مشاريع ضخمة -اسامة جمال الدحدوح-غزة

Mon, 8 Aug 2011 الساعة : 16:46

بسم الله الرحمن الرجيم
  تباينت الآراء حتى صارت كالجبل المتطاول في عنان السماء. الكل أدلى بدلوه في المسألة.لم يصمت من الحضور أحد. إنهم أصحاب رأي، كما يظنون، ثاقب وسديد. وبينما الجميع في استعلائه برأيه، ومدافع عنه، دفاع المستميت عن آخر نفس من حياة حان موعد غروبها. يدخل الرجل الغريب، وقد التفت على بدنه عباءة تميل إلى لون البرتقالي الهادئ. وعلى رأسه عمامة بيضاء وقد تدلت على ظهره حتى لامست منتصف العمود الفقري. وكان يمشي على استحياء ويتبعه طيف من الهيبة والرزانة. وفي يده مسبحة من العهد القديم. وقد فتل شاربه وهذبه كأنه شارب عنترة العبسي. وجعل العطر المتفاوح من جنباته يملأ الأجواء حتى أنعش الحاضرين فكأنهم استيقظوا من نعاس خفيف. وسلم ثم جلس على الكرسي الوحيد الذي كان خالياً. وقبل أن يتحدث طاف ببصره على جميع الحاضرين، كما لو كان يبحث عن غائب فاتته الجلسة، وأدرك في الحال أن الجميع حاضر بلا استثناء، وأن العقد اكتملت حباته وأن لا أحد إلا وقد قال في المسألة كلمته ثم تفوه بالكلمة الأولى التي جعلت قلوب الحاضرين تحترق شوقاً للاستماع إليها :
   سعيد أنا بالجلوس معكم أيها الشبان المغاوير. ولسوف تكبر سعادتي وتنساب في عروقي عندما تصغون إلي لا بأسماعكم وحسب بل وبقلوبكم أيضاً. إنكم إخوتي، وان لم نكن من ذات الأب، فالأبوة الإنسانية أصل جميع الآباء، تربطنا بنسب عريق. ومتى كان ما يفرق الإنسان أكثر مما يجمعه ؟! متى؟! إلا عندما مجدَّنا آباءنا بالدم وجدَّفنا بقصد أو بدون قصد على أبينا في الإنسانية. وما ذلك التجديف باللسان والبنان وحسب وإنما بالأفعال والأعمال والمشاريع الضخمة المخطط لها وعن قصد وبإرادة حرة وتامة . أتدرون ما تلك هي تلك الأعمال والأفعال ؟! وما هي تلك المشاريع الضخمة التي تقض مضجع أبينا في فردوس راحته الأبدية ؟!
إنها المشاريع التي تصيب بسهامكم أنتم أرواحكم، وما تلك السهام إلا الأنانية التي تترعرع وتنمو في بساتين أعماركم، فأنتم تصبحون ولا تفكرون إلا في ذواتكم، وتمسون ولا تطلبون حياة كريمة إلا لأنفسكم، أما إخوانكم الذين حرموا من ضروريات الحياة الكريمة، وذلك لحكمة نجهلها أحياناً، وندرك شذرات منها أحياناً أخرى، فلا يمرون على خواطركم،ولا يأتون على بالكم. وإذ أنتم تتغافلون عنهم، تصبحون وبطونكم ملئ من الحنطة، وحلوقكم ظمأى من الماء، وأبدانكم تزدهي بأفخر الثياب. أما هم فقوتهم الحصى، وشرابهم الدموع، وكسائهم من ورق الشجر. ولو أنكم أنصفتم أنفسكم لقلتم لهم في محبة وعظمة وافتخار : أنتم إخواننا، بيوتنا هي بيوتكم، وطعامنا هو طعامكم، وشرابنا هو شرابكم ، وهذه الأقمشة ملك لنا ولكم. ولو أنكم فعلتم بهذه الأخلاق، أخلاق أبيكم الذي لا يفرق بين أحد من أبنائه، لتركتموه ينعم بلا أسف عليكم. أما وقد وصلتم لما أنتم عليه اليوم من التفرقة بين إخوانكم ، فسميتم هذا ابناًَ وذاك أخاً. وأطلقتم على هذا عم وذاك خال، ودعوتم هذا قريب وذاك غريب، وفرقتم بين أبيض وأسود، وبين عربي وأعجمي، وبين متدين وعلماني. فنتج من هذه التفرقة ومن تلك الأسماء المتباينة أن قربتم فلان وأبعدتم علان. وجعلتم من قلوبكم ظلاً وارفاً لفلان وسجناً ضيقاً لعلان. ومددتم أيدكم بالعطاء والخير لفلان وبالبطش والتنكيل لعلان . وأغدقتم الكلام الجميل الطيب على فلان وأمطرتم الخبال والوبال من ألسنتكم على علان.
ونبعت أرواحكم بالمحبة لفلان وتفجرت بالكراهية لعلان. وفسحتم في مشاعركم قصراً لفلان، فهو يسرح ويمرح في رواقه، وضيقتم الدروب والسبل على علان حتى يظل مرواحاً مكانه، ولا يتقدم للإمام خطوة . ألا إنكم إخوة من أب واحد، ومن عنصر واحد، ومن نفحة واحدة. وطموحاتكم واحدة . وأشواقكم واحدة. ومصيركم واحد . وما كانت الأسماء الجميلة التي تنادون بها أقرانكم إلا للتعريف بهم لا للتمييز بينهم . فاجعلوا من حياتكم واحة يعبر إليها السائرون على هذا الكوكب بلا معيقات من أسماء وأشكال وألوان وصفات. واجعلوا من محبتكم نهراً يغتسل فيه كل طالبي الشفاء. واجعلوا من قلوبكم ناراً يستدفئ بها المرتعشون من وقع البرد على أبدانهم. واجعلوا من أرواحكم كهفاً وفي الكهف زاداً ومع الزاد خمرةً ومن الخمرة يأتي السُكر الذي سينسيكم الأنانية التي بنت لها قصراً منيفاً على مساحة شاسعة جداًَ من أعماركم. ألا يا إخوتي، في الإنسانية النبيلة، ليضئ الله قلوبكم بشعلة من نور الإيمان بعظمتكم متى اتحدتم على الخير، ولتكن كلمات نشيدكم الدائم: نحيا كي نضئ للآخرين طريق الحياة الكريمة.
أما كيف علمت بحواركم وما القضية التي كنتم تتجادلون حولها فلقد كنت ماراً بجوار مجلسكم هذا، فوقع في سمعي ضجيج الاختلاف بينكم على مسألة واحدة، فكيف لو أنكم أردتم الاتفاق على ملايين الملايين من المسائل الزاخرة الفياضة بأمواج من ألوان الحياة المتجددة كل طرفة عين. أما رأيي فيما قلتم وما أدليتم به حول قضيتكم المطروحة على بساط الحوار فهو أن تكفوا الآن عن جدالكم حول مسألة لا تثمر إلا العلقم وهي : أيما أفضل العيش في الحاضر بجلباب الماضي أم العيش في الحاضر بعيون المستقبل ؟! وأنا أقول لكم لا خير في حاضر لا يجعل من الماضي جسراً للعبور إليه كما لا خير في مستقبل لا يجعل من الحاضر والماضي معاً قنطرة للوصول إليه .

 

أسامة جمال الدحدوح
كاتب من غزة

 

 

Share |