّ مراحل ألنّمو .. مُفكّرٌ و في كلّ موقفٍ و مأزقٍ يمرُّ به يُفكّر للخروج من أزمتهِ, و هناك من يُفكّر متمحوراً حول آلذّات, ليكون شخصيةً أنانيّةً أو حزبيّة أو عشائريّة, و هُناك من يُفكّر لغيرهِ و يحسّ بالآخر و بكلّ آلمجتمع آلأنسانيّ و هو آلمُثقّف ألصُّحفيّ و آلحالة ألّتي يكونُ عليها آلإنسان وقت تفكيره تطلب تركيزاً خاصّاً, حيث يصف ألقرآن ألكريم حال نبيّنا إبراهيم بقوله: [و كذلك نُريَ إبراهيم ملكوت آلسّموات و آلأرض و ليكونَ من آلموقنين* فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً, قال هذا ربّي فلمّا أفلَ, قال لا أحبُّ آلآفلين* فلمّأ رآى آلقمرَ بازغاً قال هذا ربّي, فلمّأ أفلَ, قال لئن لم يهديني ربيّ لأكوننّ من آلقوم ألضّالين* فلمّأ رأى آلشمس بازغةً قال هذا ربيّ, هذا أكبر فلمّا أفلتْ, قال ياقوم إنيّ برئ ممّا تشركون* إني وجهتُ و جهي للذي فطر آلسّموات و آلأرض حنيفاً و ما أنا من آلمُشركين](2).
و كذلكَ وصف حالة ألوليد بن ألمغيرة؛
[أنّهُ فكّر و قدّر* فقتلَ كيفَ قدّرَ* ثُمَّ قَتلَ كيفَ قدّرَ* ثمُّ نَظرَ* ثمّ عَبَسَ و بَسَرَ* ثمّ أدْبرَ و إستكْبَرَ* فقال إنّ هذا إلّا سحرٌ يُؤثرُ* إنّ هذا إلّا قولُ ألبَشرِ* سأصليه سَقَرَ](3) و هو يُفكّر ليصف آلنّبي محّمد(ص) و آلقرآن بعد تفكيرٍ وتدبّر بوصفٍ مُشين عكس ألحقيقة؛ كساحرٍ و مجنون و أساطير آلأولين.
يُبيّن لنا آلقُرآن ألكريم أنّهُ ليسَ كلّ تفكيرٍ سويّ, فهناكَ تفكيرٌ شيطانيّ مُدمّر هدّام فالّلص ألمُحتال مُفكّرٌ هدّام كـ "راس بوتين" في مُقابل ألفكر ألبنّاء كـ "إسحاق نيوتن" ألّذي توصّلَ بفكرهِ لقانونِ ألجّاذبيّة و " آلبرت آينشتاين" توصّلَ للنسبيّة و رُوح آلله آلخمينيّ توصّلَ لسّر و روح ألأسلام و فحواهُ, و غيرهم من ألمُفكريّن ألّذين أفادوا آلبشريّة بنهضتهم و كفاحهم لنيل آلسّعادة!
و "آلهكر" و "آلإرهابييون" مُفكّرون في آلهدم و آلدّمار و آلتّخريب و شتّان بين مُفكرٍ بنّاء و مُفكّرٍ هدّام!
ألفٍكْر ألأنسانيّ يأخذُ صوراً عدّة, فنجد فكراً في صورةٍ أدبيّةٍ ينتجُ ألمُفكّر فيه شعراً أو نثراً عميقاً و مُعبّراً يبحثُ في حلّ مُعضلات ألوجود و آلخلق و خفايا آلنّفس ألأنسانيّة, فيكون ألأديب في هذه ألحالة مفكّراً .. كما أنّ ألفيلسوف مفكرٌ و آلمؤرخ مفكرٌ و آلخطيبُ ألمُبدع ألهادف مفكرٌ و آلقاضي ألعادل ألأمين مفكرٌ و آلمحاميّ ألصّادق و آلطبيب ألحاذق كذلك و هذا كافّة ألمهن و آلأختصاصات!
و آلمُفكّر ألمُبدع ألّذي يتبادر إلى آلذهن هو آلمُؤلّف ألهادف و آلكاتب ألصُّحفيّ ألّذي إرتقى سُلّمّ آلبحث ألعلميّ و آلمنهج ألأنسانيّ ألرّصين, و تلكَ حالاتٌ شاذةٌ نادراً مّا تُصاحب بعض ألصُّحفيين لكنّهُ يبقى دون مرتبة ألمُفكّر ألأصيل ما لم يُبدع!
و يُطلق لقب ألمُفكّر ألحقيقيّ على آلشّخص ألّذي سَبَقَ غيرهُ و أبدعَ أفكاراً جديدةً لمْ يسبقهُ إليها غيرهُ من آلعالمين في إختصاص معيّن يحصل بسببه على شهادة ألدكتوراه بإمتياز, و بآلمناسبة ليست كلّ شهادة دكتوراه مُعترفٌ بها أكاديميّاً, خصوصاً تلك آلمتداولة في آلجّامعات العربيّة ألّتي أصدرت مئات آلآلاف منها لكن دون فائدة عمليّة منظورة!
و كانَ للمُفكّر ألكبير مُحّمد باقر ألصّدر(قدس) عموداً في مجلّة ألأضواء ألّتي كانتْ تصدر في منتصف ألقرن ألماضي في آلنّجف كإفتتاحيّةٍ للمجلّة إستَحَقّ أنْ نُلقبهُ عليها بآلمُفكّر ألصُّحفي مُنذُ ذلكَ آلحين, حيث رافقهُ بفترةٍ قصيرةٍ أصدار مؤلّفه ألعملاق (إقتصادنا) ثم (فلسفتنا) ثمّ (آلأسس ألمنطقيّة), هذا بعد كتابِهِ ألأوّل "فدك في آلتأريخ" ليكونَ مفكّراً بلْ فيلسوفاً بإمتياز فاقَ جَميعَ فلاسفة عصرهِ, كما أنّ "أنور ألسّادات" كان عبقريّاً في آلعسكريّة – بغضّ ألنّظر عن دوافعهِ و منهجهِ ألأجتماعيّ ألسّياسيّ - فلُقّب بمفكّرٍ عسكريّ و سياسيّ كما كان "نابليون بونابرت".
و يُمكننا إعتبار "صدّام حسين" ألذي لُقّب بـ "هدّام" رمزاً فكريّاً في آلتّخريب و آلأجرام في آلعالم, و ربّما عبقرياً في ذلك بإمتياز فاقَ جميعَ ألمُجرمين في آلتّأريخ تقريباً, كذلكَ وعليه فالمُفكّر لديه إستعداداتٌ موهبيّةٌ خاصّة وهو ذكيٌّ في نفس آلوقت و بطلٌ تصنعهُ آلظروف ألقاسيّة و آلتّفكير ألمُتواصل ألمُنتج ليصنع آلمواقف و يحلّ ألمُشكلات و يُسعد آلأمّة كما فعلَ آلأمام ألخُمينيّ ذلكَ ألعبقريّ ألصّالح, أو بآلعكس يكونُ سبباً لشقاء آلأمّة و إنحطاطها كما فعل صدّام حسين ألعبقريّ ألمُجرم!
و آليات ألتّفكير للمُبتدئين تكون عموماً مُتجدّدة و مُختلفة, بحيت يُمكنُ لأيّ شخصٍ كانْ أنْ يُفكّر بمستوىً مُعيّن, و يبقى آلفرق بين آلمُفكّر و آلصُّحفيّ و آلشّخص ألعاديّ هو قيمة ألفكرة و نتائجها و تأثيراتها و طريقة ألتّفكير و آلمنهج و كيفيّة ألفهم و آلإستيعاب و آلتّعاطي مع آلعقلين(ألباطن و آلظّاهر) و هذا ما يُشخّص ألفارق بين آلمُفكريين أنفسهم, و يُمكن لأيّ شخصٍ انْ يُطوّر مناهج تفكيره ليكونَ أكثرَ دقّةً و أثراً و شموليّةً و فاعليّةً, و آلتّفكير يختلفُ من شخصٍ لآخر و يعودُ بآلأساس إلى ذاتهِ و آلبيئة و آلوسط ألعائليّ و آلمُجتمعيّ و وسائل ألتربية و آلتّعليم و آلوضع ألسّياسيّ و آلقبَليّ و آلمُستوى ألفكريّ ألعامّ للشّخص كما أسلفنا.
عزيز الخزرجي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لمعرفة ألتّفاصيل عن العقل الباطن و آلعقل الظاهر, راجع مباحثنا في: (أسفارٌ في أسرار ألوجود).
(2) سورة الأنعام / 75 و 76 و 78.
(3) سورة ألمُدَّثر / 18 و 19 و 20 و 21 و 22 و 23 و 24 و 25 و 26.


