الســـاحر/عبد الجبار الحمدي
Mon, 28 Oct 2013 الساعة : 0:34

هكذا وجد نفسه بعد أن بصقت الأيام أمثاله الكثير، لم يكترث أو يشكو ضعف حال وكساد عيش، فقد تألق فقرا، يسير بتلك الثياب الملونة التي خارت قوى ألوانها قِدِماً، فبهتت من كثرة ضرب أشعة شمس وفرش على أرصفة طريق أو مساطب نائية، يحمل صندوقا مع سيقان خشبية، يتكأ الصندوق عليها في بعض الأحيان، للخلاص من قبضة يد تحرشفت تعبا من حملها لمقتنيات بالية، قد تكون هي سبب رزقه، إلا أنها فقدت جلب الحظ له ، بعد ان تساقطت أحلامها من ظلمة صندوق فاحت رائحته، تلك التي تشبه رائحة قبر متهالك، اعتاد السير عبر أزقة مزدحمة بيعا لحركات بهلوانية وخداع نظر بخفة يد، فما أن يرى الأطفال والفرصة سانحة، حتى يخرج قبعة الحاوي التي رافقته في اختفاء وظهور بين أزقة وطرق ملتوية للقيام بعرضه الفني، يفتح السيقان الخشبية التي أصابها الملل دون تغيير في شكل عروض او تغير نوع رفاق، صدئت العلاقة بينهم، حتى باتوا لا يتحاورون أو يتناغمون في عمل جماعي، وبحركة تجذب الانتباه، يصيح .. هيا يا أولاد .. تعالوا وشاهدوا خفة اليد والحركات الخفية، انظروا ماذا يحوي هذا الصندوق من عجائب وغرائب؟ وبفضول براءة الطفولة تتجمع الوجوه مستغربة من شكل الحاوي، وهو يتحرك بخفة تراكبت مع بعضها البعض لتكون شخصيته البالية القديمة، تعمل آلة التسجيل على إخراج نغمات تتصاعد معها أهات نجدة وغوث من كثرة إعادة شرخت حنجرة آن لها ان تعتزل الحياة، الوجوه مبتسمة حتى بعضا من الكبار اقتربوا لمشاهدة هذا الحاوي الذي يخرج الكرات من آذان الأطفال بعد ابتلاعها، ثم يطلق الريح من بطن عصرها الجوع نفخا كهواء لآلة عزف القرب، متخذا صوت وتصفيق المتجمهرين غطاء لذلك، كان الصغار يصفقون والكبار متشدقي الوجوه، أفرغ كل حيله عليهم، وما أن اقرب عرضه من النهاية حتى رفع قبعته ومررها جمعا لكسب قوت، كان الصغار قد باغتوه بالهروب، منهم من أخرج قطعته النقدية الوحيدة إحساساً بحسنة، أما الكبار فقد كانت القطع النقدية في جيوبهم ثقيلة كأنها أداة مرساة، رست بعيدا لطول موقف بلا حراك، إلا أن بعض أيدي تعودت تقديم الحسنات بادرت برميها خفية في قبعة اختنقت أنفاس خيوطها من سجن مؤبد برأس عتيق، تفرق الجمع، عاد هو الى حمل هموم وضجر رفاق على ظهر أعوجت عظامه تماشيا معهم في رحلة عمر قاسية، دخل إلى ذلك الكوخ مشعلا سراجا عمي النور فيه، فكان لا يرى أي شيء، مجرد خيالات متحركة بالقرب منه، رمى بما حمل إلى ركن الكوخ، تراخت السيقان الخشبية كأنها تتمغط قسرا، أما الصندوق فكان ميتا في ظلامه الأبدي، لم يعتد التنفس لهواء غريب، فقطن في زنزانته التي راقت له طوال تلك الفترة، مد هو عمود فقري أعوج من حمل رفاق طريق، كان الفراش أعواد قصب تغطت بملاءة درءا لكشف عيوب وعورة عوز، رمى بحذائه حال تمدده، فاحت رائحة أقدام نهشت طرق مختلفة سيرا عليها، كان دخان السراج قد أزكم نفسه أصلا فلم يشعر بأي رائحة، أما السيقان الخشبية، فقد غطت نفسها وعبر سنين بأتربة كانت تعمل كدعامات واقية، هي الأخرى لم تحس بتلك الرائحة، أما الصندوق فقد كان مغلقا، لم يشعر بأي شيء، كانت أنفه وفمه الوحيدان اللذان سكرا من بخار أقدام امتزجت بألياف جوارب تطحلبت، فصعب نزعها عن جلد أقدام فارقت الحياة، شعر بتلك الرائحة أستنشقها بقوة، فقد أعتاد على رائحة قدميه التي لا تحس براحة من بطن حذاء إلا ساعة خروج، أخرج من جيبه لفافة أشترى ما فيها أثناء طريق عودة، كان صاحب العربة يعلم جيدا أن هذا الحاوي سيأتي إليه، هكذا يوميا ومنذ فترة حط رحل عربته طلبا لرزق، كان بها بعض من حبات الفلافل وبعض من ورقات الخضرة ورأس بصل، تركها على بطنه لحظة لإستراد قوة من بعد وهن وتعب، أخرجت مصارين بطنه أبواق جوع، بدأت تقرقر من لهفة لتذوق لقمة تدور بها رحى معدة فترت عن حراك، فبصقت بأحماض جعلت تقلبات معوية تدخل في شجار بين عصر وتلوي، فكان الصراخ إطلاق ريح فاسد من جوف أجوف، شعر هو بذلك مد يده فأخذ حبة من الفلافل ورمى بها إلى فم اشتبكت فيه أسنان ورحى على القتل في قضم لقمة حائرة، أما اللسان فأرسل اللعاب ليزحلق الطعام من بين أسنان ارتاحت لطحن طعام، بعد ان كادت تنسى ماهية عملها في فم تحجرت الحياة فيه من تذوق أنواع طعام، لم يشعر هو بطعمها بعد أن غطت رائحة أقدامه على رائحة طعام، لم يكترث كثيرا، اجلس نفسه، أخرج رأس البصل ووضعه على ركبته، صافقا إياه بضربة أطاحت بلب رأسه، مد يده لالتقاطها وما أن فركها بأصابعه حتى أبتلعها، اختلطت الروائح مع بعضها البعض، مزجت بقايا هواء ما أن تنفسته سيقان خشبية حتى فارت من براعمها بوخزات غريبة، لم يشعر بشيء فكل الأمور عنده بلا تغير، تلك هي عادته التي عاشها منذ زمن طويل، حتى أن معدته ومصارين بطنه، تآلفوا على هذا النوع من الطعام الذي يشبه طعام مساجين لا يتغير مطلقا، وأثناء قضم وبلع، مد يده في جيبه ليرى ما هي حصيلة يومه، وضع بها على سطح فراش، قطع عزفت البقاء في جيوب حائرة من تنقلات سكنا في غرف لا تشعرها بالانفراج والألفة، فهي وحيدة دوما، فكل القطع النقدية ما أن التقت في جيبه حتى شكت الواحدة للأخرى قصة ضيق من تنفس في جيوب متهرئة، حتى ان الكثير منها قد تغير لونه نتيجة عيش في ضيق، فقالت لبعضها: يا لحظنا... نخرج من جيوب شبه منفرجة لندخل كهوف مظلمة، لا أدري لما تدور علينا الدوائر؟ ألسنا سبيل قضاء حاجة، فلما نعامل كأننا فتات لفك عوز، لم تكمل الحديث مع رفاق ضيق حتى جاءت أصابعه من تفريق وعزل انفرادي وجماعي، لقد كان يجمع نوع الفئات كل على حدة، حتى تلقفت أصابعه شيئا غريبا بين تلك القطع، لم يألفه حصيلة في يوم من الأيام، إنها قطعة نقدية تحمل نقشات غريبة وقديمة، فركها محاولا استكشاف لونها، نوعيتها رغم لمعانها، لكنه كان لاهيا مع يده الأخرى التي تعمل على فرز القطع وحسابها، شارف الطعام على الانتهاء، سحب أنية الفخار ليعب ما فيها من ماء في جوف متصحر، فجأة شعرت الأسنان واللسان بطوفان عرمرم، فَرَقَ من تجمهر بين أسنان ولثة، بالعا كل شيء، راميا إلى معدة شعرت أنها أخذت بالدوران والعمل على طحن بشبع رغبة من جوع، نفخت بحركتها غرف فارغة بغازات أطعمة، ما أن تمدد حتى أطلقها مطبطبا على بطن أحس أنه قد أوفى لها الكيل، تاهت الرائحة بين الروائح المختلفة التي أسكرت كل من في الكوخ، كانت غلة اليوم بالنسبة له جيدة، تذكر... عاد ومد يدهُ لمحاولة معرفة نوع تلك القطعة النقدية، لكن محاولته باءت بالفشل، كما أن جسده قد تراخى بعد أكل وهضم مع حساب قطعه النقدية، أدارت رأسه في الأصل رائحة الجوارب مختلطة مع رائحة بصل وأطلا قات ريح فاسدة أودت بخلايا وعيه إلى خدر ونوم، لاح له النور الحقيقي في إشراقة شمس، لم يفرح أحد سوى السيقان الخشبية التي كانت تنتظر النور الحقيقي للسير بعيدا عن هذا المكان حقير، لم يسعفه الوقت في غسل وجه أو مضمضة، بل سارع في وضع قدميه في بطن حذاء لم يصحو أبدا فقد مات خنقا برائحة أقدام نتنة، أرتضى أن يكون أداة نقل لجثث حية، حمل حقيبته مع تلك السيقان التي قفزت إلى ظهره كطفل سعيدة بيوم جديد، رغم عجزها من سوفان مزمن، إلا إن الابتعاد عن هذا الكوخ هو الحياة بالنسبة لها، كان يسير بخطى متسارعة، لم تعتد السيقان ولا الحقيبة ان يروه بهذا النشاط، لفترة من زمن توقف عند أحد المحال الكبيرة، مترددا في دخول من خيبة هيئة، كان خاليا من أية زبائن، فالوقت مبكر... فجأة دخل وقال: صباح الخير .. هل أنت صاحب المحل؟؟ رفع رأسه من كان خلف مكتب عريض وطويل ليرى تلك الهيئة التي سَبقتها رائحتها تطايرا مع نسمات صباح باردة فانكمشت بعيدا، إلا تلك التي دخلت في انف صاحب المحل، فرد قائلا: ماذا تريد ومن أنت؟؟ ألله يعطيك، كلنا على باب الله، لم نستفتح بعد، هيا تحرك، أستغرب لكلام صاحب المحل فقال له: لست مستعطيا بل زبون يريد أن يبيعك شيء نفيس، هذا ما ظنه بعد أن قضى ليلته تفكرا في تلك القطعة المعدنية وشكلها الغريب، تذكر أنه شاهد مثلها في يوم من الأيام أثناء ترحاله وتنقله، علم كم هي ثمينة، أخذها صاحب المحل قلبها فحصها فركها وقال نعم هي جيدة ولكنها ليست ثمينة، من أين حصلت عليها؟؟
لم تعجبه نظرات وسؤال صاحب المحل، فمد يده بسرعة خطف القطعة النقدية معلقا... يبدو انك فضولي ولا تقدر النفيس، استطرد صاحب المحل... لا .. بالعكس، ولكن سؤال بريء لم أقصد منه شيء، كانت تلك القطعة عملة قديمة رومانية، وهي من الذهب إنها باب السعد له حين رمى بها أحد المتجمهرين إليه رأفة بحاله دون معرفة قيمتها، هاهي الأيام القديمة الهزيلة قد بدأت بالابتعاد، وكثيرا ما كان يضحك حين ينظر إلى عدته القديمة، فتلك القبعة، الحقيبة، والسيقان الخشبية لازالت على حالها، ركنها محتفظا بها، بعدما غير جلده وأصبح ساحرا من النمط الحديث.
بقلم/ عبد الجبار الحمدي