حلم العودة ومرثية بغداد-داود الحسيني

Sat, 30 Jul 2011 الساعة : 14:57


1987     -  1997
الإهداء
الى أخي و صديقي الشهيد عبد الزهرة جخيور( صابر)  الذي غدر به ( الشماشمة ) وهم رجال الأمن في الأهوار حيث قبض عليه
في قرية نائية في الهور وأعدم رمياً بالرصاص .
ولكل سجين أكل قيد الحرية معصمه .
 تقديم البروفسور عبد الإله الصائغ

من البروفسور عبد الإله الصائغ الى داود الحسيني : أطربتني وأخرجتني عن عزلتي .
والله يا داوود أطربتني وأخرجتني عن عزلتي واعتكافي بكلمات أشهى الى نفسي من إفطار مع سنابل الرائعة . حلم العودة ومرثية بغداد إبحار في قارة عراقية لم يكتشفها الزناة والكذبة وقد تهيأ للسفلة انهم في غفلة عن الأعين بعد أن شغلنا الغوغاء بأنفسنا!!
أبو عاتكة يوقظ رائحة دم الشهيد في زمننا ويؤسس لكتابة الفيض أن تترك القلم جوادا علندى يجري على بياض الصفحة فيولد حمامات السلام تحمل في مناقيرها أغصان الزيتون !! .
ويجري قلم الحسيني داوود ليوظف ذكريات الإنتفاضة 1991 الشهيدة والتي نحرت بطريقة غامضة ، الويل ثم الويل حين يفتح ملفها!! وبجاذبية الحكاية يسرقك منك ويشغلك عنك ويقودك بل يدعك تقوده لتشهدا أيام العذاب والهلع الأسطوري!! والتسكع بين الألغام والعسس وأنت لا تدري أتخاف عليك أم على حلمك الكبير أم تخاف على زوجك أو أمك أو عرضك !! رواية مطولة بلغت فصولها حتى الآن أحد عشر فصلا ضمن تطريب شعري شجي يؤثله خيال واسع شاسع ساطع !!  وبغداد ما لبثت بعيدة وعنيدة ونحن نقف في الطابور لكي نتنسم هواءها ونستعذب دجلتها ونغفوا على أرصفتها عشاقاً!! لكن المخلوقات الفضائية عكرت مخيال داوود وجرّحت زهو الفارس فيه!! وعظمة ما صنعه الأستاذ داوود هو أنه جعل الحلم بمساحة الواقع !! وقرر أن يصرخ في البرية ولن يتوقف حتى تستيقظ الذمم والمروءات لتقول للصبيان والزناة والسكارى والأميين والمأجورين ومحرومي الجاه والممقوتين نسائيا: سكوتاً ياطلائع الوباء!! سكوتا يا أسراب الجراد !! سكوتاً يا من تهرفون بما لا تعرفون!!
الحسيني الذي ألفناه كاتب مقال أو قصيدة أو خاطرة أو رسالة وألفناه متميزاً فيما يكتب جذابا يفاجئنا في هذا الضرب من العناء اللذيذ بجنس من الكتابة مغدق بالصور الفنية الحارة المتحركة والمونولوجات الداخلية والخارجية وفق دراما الموقف !! البطل هو الموقف والأرض والفريق فلا فردانية أو وحدانية حتى لبرومثيوس الغربة أو العذاب العراقي!! لا أنا أو قبيلتي أو ابن خالتي حتى مع سيزيف الوجع الفراتي!! الموشوم بأزلية السؤال والحيرة !! لقد أحببت كتاباتك وأحببتك من خلال كتاباتك ولم أرتكب خطيئة العكس أي لم أعشق كتاباتك لأني أحبك !! أحببتك كاتبا وقد سألت عنك الأستاذ عقيل القفطان ثم سألت عنك السيد إياد الزاملي وطلبت عنوانك فأرسله السيد الزاملي متفضلا وبدأت أدق بابك لأنني أعرف قيمة ما تكتبه !! تحية لجهدك الدؤوب وسقياً لزمان عراقي يجمعنا بك ومعك.

           البروفسور عبد الإله الصائغ

   
 
شكر وتقدير

البروفسور عبد الإله الصائغ
أعتز بك يا أستاذي ووالدي الكريم  وأعتبر تقديمك وسام شرف أعلقه على جيد عمري ما حييت. وحناء زهو أخضب بها سطوري.

الكاتب

سأترك الرواية تتحدث عن نفسها وتقودكم الى الأماكن والشخوص  المختارة .
 
 المدخل  :
كتبته وأنا في الطريق من سوريا الحبيبة الى العراق بعد عودتي من المنفى المتجمد.6/2004

( طفقتُ أغطي وجوه المواويل بالصبر  وأسترُ عن عيون الخليِّ عورة قلبي . لعلك بعد انطفاء المواقد وسط أكواخنا  تمرُّ أمام المسنـّاة ، تذكر للشــّط يوم ودعني  عهدهُ باللقاء)1
الموت مثل بندول يهتز ، يدنو ويبتعد عن الوجوه . ويرش سخام الرهبة والخوف على  الصغار والكبار لا فرق . ويسحق الأضلاع  يأس قاتل يتبدى على الأرواح أشبه بسيول عارمة . أرض الرافدين جنة عدن . قريبة من الماء والغرام  بعيدة عن الحقد والظلام حولها الجور الى أرض عطشى تتكلم لغة الآه ، الملوحة تبخ سمومها على الأديم المتشقق وشحة الماء ترفس البطون بمقامع من الأمراض والهزال . غادرها الأهل والبنون وحلّ مكانهم السراق والمرتزقة . الشعراء والمفكرون فرّوا  مثل طيور مهاجرة تبحث عن مساقط الأمل والسلام . المراجيح مكسورة سحقها قطار العنف والحصار والسيارات المفخخة . انتشرت في الحقول أسراب الجراد والأحزمة الناسفة  وإرث كبير من المقابر الجماعية والسجون السرية  والآذان والألسن المقطوعة . ما أجملك يا عراق حتى وأنت تلبس ثوب الحداد . لقد أرهقك القتلة وأهانوك ولكنك ستبقى نجمة الصباح . الناس في عيونهم  فرحة لم تكتمل .  الهواء له طعم الحنين. آه يا نهر الفرات ، يا نهر المعذبين المقدّس . أتذكر  أبنك الموجوع  ، أيوب هذا الزمان؟ مَن يشرب من مائك سيكون حنونا وشاعرا ولابد أن تلوكه المصائب ويرفع قلوع التغرب والرحيل . آه يا عراق يا بلد الأنبياء والمقابر لايوجد فيك بيت لم يصطبغ بالعويل والفقد . أريد أن أشبع من رؤية التنانير المشتعلة ( والكلل) المنصوبة على سطوح المنازل وعلى ( سوابيط ) البيوت المبنية من القصب.  أريد أن أشمّ رائحة الغبش الجنوبي وقبر أمي ووجه أخي . كنت أتـنشق  البردي النابت في بحيرات القطب الشمالي فلا أجد فيه عطر أهوارنا والتي جففها الطغاة ليمنعوا الماء عن كلّ وردة ومنقار وفم في تلك القصبات الفقيرة والمقهورة . فللقصب في بلدي رائحة الأم الرؤوم! الخوف والذعر يسكنان الوجوه المتعبة  والتي لم تعرف الغمض اللذيذ منذ عقود . قوات الحلفاء يحب أن لا تبقى . شعبنا يرفض الإحتلال ولكن ليس قبل أن نؤسس دولة عراقية خالية من الموت والإرهاب والفساد . الكباروالصغار يصعد الى رؤوسهم الفزع ، في آذانهم طنين لا يتوقف. تشعر بأنهم مصابون بلعنة صداميّة !!.
الوجع  مثل بحيرة تمتد الى أقاصي الروح والقهر أشبه بحبل سري ينساب حتى تخوم التشظـّي ، الليل ساحل للبوح . ذكريات محفورة في مواويلي أريد أن أستعيدها وتلال من المباهج ودّعتها وأقمت في دروب الرحيل  مآتم عزائها. أواه يا مدينة السلام ، يا جنة قلبي . لم تفارق طيوفك الخضر مناماتي ، يا من تسبحين بالألم والدماء ، آه يا بغداد تعرفين فجيعتي أبنك نخلة ميتة يسكنها النمل وتأكل أحشاءها البكتريا ودودة الإرضة. لايملك غير الحلم. أصوات القبرات الفاقدة تدلق على رأس غرامي  ماء الشجن ، تمتزج مع أصوات الباحثات عن أجداث المحبين المغيبة منذ سنوات في أحشاء التراب فيصعد منها لحن الموت والجريمة.
صعدت على قلبي الحسرة . لقد خلعوا ملابسهم ونياشينهم وشرفهم في المراحيض! وهربوا لا يلوون  على شيئ تاركين عروسة الطهر ومعها أعراضهم للسبي والإستباحة.  المنازل تلبس رداء الحداد، في كلِّ دار أرملة وأيتام .
ذي قار يا مدينة الدموع ، يا مدينة الجهاد . يا شجرة الطيب والحنان  ، لم يستطع الحقد الأسود من عزق عروقها ، يا أم الريل وحمد ومنبت الشعراء ، يا مدينة المآتم ، إسمك يحفر في الروح زهوا مقيما . عندما شممت ترابك المعجون بالدمع أغار على عيني القذى والرمد وكبس على قلبي الفرح فركضت صارخا كمن لدغته إفعى .

الفصل الأول

على ضفاف الحقيقة  يسكن النور وفي قلب المتاهة يضيع الحلم وتشهق الظـُلامات حين يستبد القهر . كانت الأيام يركب عليها الظلام والعوائل تتناقص  ،  الأحداث  أشبه بمسرحية أبطالها الوهم والتصحر.  قادونا  مثل خراف مقيـّدة الى محكمة الثورة كنا
عشرة ، ولجنا الى قاعة طويلة  وجدنا فيها كنبات قديمة وجدران قاتمة موشاة بأسماء محفورة بالآظافر  لأناس ربما  أعدموا.  كانت هناك أمرأة حامل  أدركها الطلق ، تتلوى من الألم ، الحرّاس يرشقونها بنظرات شامتة وهي تتماسك وفي لحظات تنهار باكية . زوجها المسكين يطفح وجهه بالخوف والحيرة  ، أيَّة مأساة قاهرة تغلـّف روحك حينما تكون غير قادر على حماية زوجك أو
عرضك !! أدخلوهما قبلنا ، حُكِم على الزوج بالإعدام وعليها بالسجن المؤبد . لم يلتفت القضاة الى بطنها  وهو يحمل عراقياً لا ذنب له !!  الأكباد الحرّى تتوكأ على عمود  الأمل ، الفوانيس تتراقص أضواؤها في مهب الريح .  عليك أن تكون أطرشاً في زفة لكي يبقى رأسك!!  آه يا وطن كأسك كان علقماً لكننا شربناه ، لم يهزمني الرحيل والليالي الباردة والتيه والمنفى .  كسر فخذي أقرض النفس ارتباكاً وحزنا لا ينتهيان.  في ساعة غارقة في النحس والسواد شددنا الرحال. لم نكن نطيق التنفس في غابة الموت . الرصاص وراءنا  مثل طيور حمراء  في ظلام الليل والهروب ، تنحني الصغيرات كي لا يسكتها الغدر ، الأحراش تقبل أذيالنا مودعة . الأكواخ المستباحة تسفح الدخان من مواقدها أشبه بمدامع مخنوقة . كنا كمن يسابق الريح نحو أقدار مجهولة .
( وفي الليل حين تنام العيون العيون ، يسهر قلبي ويوقظ  إرث البكاء ) 2 تتزاحم في قافلة الوأد مرثيات الوداع وتبكي الدروب ضيعة الأقدام الحافية . لم أزل أصرخ في وجه الزمن واليتم لأسمع  أكواخنا في الجنوب -المحناة بالوجع وكركرات الأطفال  أمام الفوانيس الحزينة- صوت حرائق الروح لكي تلامس شمس الأمل أكلاك البردي وشفاه الصغار الذابلة . كانت أمّي تردد وبغضب موجوع : عنادك سيلقيك في داهية وتخسر كل شيئ ( لا حظت برجيلها ولا اخذت سيدعلي ) ولكن يا أمّاه  سيد علي معي في غرفة واحدة في أمن النجف !!. حين أعطت لنا البيوت ظهرها كانت الدموع تغسل مفاصلي . المأساة مثل غول سحري يلتقط الضياء  وأنا غارق بصمت  جنائزي . لم نكن نعرف الى أين تتجه سفينة الفرار؟ إنها تبتعد عن ذكريات الطفولة وبقايا الوجد وسفط أمّي ومدينة البجع والحب( الجبايش) . في أمن البصرة ربطوني لأيام  على باب لا أكاد ألوح الأرض باطراف أصابعي ولمّا ألحَّت عليّ حاجتي في التبول صحت! فلم يجبني أحد . تصورت نفسي معلقاُ وحدي مثل سترة بالية  أو في مكان لا يدخله الناس فبلت ! هجم عليَّ الحراس وأوسعوني ضرباَ!. البرد يلتحف الأبدان ، لا نملك متاعاً . بتنا  على  دكّة بين البيوت القصبية في وسط أحراش ( الخرفية )3  الممتدة الى آخر الهور . كانت  العجائز تسبح بالندب يتعوذن من الرفاق . قالت إحداهن : نزلوا عندي حسبتهم ضيوفاً ، ذبحت لهم  دجاجة حفيدتي وعندما شبعوا سألوني عن ابني  وحين لم يجدوه أحرقوا البيت وأخذونا رهائن الى أن يسلـّم نفسه !!  ويوم جاءهم الأجنبي فرّوا أشبه بأرانب مذعورة وتركوا بناتهم ونساءهم في أحضان البؤس والرجال !! .  تغني الضفادع في محيط التلة الطافية فوق الماء والتي اخترنا أن تكون مقرّنا المؤقت قبل مناحات السفر.  النجوم تومئ لنا هازئة ، تلمع ببلاهة ، بدت وكأنها تسخر من أوجاعنا . قلت لها : لو كانوا يطالونك لجعلوك جبـّانة ومزبلة للعظام.

الفصل الثاني

الطيور المهاجرة تلقي على أسماعنا تحية الوداع  ، الغربان السوداء تـنعب مبشرة بمسير أحمق الخطى  والبعوض ينام معنا يمتص دماءنا وهي تفور من اليأس . كنا ننتظر معجزة تسحق الخوف والوحدة. حدثتنا أمرأة تجاوزت الشباب يقطر من أردانها التعب ، جلبت لنا بعض الأغطية : كنتُ مرضعاً صغيري مثل هلال ، أرى الدنيا وعمري  في عينيه فزارنا الخوف، كانوا يأكلون من زادنا ويتغامزون . وكان زوجي هارباً من أم المعارك فتشوا البيت ولم يعثروا عليه . أخذوا طفلي ،  مثل ديك مذبوح يرقص بين أيديهم من البكاء. أغرقوه في الماء لكي أدلَّهم على أبيه . كان الماء بارداً والصغير يعاني من الربو ، صرختُ لكنهم أصرّوا فمات الولد !! نعم مات إبني!!   ثم أمروني وأنا نفساء أن أتعرى وأخوض  في  الماء , كانت البرودة أقرب الى سكاكين تقطع جسدي . لم يتركوني إلا وأنا فاقدة الوعي ، ظنوا أنني ميتة .   
 في أمن البصرة كنا ننام على بطانية تمتلئ بالقمل والبراغيث وفوقنا مثلها ولا نأكل إلا وتلك البطانية اللعينة على ظهورنا ووجوهنا الى الحائط  وكان ذهابنا الى دورة المياه كارثة.   يقف الحارس ( غانم فلقة ) وبيده عصاه  البلاستيكية المحشوة بالحصى  ويحسب – واحد –اثنان – ثلاثة . ثم يطردنا من المرافق الصحية وكنا نقضي حوائجنا بالتقسيط !!.
آه يا أمّي المذبوحة بسيوف القهر . صابر  أيها المتوسد شغاف القلب والملتصق بروحي مثل قدر محتوم . ترهق صدور الأماني آفة البعد ويخامر الوجع أكباد العشاق .  كانت الذكريات تتراكض في رؤوسنا مثل مياه متدفقة.  ساعات ويجتاح الجراد حدائق الأمل وسيدخل الجيش مدينة (الجبايش) بعد أيام من الوهج المخملي والحرية عاشتها أرواح المتعبين وعيونهم في الإنتفاضة الشعبانية المغدورة . ثلاث ساعات ويمحو مغول هذا العصر خطوط الفرح ولذة النوم بلا كوابيس !  قالت شريكة العمر والعذاب:
- إنـّهم  لا يحترمون عرض أحد ولا يوّقرون عراقية ولا تأخذهم شفقة .  خذني معك.
- ولكنك حامل في شهرك التاسع  وأنا خارج  من غير دليل وهدف.
- وليكن ! لنمت معاً .
ضفائر الليل تصطبغ بلون الغبش الفضي. الدقائق تلهث هاربة ونحن أمام نهر السعد ( المجري ) . كان المجري يجري بإيقاع موسيقا دافئة   ، لا نملك قارباً . الهور يفتح لنا ذراعيه أشبه بعاشقة  صرعها الشبق. لم تطل حيرتنا فقد وصل الفرح . قطعنا  حبل أحد (المشاحيف ) كنا تسعة ضاق علينا ذلك الزورق. تلفتت أعين الصغار الى ساحة البيت وبقايا أشياء متناثرة . شهقت عاتكة تبكي لعبتها . الصمت مثل سيف يذبح الظنون ويعزق عروق التأمل. حرارة زينب مرتفعة ، ترتجف من شدّة المرض. أضواء البيوت تتوهج بخفوت قاتل . هبـَّت ريح باردة عجنت أنفسنا بالخواء والتمزق . طحنني شعور بالهزيمة وكبلني بتصور غائم . هل سنعود يوماً؟ نطفئ مشاعل الضياع والنفي . كانت المسنـّاة
( المسناية ) آخر المحتفلين بنفوق أملي ، عاهدتها بالعودة لكنها تحسرت فضربت وجهها مويجات الشـّط الحزينة معنـِّفة . الى أين أيُّها المبحر في غياهب الليل؟ عند أيّ مرفأٍ ستتوقف ؟. كانت أحراش  القصب والبردي تمتد أمامنا كفضاء مفتوح ليس له نهاية الأمواج تدفعنا بملل كسول . خالط توجسي نواح مخنوق .  أيّة
 طريق تقودنا الى مكان آمن ؟ بدأ الرصاص يحصد أعناق القصب  كانوا يمشطون الهور ، لقد سقطت مدينة البجع  بأيديهم !! .  

الفصل الثالث

تتواثب على قلبي الحسرات مثل ذئاب جائعة وتعبث في روحي زلازل الوجع .  التلَّة تهتز من تحتنا ، الرشاشات الثقيلة تلقي على أحراش الهور حمماً من النار والحديد . الأطفال أخرسهم الرعب . لابد لنا من الإبتعاد الى مسافات أكثر أمناً . البيوت  رفعت أعلاماً بيضاء تستسلم للغزاة !! مفارقة حين يرفع العراقي راية الهزيمة لعراقي آخر . النفوس أصبحت مريضة . في  المحكمة كان عواد البندر ببدلته العسكرية طويلاً مهيباً  والمحامي الذي  عينوه للدفاع عنـّا قصيراً لا نكاد نراه .  تلا المدعي العام لائحة الإتهام . أنتظرنا من المحامي أن يعترض ،  عيوننا تتجه اليه  , لكنه بقيَّ صامتاً  وبعد لأي  نهض كمن  يرفع ثوراً من بئرعميقة . تكلـّم متوجها نحو القضاة : أرجو الرحمة لهؤلاء المتـّهمين!! وسكت.
حكم  على بعضنا بالإعدام وعلى الباقين بالسجن المؤبد. مرَ  من أمامنا قارب بخاري تعلق الأولاد بأذيال ثوبي . لوّحتُ  لسائقه والسأم يداعب أفكاري. والوحشة تقتلع أشجار تماسكي  .
قال لي صاحب القارب وهو يفرك أجفاناً كأنها لم تذق طعم الرقاد
- عليك أن تدفع لنا أجراً مضاعفاً.
لم أكن أملك ما طلبوه . وافقت مضطراً. صعد الفرح  الى وجنات الصغار والهم الى نفسي . كيف سأتصرف؟ أعواد البردي تتمازح منحنية مع الأمواج المتكسرة حول دفة القارب. في أعماق  الهور لا تسمع غير بقبقات طيور الماء وأصوات الجواميس الهاربة . حين توسطنا المسافة أقترب مني صاحب الزورق وهو يلفّ سيجارة بأصابع مجلها التعب وعلتها صفرة التبغ وقال هل أنت ابن سيد سلمان!!؟  في أمن البصرة كانوا يسمونني  سيد كلب حتى أنني نسيت أسمي الأصلي . عندما يريدون التحقيق معي . يأتي غانم فلقة بعد منتصف الليل ، يرفسني : (سيد جلب ) قم ، يعصب عيني ويكبل يدي  ويأخذني الى غرفة المحقق : رجل كريه المنظر في أحدى أذنيه قطنة . صوته مرعب !! أقف طويلاً فتأتيني الصفعات من حيث لا أدري . مثل خرقة قديمة يكنسون بي تراب الغرفة ثم يفتحون  العصابة عن وجهي ويرسلون خلف سيد علي ، يطلبون منه أن يغني ومني أن أرقص !! وتبدأ الحفلة !! جراحاتها لم تزل ندية وطرية تنزف الويل والقهر وتغلف حياتي باليأس. هزَّ كتفي سائق القارب : سيد هل أنت أبن سيد ... ؟ أجبته نعم  . سوء الموقف ألجم لساني . تنحنح عن رئة أكلها السعال واستطرد: كم بتنا في بيته ليالي وأيام نأكل ونشرب؟ . جمعت بضع كلمات خجولة : لا أملك الذي تريدونه سأعطيكم  ما عندي من المال،  أقراط بناتي وبندقيتي و(المشحوف). تغير وجهه قليلا وذهب يستشير أبنه الجالس على الدفة الأخرى وعاد وهو يردد : ماذا نقول لرسول الله (ص) يوم القيامة ونحن نأخذ أقراط بناته ،  يكفينا المبلغ والبقية. أحسست بجبال من العذاب تنزاح عن صدري  كانت الشمس تنبع من الأفق الشرقي مثل زهرة ياسمين حمراء تتفتح  كقبـّة من النور ترش على سكون الهور صخباً  وحياة . البجع مثل غيمة بيضاء تقبـِّل حواجب الهور و( البراهين ) تسجد جبهاتها البيض على سجادة الماء . حين توقف القارب ودَّعنا الرجل  على شاطئ  قرية ( الجرباسي)   القابعة على مسافة كيلومترات من الطريق السريعة (بصرة – ناصرية ) الذي كانت تسيطر علية القوات المتحالفة  التي حررت دولة الكويت من قبضة حارس البوابات الشرقية وأم معاركه .

الفصل الرابع

في ( الجرباسي) النوارس تمشط ريشها بمناقير مدهونة  برائحة السمك . الجواميس تجتر بنعاس كئيب  تطرد الحشرات المتطفلة بحركات رؤوسها  . الرجال  تنزو على صدورهم الذبحة  أو هكذا يبدو لي . فأنا خيالي وأكبّر  الأشياء  كما تقول أمّي: أنت تشبه أباك , تجعل من الحبّة  قبة  ، التورم الصغيرعلى  وجنته يتصور أنه سرطان !! نباح الكلاب يمتزج مع صياح الديكة فتتشكل قطعة موسيقية تغتال الوجل . يوم  أخذونا من أمن الناصرية الى أمن البصرة  .  كنا ثلاثة مربوطين ببعضنا داخل سيارة يسوقها صاحب الأذن التي فيها قطنه ، والصوت المخيف . الطريق السريعة طويلة . أين هؤلاء الذين يخرجون مع الغبش من بين الأشجار وثقوب الصحراء ؟ ليأتوا اليوم لتخليصنا ! . أرهق الروح تشاؤم معجون بالوهم  وشافهها طيف ذكرى حالمة . القرية تمور بقلق مفضوح . الوجوه مصابة بالترقب والغثيان . الناس تتهرب من الحديث معنا ربما لأننا هبطنا عليهم من المريخ  ، الحقيقة لا أعرف سببا مقنعا لذلك. قطع هذياني صوت قريبة لنا تزوجت في غفلة  وتاهت في مسارب الهور فعثرت علينا  . قالت-  القرية يسكنها الخوف والرفاق الذين هربوا من القصاص ، لا مكان لكم هنا. دعتنا الى بيتها لكن زوجها  فرَّ  واضعاً مصلحته فوق أقارب زوجته  الذين لم يرهم حتى في أحلامه  ، تطوعت أمّه بطردنا . دون أن تقدم لأطفالي  لقمة واحدة . شيعتنا تلك القريبة الى الخارج وهي تبررالأسباب التي جعلت زوجها ووالدته يتصرفان بتلك الفجاجة. خفنا على أنفسنا فاستأجرنا (بلماً) يوصلنا الى  الحافَّـة الأخرى من اليابسة والتي يجتمع قريباً منها  هاربون مثلنا ، عوائل، أطفال و نساء تحت حماية قوات التحالف الغازية  حين نزلنا كانت الصحراء على مد البصر! . الصمت يعتقل المكان  الشاحنات العسكرية الأجنبية تذرع الأرض  لم نجد أثراً لمعركة ، أين (البوم أو الحوم ) الذي يتبع  فيالقهم ؟ !! لم أشاهد غير الهزيمة والمهانة  تصبغ اسفلت الشوارع  فبكيت ، بكيت على شعب أذلـّوه .  قبل ساعات كان الرصاص وراءنا هناك يختطف  النفوس ويذبح الجميع !! وهنا  لا نرى غير أحذية الأجانب تسحق  الوطن والكرامة . النسور كانت تحوم ، تبحث عن فرائس أو جيف  قيل لنا  عن وجود بقايا من أجساد لعراقيين إنسحبوا من ساحة القتال وقتلهم القصف الجوي الغربي  وتركوا في العراء !! آه يا عراق ليس لك ولأبنائك حرمة !  كان كل شيئ يبكي  الأشجار، البيوت ، القبرات والنساء . القرى البعيدة تشهق جدرانها من المصائب والبلوى . سيارات إسعاف  تحمل علامة الصليب توزع بعض الأغذية والأدوية على السكان المقهورين . لأول مرة أسمع أنين التراب والحجر والحيوانات . أيّ نفق مظلم أدخلونا فيه؟.

الفصل الخامس

في أماسي الرحيل يهبط وحي المناحة  وينهمر مطر البوح وتتقاطر الهموم مثل أسراب النمل .  عندما صدر الحكم علينا بالسجن المؤبد  نقلونا الى سجن(ابي غريب) وحشرونا في غرفة تسمى (المحجر) كنا أكثر من خمسين شخصاً نأكل وننام ونستيقظ واقفين.   الكرفانات المهجورة على الطريق السريع  بين الناصرية والبصرة  تكتظ بالباحثين عن سلام مفقود.  النفوس غاضبة ومكلومة ، كلمة واحدة تكفي لإشعال خناقة ، الأرواح يلفها حداد دائم . أصبحنا  نقف في طوابير لنأكل . وطوابير لنشرب وطوابير لنرتاح من حك جلودنا . وسط رطانة لا نفقه منها شيئا.  الآمال تبيض في رؤوسنا وتفرخ الكثير .  كتبنا رسائل لسفارات دولنا العربية فلم يجبنا أحد. الأطفال  يسبحون في حفرة واسعة أحدثها صاروخ منفجر. الصبيّات يغسلن الصحون فيها .  أبلغنا الجنود الأمريكان بوجوب الأنتقال الى مكان أخر , وأردفوا الى سفوان . خيَّرتُ مَن تقاسمني القهر - إذهبي الى أهلك فأنا أضعت بوصلتي وجلستُ كما  أخبرتني أمّي : ستجلس يوماً ما على قرن ثور!! أتركيني فأنا لا أصلح لك. قالت لن أختار عليك أهلاً !!  ركبنا مع الحاج جاسم الماجدي في سيارة نقل باتجاه ملاذنا القادم . سفوان أيّتها الطريّة  مثل فاكهة صيف ناضجة والجميلة كزهرة رازقي . فتحوا أفخاذك  للزناة وقبضوا الثمن ، لايهمهم أن يموت النخيل والناس أو ينتهي الأمل  الملك عقيم صحيح ولكن الإنتصار ليس ببقائك تحكم أو على قيد الحياة ، كثيرون ماتوا وانتصروا ! المحتلون مثل بغايا مصابة بالأيدز لا يقترب منها أحد والإحتلال بغيض  أشبه بامرأة  دميمة . ولكن سفوان مستباحة وأنت تحت رحمة الغزاة .  تطلب منهم الحماية ! أية لوعة حينما يعينك من تكره مساعدته وتضطر للإتكاء على حائط تتمنى هدمه . الفندق الحدودي في سفوان  أقرب الى صولجان مرفوع بوجه الصحراء . يفترش الآلاف من الهاربين التراب توزع عليهم القوات الأمريكية الماء والزاد. قابلت عند بوابته توأم الروح  ( أبا عبد الله ) ، أقترح أن نبتعد عن العيون الى حيث السياج الخارجي للفندق . نصبنا رواقاً من الأثواب القديمة و أغصان الأشجار  كان بلا سقف . المكان يضطرب بالخوف ، الناس يسكن في عيونهم السهد والرمال . لا تفصلنا  عن حدود دولة الكويت إلا مئات الأمتار . كنت أمشى حافياً لا أملك ما أشتري به نعلاً  . تلفح الذكريات وألسن الخلق رأس قلبي وتسلمني الأيام الى قلق مهزوز . وحين أدرك زوجة أبي عبد الله  المخاض سرت عدواه الى زوجتي . في نفس اليوم الذي رأت فيه إبنتي النور رُزق  أبو عبد الله ولداً سمّاه حسناً
ولد وبنت ولدا في مدينة محتلة  وأمام مصير أسود  وظروف اسثنائية وعلى أرض قاحلة  جرداء ، النتائج مرهونة بالمقدمات  ماذا  سيكون مستقبلهم ؟  الفرحة كبيرة ولكن المسرّة كعادتها لا تدوم  معنا ، فقد ألقيت قنبلة يدوية وربما لغم  أنفجر في حضن أم عبد الله ، كانت تمشط ولدها محمدا  فقتلا على الفور وجرحت ابنتها قانتة . خنقتني العبرة . صرخت دون وعي ، فقدّت يومها وقاري . الفجيعة تترك المرء بدون كوابح !!  كانت الشهيدة  صابرة  لم تذق يوما طعم الترف . عاشت في أعماق  الهور مع الخوف والبعوض وانتظار الموت القادم من كل صوب . لا تأكل غير العدس المسلوق . زوجها هرب بها فاراً من الظلم . يحني المرض والرعب ظهرها ومعها أطفالها ، بيتها صرّة . كانت حين تهاجم الطائرات الحوامة  أماكنهم القابعة وسط غابات القصب . تعانق صغارها قارئة من سور القران الكريم وهي ترتجف . وعيناها معلقة في وجه زوجها . في وقت الموت لا يلتفت العاشق  لنفسه بل إلى من حوله من أحبابه ! يدعو لهم  بالحفظ والسلامة .

 

الفصل السادس

في زحمة الوجع ومطارق الحسرات تشف النفوس ويتبدى عليها البوح . الكلام عن العدل في الأرض لغة المترفين   . حين تسدّ الأيام في وجهك كلّ أبواب الفرج وتحطم الدنيا بجبروتها بيتك وروحك ويقتل الزمن أملك . وأنت تتوسل إليها بلسان مفجوع  وعيون تغرق بالدمع وهي تتتفرج على جراحاتك دونما رحمة.
ماذا ستفعل؟!  تتلوى كطير بلا ريش ، من حقك أن تتأوه . لماذا يمنعوننا حتى من الحلم والإحتجاج؟  . أود الصراخ من غابة الحزن أصيح في ليل الشجن . عندما تجد نفسك بلا وطن ولا مال أو جاه . مزقك الضيم والرحيل والمصائب ، ضاع في دروب الرحيل أهلك وأطفالك . أليس من حقك أن تنتحر أو على الأقل تكون مثل حاج  نايف الذي ملَّ من إصلاح أولاده  فخرج هاربا ولم يُعرف مكانه .  أو كالكاتب  تولستوي الذي فرّ من بيته ولم يعد إليه .  الذين يلومونك لو مرّ بهم ربع ما مرّ بك لسكنوا المصحات النفسية أو المقابر. جثة الطفل محمد وهي مقطوعة الرأس  غرست فيك يأساً مقيما . كنت تصرخ وكأن الجميع لا يسمعك . أم عبد الله صامتة ونافورات  من الدم تسقي عطش التراب ، الأطفال هربوا على وجوههم ، قانتة  وعبد الله ينزفان . صعد أبو عبدالله مع قانتة الى طائرة إسعاف أمريكية وغابوا  وبقيت وحدك ، الأشلاء تومئ اليك بأصابعها المبتورة وعظامها المهشمة . تجمعوا حولك من فراهم التفجع . العبرات تخنق صدرك وأنت تبحث عن مكان لتغسيل ودفن الشهيدين . عيناك تسبحان بضباب قاتم .  وأخيرا واريتهم التراب مع من معك قرب دكة مرتفعة في سفوان ، اختزلت تلك الساعات عمر الزمن و أطعمت أحشاءك التغرب . كان عمر حسن أسبوعا رضع مع فاطمة ، كان يبكي طوال الليل ، أصابه هزال شديد  وإدمان على الوجع . اليتم والمنفى يجعلان الحياة مريرة وكالحة . الأطفال  نامت معهم كوابيس تلك الفاجعة .  يحلمون بالموتى وصور الدماء . قالوا لا نستطيع العيش في هذا المكان . نقلتهم الى جهة أخرى . بقيت تلك الحادثة تسافر معنا . تسكن عقول الأطفال الى الأبد . أصيبوا بالتبول اللاإرادي  والكآبة  .

الفصل  السابع

آه يا صابر . تصوروا إنهم أعدموك  ولكنهم قتلوا فيك أنفسهم
دماؤك حجارة ترجم صلفهم  وتاريخ يكتب  عجزهم . ها أنا ذا أكلمك ، أفرش لك مواجعي وقيح جوارحي . تضمد مأساة روحي بضحكتك المجلجلة فوق (جسر المجري) الجسر الذي شهد لوعتي واشترك في توديعي . كنت لا تكترث بما يفعلونه كأنك تعرفهم !! اسمعني يا صابر فلا زال نزيف حروفي ضارياً ودافقاً لا يتوقف . لا تعلـِّق أرجوك.  كان المحقق الكريه صاحب القطنة  يدخلني الى غرفة أو مكان ما وأنا مقيّد الى الخلف ويأمرني أن أصعد على كرسي أو مصطبة لا أعرف ،  بالحقيقة لآ أرى شيئا  ولكني أسمع همهمات تشبه زئير الأسود أو أصوات دببة غاضبة . ثم يرفعون يدي ويعلقوني بحديدة  معقوفة في  السقف .  لعلهم تصوروني مروحة . هل هم أغبياء الى هذه الدرجة؟  نعم جسمك العريض ممكن أن يكون مهفة . لا، لا ، غير معقول !! أسمع أحدهم يقول : سيدي أنسحبه . هؤلاء يتكلمون عن  السحب . هل نحن أمام ساحل بحر ويريدون  أن يسحبوا مركباً مثلا . ضربني أحدهم على مؤخرتي وأردف كبيرة وتهتز!  . طلب منه أحدهم أن يفعل بها أمراً   نهره آخر - سيعترف وينقذ عجيزته .  تكشفت لي نوايا القوم . قلت لا تتعبوا أنفسكم ولتذهب  تلك العجيزة المقرفة الى الجحيم .  فقال  الكبير على ما أظن : اسحبوه فانزلقت من الكرسي الى هاوية عميقة ملونة بألوان قوس قزح . كان أسفل الهوّة تنين أحمر،  لا  ربما أخضر ، لا  لعله مبقع ، أوه  . التنين كان كبيراً جدا  وقعت بين أسنانه . ولما أفقت وجدت نفسي تحت البطانية المليئة بالتراب والبراغيث  لا أستطيع أن أحرك أطراف أصابعي  وأكتافي مخلوعة!! في سفوان يأكل الحر نياط القلب وتتآكل الحياة  الشوارع يبول عليها القلق والناس مصابة بمرض التلفت . يحسبون كل صيحة عليهم ! ومصيبة ستحط على رؤوسهم . الإشاعات تنمو  كالذباب والمندّسون  مثل أكوام القمامة  . النهار يبقر بطن التأمل والليل يسرح بالأفكار الى الجنون . الكثيرون من لهم أقارب  أو واسطة  ذهبوا الى دول الجوار وبقينا نحن المقطوعين من شجرة . في ساعات الظهيرة يجلس الحافي تحت ظل شجرة أمام بئر في مزرعة هجرها أهلها . يقلـّب كفاً  صفراء من المال والفرح ، يدندن بأبيات تقطر رثاءً وألما ، ليس في جيبه غير الريح .  تقف على روحه طيور النوح . أيام سفوان خارج حدود الزمان ، ليس فيها سوى المرارة  . عشتُ فيها فاقد الذاكرة حالماً بغدٍ لا أرى فيه ظلماً  واحتلالاً. شهقت الآهات في  صدري وأنا أجمع أطفالي  وبعض الحاجيات بانتظار طائرات الشحن العسكرية الأمريكية والتي ستنقلنا الى رفحاء السعودية . ودعت العراق بدموع ساخنة . العودة اليك يا بلد الروح أصبحت حلماً قد لا يتحقق مطلقاً. أقدامي أنهكها البحث عن مكان آمن  حتى لو كان فوق كوكب عطارد . هل ستكون رفحاء مستقرنا الأخيرة؟ أم أن حمى المحطات والمرافئ  قد بدأت !! هل سنسكن في غرف مبردة  بعد هذا العمر المعجون بالهروب والضيق والفقر ؟ .  الحشرات والحيوانات أصبحت ودودة ، ترفع خياشيمها مودعة . التراب يغازل أقدامي بوله واضح  . البُعد عن مسقط الرأس والوطن يشخب أوداجنا باليتم والجفاف . كيف نرحل عنك يا عراق ونحن طيور مائية وأشجار لا تعيش إلا بتربتك ومياهك .  ولن ينعشها غير نسائم صباحاتك . خيول من ذكريات الطفولة تتراكض في حقول الدمع . المصائب لا تأتي فرادى !! تركنا خلفنا الأهل والأصدقاء وسنتجرع فراقك يا وطن المنى المقتولة والعصافير المخنوقة . كانت الشمس تتوارة خلف حواجز الغروب وآمالنا تغرب معها . لم يعد لنا ثمة طريق للعودة . الدروب ملئت حرساً . ليس لنا سوى الإندفاع الى الأمام  نحو عوالم لا تتوانى عند أبوابها عجلات رحيلنا وغربتنا وضياعنا .

الفصل الثامن

الزناة يتصورون بأن حديثهم عن الشرف سيجعلهم  آلهة !! . والجبناء يعتقدون حين يثرثرون عن  عنترياتهم الفارغة سيتحولون الى شجعان ويرتفع شأنهم . تركوا   بغداد أشبه بحمامة مذبوحة . مَن يصدق ؟  مدينة السلام تلك الشامخة والمحسودة هي اليوم  مسبيّة ومقهورة . يا جميلة الجميلات وملتقى الحالمين بالفردوس المفقود . السيّاط تحفر في ظهرك أخاديد من اليأس والضياع . سيطلع قمرك يا بغداد ، سيموت الغزاة بغيظهم  . سيشرق فجرك البهي وستحتفلين بحريتك .
 يوم خرجنا من سجن أبي غريب ويا ليتنا لم نخرج !!  .
 الحرية لها رائحة الأم الرؤوم . لم يزرني إلا القليل من معارفي . في اليوم الثالث نصب شرطي الأمن على جبار الذي قـُِتل بصورة غامضة بعد ذلك . انا أكره الشرطة منذ صغري . كبرت  فاتسع كرهي ليشمل رجال الأمن  الذي  كانوا يركبون سيّارات بيضاء بأرقام  حكومية مدنية . كنتُ  إذا قابلتني سيارة بيضاء أو رأيتها خلفي هبط ضغطي وشعرت بأن قارعة  ستحل بي . نصب هذا الشرطي البذيئ  (سيطرة) قبالة بيتي  . يسأل الداخلين والخارجين  عن هوياتهم وتجرأ على الدخول مرات وتفتيش ضيوفي ولكن أحدى قريباتي زجرته وعنفته فهددها بالويل والثبور. آية معاناة  حين تعيش مع القلق والخوف؟ . كان عليّ عرض نفسي أمامهم ! وآذا نسيت يتطوعون لأخذي في سيارة مظللة  وكأني قتلتُ عفلق !! لعلها الحظوظ تقف دوماَ ضد رغباتي  وتسل سكاكينها لوأد حلمي . وتسميم أوقاتي . في ليلة باردة كئيبة أرسل خلفي  المحقق صاحب القطنة والصوت الرهيب وعلى غير العادة أمرهم أن يفكوا قيودي وجلب لي ( نفر كباب ) كي أدهن بلعومي كما يقول!! . ثم  أخرج ورقة طلب مني أن أوقع عليها دون أن أقرأها . هل سأوقع على صك إعدامي أم أنهم سيفرجون عني بعدما ثبت لهم أنني لا أستطيع قتل ذبابة . كانت امّي قاسية . تركض ورائي بين البيوت ممسكة جريدة من سعف النخيل :  لا تريدني أن أضحك فالضحك  عيب ولا  تقبل أن أبكي فالرجال  لا يبكون ولا تسامحني إن لعبت مع أقراني فاللعب مضيعة للوقت ولا أغني  أو أرقص فكلّه حرام . ماذا أفعل يا أماه برب السماء وأنا طفل غرير !!!  كانت لها قطـّة سوداء  تسرق الكحل من العين . عدت ُيوماً من المدرسة جائعاُ ، قدمت لي أختي  قطعة  من السمك المشوي . قفزت تلك القطـّة اللعينة بلا سابق إنذار وأخذت  السمكة. ثارت أعصابي وضربتها بخشبة كانت إلى جانبي فرأيت الدم ينساب من رأسها . أمسكتها قمت بتضميدها وأعطيتها غذائي ، عالجتها لعدة أيام وحلفت أن لا أكرر ما حدث.  في الواقع حنثت بقسمي فأنا لم أخطط  خطة ونجحتُ في تنفيذها . ولم أقرر قرار وطبقته حتى  النهاية . أعترف بسفهي وجنوني .  وهكذا وقـّعت  إفادتي دون أن أعلم ما فيها !! سيعلقني هذا التوقيع على مشنقة .

الفصل التاسع

رفحاء الليالي السود والخيام والعطش ، الرياح السافية تفقأ العيون . صحراء لا ترحم . لا شيئ غير البيداء القاحلة . كانت الإحلام تفرش لنا الغرف المبردة  في بلد تشتاق القلوب لزيارته
وطن الغنى والكرم والدين . قوجدنا أنفسنا أقرب الى بدو رحل
نبحث عن خضرة أضعناها وواحة نغسل بها تعبنا وأجسادنا.
الرواق وعمود الوسط والوتد كلمات لم تكن في قواميس أهل السواد.  الأسلاك الشائكة  المحيطة بنا ترسم في ذاكرتنا إحساسا بالسجن . لا أحد يستطيع الخروج إلا بإذن . هل نحن أسرى ؟ لم أسمع عن نساء وأطفال رضع  سبايا  إلا في تاريخنا العربي المملوء بالويل والذل. مَن يفتدي هذه الأرواح المتعبة من تلك الأقفاص . العجب يحشو عروقي بصوف الوجع . كنا أحرار قبل ساعات  يملأ البشر وجوهنا فهبطنا الى صحراء التيه . نحلم بالشوارع المبلطة . والأسواق المرشوشة بعطر اللذائذ والبيوت المؤثثة . صرخ  بوجهي عسكري بلهجة ثقيلة على السمع : هيه لماذا تقف صامتا . إبحث عن خيمة لعائلتك. كنت أطيل النظر في تلك الكثبان  الرملية وأكوام الخيام القديمة فيرتد إليّ البصر . المعسكر كان بعيداً عن مدينة رفحاء . كنا ثلاثين ألفاً وليس ثلاثة
يا لهول الصدمة !! ألقيتُ جيفة الحلم على قارعة الشوك . وخلعت لباس التذكر . قال لي عريف طيّب : الأوامر هكذا !! قلتُ ألا يوجد في بلادكم بقعة خضراء  بها عمران نسكن فيها ؟!! فرد  علي وكـأنه يتكلم ويتحرك بجهاز توجيه وقد تبرم  من أسئلتي  : ربما يكون حلاً مؤقتا . بدأ الخدر يستولي على روحي وولدان الآه يطوفون حولي حاملين أكواب اليأس والحرقة . في سجن أبي غريب كنا نقف في طوابير العرض الصباحي ونحن نمسك أرواحنا  فالفلقة  تأتي مثل يوم القيامة بغتة وبدون مقدمات . لعلك نسيت الجلوس بصمت ومشاهدة نشرة أخبار الساعة الثامنة مساء وكتبوا أسمك  أو أضحكتك  نكتة أو حتى حلمت  في وقت إلقاء خطب الرئيس وسمعك أو شاهدك أحدهم  !!  لكزني الحارس بعقب بندقيته : ينادون عليك !! جاءك الموت يا تارك الصلاة ! أصفر لوني وانا أخرج من بين الصفوف مستفسرا عن ذنبي . قيل لقد تجاوزت حدودك في الليلة الفائتة . تقلبت وأنت نائم وتمددت على مساحة أكبر مما هو مقرر لك.  أكتشفك من يقوم بالخفارة  . صحيح أن مساحة حركتي وجلوسي ونومي في السجن ثلاثون سنتمترا فقط . ولكن النائم  ميت . لم يشفع لي الموت ولا التوسل وأكلت من يد الحراس  وجبة دسمة . سحب الأطفال ثوبي قائلين : صهرت الشمس رؤوسنا . حين تذوب الكلمات وتتبخر اللغة تحت قدر لاهب تتحول الى كائن أخرس لا يملك آذاناً ولا حنجرة !!

الفصل العاشر

الوساوس تتقلب على فراشي  والخيال تقطر منه ذكريات مقتولة . المواويل يرفس أحشاءها النوح . كسرت الريح عمود الخيمة التي جلس تحت ظلها صغاري  ، يرتجف الخوف في عيونهم ويمطر  على ثيابهم العرق .  الوجوم يلقي على وجناتهم الحيرة . كانوا أشبه ببلابل محشورة في قفص صغير . حركاتهم موبوءة بالوجل ينحت الصمت في أحداقهم  لوعة البكاء والتساؤل. لا يفهمون ما يجري حولهم . كانوا خائري القوى أشبه برأس وقعت عليه صخرة . لا يعرفون ما يراد بهم  . تتقاذفني أمواج الهموم مثل خشبة في بحر ,. فشلتُ  في أن أكون أبناً ترك عنادي  وشقائي روح أبي وأمّي في محرقة ! وفشلت في أن أكون زوجاً حكمت على شريكة المصائب بالفقر والغربة  كانت تأتيني الى قسم الخاصة في أبي غريب وهي تحمل على راسها ما أشتهي ، يدفعها الحراس ، يصبغون ظهرها بالكلام الساقط  وتبتسم راضية إذا قابلتني . لا تستحق مني كل هذا الظلم والقسوة . سأتعذب كثير لأنني سببتُ لها المزيد من  الهم !! وفشلت ُ في أن أكون أباَ ، أضعت أطفالي في دروب الرحيل ، خسروا مستقبلهم وأنفسهم وألقيتهم في فم الحوت . لم يلبسوا مثل الآخرين . ولم يتمتعوا كبقية الخلق . ولو لم أكن سفيها ومجنونا ً لكانوا أغنى الناس!! . التيه غول أسطوري  يخنق الأنفس ويجعلها أقرب الى ذبيحة مسلوخة ! وفشلت في أن أكون صديقاَ فلقد رجعت من علاقاتي معهم ( بخفي حنين )  وتخلى عني من أحبه  في قمة احتياجي اليه.  أنا اليوم جذع نخلة يابسة يسكنها الدود والخراب ، لا أصلح  حطباً لموقد .  صرخ  قربي  شخص ، طلب  مني أن أرسل من يستلم الأرزاق . قلت له كنت سارحاَ بإبل الفجيعة  . كانت  الشاحنات في رفحاء السعودية  تملأ بطون الناس بما يطيب . إنهم كرام . وكنا أشبه بأبقار مربوطة  يأتيها علفها بأمر العسكر . نأكل وننام ونجتر حزن أيامنا الخالية ونحدق في السماء ننتظر متى  ياتي الفرج ؟. في رفحاء  ألغينا الزمن لا نحتاج الى ساعات
 و تواريخ . اليوم حبل طويل ليس له نهاية والوقت ليس له أهمية أو حاجة  . كانت الشهور جامدة لا تتحرك والسنون تعادل قرونا . لم  أتذكر أنني زرت مدينة رفحاء  خلال سنتين إلا مرة واحدة وبتصريح . كنت مثل سجين قديم خرج من معتقله . لأول مرة سأرى الأشجار والدكاكين والمكتبات ونافورات الماء . حين يختمرالسكون والملل في مساماتك يتبدى عليك التوجع ويغسل وجهك احساس لا يوصف.

الفصل الحادي عشر

صابر وأدتني حبال الفجيعة . ومللت من تجرع الألم . يقولون إن للصبر حدودا . لقد تجاوز صبري حدود الصمت ، فاض بي لا أقدر على الهمس . في كل مرة أسترجع وأبكي أمام القدر  لكنه مجنون يا صابر ، مجنون . أستأذن روحك الحنون القابع في مهاد الرحمة اقترب لأسمعك صوت حرائقي  .  شظـّت كبدي قسوة  الزمن لاتتهمني بالإرتداد .  بوح ٌ ما أقوله ورغبة في عتاب الأرض والسماء .  صابر يحكّ جسدي اصبع القهر . ويلعق جراحي لسان التقرح .  حينما وصلنا الى بوابة المعسكر منعونا من الخروج والذهاب الى مدينة رفحاء . هل فتح القدر لحلمي بابه يوما ؟ !
تفترس حنجرتي رغبة بالصراخ ويلوي روحي عنان التذكر. صاحبتني الآهات والأمراض . الألم يفيض في حقول الروح . تضربني المصائب  بأقدامها القاسية كما يلعب الصبيان بطابة
يتلبد ليلي بغيوم الوجد وتقطع الذكريات عروق الأمل . أبحث في كومة الليل عن حلم ضاع مني . لم أجد  غير أبيات بعثتها إلى قريب في محنة :
ذهب العمرُ هباءً وانقضى في حسرات
وإذا ما عدت يوما لشريط الذكريات
لم أجد في العمر إلا سحباَ من  زفرات
وليالٍ عصفت فيها رياح النكبات
وكؤوسا بقيت والماءُ يجري فارغات

تتواثب على ساعاتي بغايا الألم وتسافح قلبي عفاريت الوداع . ليس لي غير جنون الحرف وطيف الحبيب ألوذ بهما حين يعاقر البوح روحي . مَن يسمع صراخ الموجوعين؟  الوحشة تمسك بعنقي . الثلج يشعل في قلبي فتيل جهنم . كيف تكون السعادة من نصيب المترفين فحسب ؟ أحقاً  إنَّ في الكون آفة الآفات . كلّ شيئ يمشي بالمقلوب  !!  هل العدالة مجرد وهم ؟ في ساعات ولادتي سقط الفانوس وأحرق مهدي وملابسي .  كانت أمّي  تدثرني بملابسها وتناوشتني أيدي البلاء ، سبع عشرة سنة والربو يأكل صدري ، لم أنم مثل ما ينام الناس . كان نومي سجوداً لعلني أسرق نسمة هواء ذلك الذي جعلته السماء مشاعاً . وأطعمني الشباب فيض السياط والتعذيب! وحين هربت الى الشاطئ الآخر لم يمهلني سوء الطالع سوى أشهر ، سكنت بعدها المشافي . تهشم فخذي الأيسر في حادث سير فأقرضني العذاب الى آخر  الشوط  ! سنوات وانا طريح الفراش لا أستطيع المشي  من غير عكاز!! كنت في العاشرة من عمري مثل وردة تتفتح  .  ألعب مع أخي وكانت أمّي تعمل لنا (حلاوة تمر).  تعاركنا  أثناء اللعبة .  فشكاني  إليها . كانت قربها  عصا طويلة ، ضربتني بها . كنت مظلوما في هذه القضية . ركبني إحساس بالذل . زعلت  وانزويت أبكي خلف البيت  وراء البيت كانت  زريبة فيها بقرتان لأمّي . كانت تقول لي  إذا مسّهما شراً : تروح  ألف فدوة لهما !! لم تذكرني الوالدة ونساني من حولها . بدأت ألعب مع البقرتين بعقل طفولي . أضع الحشيش بين فكيهما . وفجأة نطحتني أحداهما ، نعم نطحتني التي لونها كان يميل الى الحمرة . جاء قرنها في وسط عيني فأذهبت نورها !!  كان جارنا الحاج مزهر يقول لي رافعا سبابته اليمنى بغضب : الله عرفك فأخذ عينك ولو يرجع الأمر لي لفقأت الثانية ! ربما لأني كنت أصعد على سدرتهم أقطف بعض النبق ! واليوم أصبحت برجل واحدة !! الصفحات تمتلئ بكلمات دامعة ومقهورة .  ربي هو الوحيد الذي لم يقطع رحمته عني  رغم شدة جرمي وقلة حيائي . أذكر يا صابر يوم خلع الطبيب المسامير الخارجية دون تخدير . قال لي : الجميع يتمتعون بأعياد الميلاد لا أحد غيري . كنتُ لا أستطيع الحركة ، المسامير الحديدية تضغط على الأعصاب فيشلني الوجع المرير . كانت معي إبنتي زينب . أمسكت يدي . كنتُ صائماً حين شرع الطبيب بنزع تلك المسامير الطويلة النابتة في العظم واللحم . وأنا أتلوى وصورتك لا تفارقني . لقد أفرغت علي صبراً وقدرة على التحمل . دعني يا صابر أشف . اتركني أتحدث اليك ،  لنفسي المشتعلة بمشاعل المرض والقهر غصص تجرعتها لوحدي ، سلخت رماحها جلد قلبي . لم أجد من يشاركني مكابداتها أو يخفف عني . لا أستطيع البوح بها لا أستطيع !!
مِن أين لي بمثلك أفضّ على راحتيه بكارات وجعي وأبوح له بأسرار هزائمي ؟

الفصل الثاني عشر

في رفحاء الرمل  والعيون الغائرة ورتابة العيش ومغازلة السماء جلستَ في ليلة مقبرة تراقب الإسلاك الشائكة وحركات الجنود الذين جاءوا لحمايتك ! أرهقك تعجب غامض لماذا يصوّبون مدافع دباباتهم نحو خيام المعسكر؟ !! كنتَ حزيناً وبيدك مسبحة . انفصلتُ عنك . روحي لا تطيق الصمت أيها الجسد الممزق الساخن والمقطوع عن الدنيا  ، يجب عليكِ أن تحترمي صمته . فللصمت رهبة لا يفك طلاسمها  أحد .  سقط على عيني سيل البكاء  ودثرني رماد التفجع . حلمت ُ بأن كلابا تطاردني وتريد استباحتي  ، قررت أن أكون البادئ . أمسكتُ قدم  الكبير  كان أسودا مثل ليل فجيعتي صحوت على صراخ ولدي النائم  بجانبي ، وأنا أعض يده بما أوتيت من قوة! . أنت فارس تحتاج تحتاج الى سيف يماني . وأنا خنجر مكسور علاه صدأ  السنين القاتمة .  لكن  عشقي المسلول حمامة زاجلة لا تريد أن تموت  أو يقفل عليها صندوق التحف القديمة .  أمرني أن أشعل تحت الخنجر حطب الحسرات وأسحبه ، أمطّه ، أباعد بين أفخاذه أمارس معه عادات النوح  ليصبح سيفاً يبتر الشجن . أقدمه لفارسي . عندما برد السيف الممسوخ . ركض على رجل واحدة وأخذ يسخر مني. قهقهاته جلبت الشقاء . حين عزمت عليه بعزائم الغرام  تحول الى أمراة ماكرة يحاصرها شبق صائل  ، مسّدت ضفائر بوحي . امرأة الخنجر مسترجلة ، بيضاء لكنها تمتلك رخاوة الموت . الغرفة يحتشد فيها قمل الليل ويرعف بابها الدمع .  وتغني بين ستائرها  مطربة الوداع  . السفينة بعيدة ومساميرها حارة وباردة وتنور ذكرياتك يفور . في الغرفة شمع العيد تصفعه ريح الصدمة . وبلادة الوهج تلاسنها المواويل . جلستك مائلة ، قامتك تتراقص . سفينة وأعاصير وعويل .  الخنجر مسنون له حدّان أخترق أحدهما ظهرك وغاب الثاني بين الجموع الغاضبة . الكلاب تأكل السكون  . المغنية بدأت بالنواح . كوتك مجامر الخيال. قطع وحدتك طيف له طعم الشفاه المكتنزة ورائحة الشتاء . عانقك . في العناق تتلعثم المودة فتسطو على أزرارها أصابع الحلم . أين خنجري؟ ، سيفي ؟ صرخت . أيقظتك  الكلاب النابحة في بحيرات الثلج وهي تجر عربات التنزه . الكابوس  كان ثقيلاً  ومميتا . أفقت  تتلفت وكأنهم يطاردونك . قال لك جسدك المنفوخ   مثل بالون : لا مجال للهرب أيها الكيس المملوء حشرجات توحد معي . ألقيت بنفسك عليه وأخذكما نعاس الى نهاية الوصل . كنت زلقاً وفاتراً.  حامل فوانيس الأعياد  مرّ عليك. صعقه جسدك الملقى مثل خردة ، أخرج لهاته  ورجمك بكرة من البصاق وهرب!!.

الفصل الثالث عشر

 الليل في رفحاء ثور هائج له قرنان مثل أعمدة إسطورية  يقتلع العيون والأفئدة . السماء تلبدت بحمرة مرعبة . خيط من الدم يرتفع الى عنان الأفق .  براكين من الحرارة تتفجر في جسد الرمل
الخيام تنبعث منها رائحة الفريسة . تنهشها أنياب الرياح بغلظة.
رأسي أشبه بقربة  تمتلئ بعقارب سامّة .  في غرفة التحقيق كنتُ معلقاً مثل ثوب عتيق ، أمسكوا مؤخرتي أشبه بفأر ميت وربطوني الى باب . الخيال صهوة حصان أمتطيها بدلال أخرق . نهر المجري في صباح اختطافي  كفتاة لعوب تتلوى بغنج ، تغتسلُ فيه أشرعة الشمس وتتقافز أسماك نهايتي ، الدروب الجنوبية  في إلتواءاتها وتعرجها تشي بقحط الأيام ووحشة العصور ، شبابيك البيوت ينام عليها التراب ، غارقة بالظلام والجراح . في الطريق الى  واحة الصبر ناحية (الفهود)4 كان سيد طاهر يرقد بأمان وجيع . تلوذ بقبره المريضات والعجائز  والثكلى . قرب ذلك المزار أوقفني رجال الأمن وسلبوا حريتي . قالوا يريدونك في أمن  الناصرية ! (تبعد عن الفهود  ستّون كيلومترا) كنتُ وأنا في الطريق أودع الخضرة ورائحة الروث والأرض الزراعية. حرابهم في خاصرتي تمنعني من النطق . تطفح  من وجوههم رغبة في الإنتقام من كل متحرك وساكن . السهول المصبوغة  بالملح والتشقق تدنو من قلبي باكية وغاضبة . الحيوانات السائمة  تقضم حوافرها حرقة على وطن مسلوب ومستباح. الشمس تضع برقعها فتختفي وراء غيمات .  الخراف البيضاء تقترب من السيارة التي فيها جثتي وهي تحدق نحونا بعيون غارقة  بالحسرة . وكأنها تستفهم عن سبب هذا الظلم .  في  رفحاء صرخ موزع الأرزاق متعجبا من ثقل سمعي . المصائب مضحكة ومبكية . الرياح شديدة والخيم قديمة ومهترئة وعدونا بمعسكر جديد ! لأول مرة أرى في حياتي ضيوفاً مسجونين تحيطهم الأسلاك الشائكة والعسس والمجنزرات !!  رفحاء  خميرة الظنون وأميرة المجهول.  نتمنى أن تنشق الأرض لتولد أمنية أو تتغير حال . تسبح الأرواح في عالم من الصور المتداخلة . اللحظة مجزأة  الى جوانب متضادة  ذي قار (الناصرية )  تلك العباءة العراقية والغافية على شطِّ الفرات .  فيها سرادق التعذيب منصوبا . الكهرباء تتحول الى حرائق تشوي خلاياك .  كانت تمخضك مثل لبن في قربة حين يصعقونك . أحياناً تفقد القدرة على الكلام وهم يزيدونها قوة !!
تطارد أفكارك  كرات الثلج المتساقط على  النافذة ، القطب الشمالي  البارد يحقنك باليتم والحنين . الطيور تهرب مسرعة الى دفء الجنوب  وأنت تجتر ماضيك وتعلس حاضرك مثل علكة مرة . تتزلج الصغار على وجه البحيرة  المتجمدة . جرَّت ذكرياتك عصافير لها عيون خضر ومناقير حمراء . ملوا من تجرعي للألم وصمتي . ليس لدي ما أعترف به . قالوا :- هناك في أمن البصرة سيتكلم . هل عرفت يا صابر محنتي و تفاصيل ضياعي .

الفصل الرابع عشر

صابر قلت لك إن تجليات الفقراء والدراويش  مرعبة فهي تحمل بذور جنونها وحكمتها ، حبلها السري مربوط الى رحم الأرض لا يفارقها الملح والحنين . انه حلم العودة الى وطن يسكن في نومك ويقظتك . متى نلتقي والعصافير  تذرق فوق جبيني أماناً وعشقا؟
يلحس لسان الأيام بقايا عمري . وتعن على جوارحي  مخارز البعد
في هودج المسير الى مشارف الضياء.  ثمة أشباح  تصهل في روحي  وتستاف تراب صبري . قلت للطيف حين نثّ على  نومي قبلة الغرام . في المدرسة الإعدادية كان لنا مدرساً للغة العربية وكان فيلسوفاً وشاعرا. كان يردد : الوداع فراش للموت وهو عندي أنواع . وداع بنظرات مهمومة لايمكن أن تصمد أمامها طويلاً . ووداع بارد وبلا مبالات   والثالث بدموع وحرقة تخرج معها أحشاؤك . وسألنا أي نوع من الوداع تفضلون؟
فكتبت له بيتين من الشعر.
أكتبي لي رسالة الحب ذكرى
أكتبيها فليالي الأحزان تترى
أكتبيها بدمع عينيك اني
في وداعي أحب عينين عبرى

بلل الوصال يقتل الهم . وتنبع منه سكينة المرح . في تلك الليلة شافهتني الطيوف تشخب من أوداجها رائحة الهيل . وتشهق رئاتها بلهيب الشبق . أبلغتني أن السنين أغرتها بالتعقل , وهزت أغصان الغرام يد الريح .  كيف لي أن أكتب نعي الحبيب ! وبأي لغة أفترش ساحة القرب . أشهد أن الحبيبة التي عشقت. لها هذا الوداع. بدلالها المذبوح  تمتزج مع النور وتغسل أذيالها في ماء النجوم وتشرب نقيع الخلود . رفحاء تلك القاحلة ، غجرية الصحراء المعمدة بالوحشة . الناس في المعسكر يسكنهم القلق . كانوا حنونين ومجتمعين في البداية . صوت واحد ومضافة واحدة ثم دخل بينهم الشيطان وسرطان التحزب  فأصبح لكل ثلاثة أو أربعة مضيف ومقال !! في طريقنا الى البصرة بعد ان أُلقيَّ القبض علينا نحن المربوطين ببعضنا  ، الصمت تسحقه إطارات السيارة، الخيال حصان جامح . أرهقت جسدك الموجوع مباضع الأطباء وزرعت حياتك بعوق دائم وألم مقيم . أصبحت تمشي  مثل بطة عرجاء . الطريق  ترتفع أمامنا  ويمتد ليلامس قرن الكون . نغرق  في مطر بليد . الجب واسع وعميق فيه آذان طويلة مملوءة بالقطن وسحن تشبه ملامح العفاريت ، الموسيقا صاخبة  . يطفئ أضواء عينيك دبيب المخدر . تحولت الى فأر تجارب ، عشرون عملية جراحية  ولا زلت كما كنت  لم تقبض غير الوجع والتشوهات . البصرة غارقة في ظلام كئيب . المطر له طعم الزيغ . الحمام على سطوح البنايات يبكي بدمع أحمر . أمرونا أن نطأطئ رؤوسنا . في مديرية الأمن وجدناهم بانتظارنا . السلالم التي كنت تتلمس درجاتها وهم يسحبونك عليها كانت دبقة ، تتجه الى سراديب  تشعر ببرودتها . تسمع صرخات متعبة وكأنها صادرة عن أشخاص مخنوقين . أو في بئر عميقة . اين ستذهب الآن والقدر يحيط بك من كل زاوية . في غرفة قاتمة وباردة فتحوا عينيك . كنت كمن رُمِيَ من فوق ناطحة سحاب ممزقاً ومذهولاً . قال لك صاحب الصوت المرعب والأذن التي فيها قطنة :
-    اعترف
-    على أي شيئ
لم يمهلوك لتوضح لهم . وحين خارت قواك عانقك شبح له وجوه حمراء وأطراف رمادية كان يرتدي قبعة في أعلاها ريشة يخرج منها عمود مشقوق مثل الخنجر الذي تحول الى سيف فلق هامتك .
غربان وغيلان تجلس أمامك تضاجع  أمرأة قصيرة تحتها بركة من الدماء . رفعوك أشبه براية  وعلقوك على باب.!!

الفصل الخامس عشر

رفحاء الوجوه الحبيسة  والقلوب المسحوقة ، نزل عليها الفجر  كما ينزل المطر . بدأت المأساة تتكشف ، وأحس العالم بحجم الكارثة ، فأرسلت الدول الغربية وفودها  لأعادة توطيننا !! اليوم أحسستُ بالفقد.  ولدي :  لم يعد لنا وطن أو بيت!!  خسرنا  مسقط الرأس و ألأمل .  الأرض يا حسين هي الشرف وضياعها يعني ضياعه . كنا صغارا نلعبُ بين الطين والماء لعبة البيوت التي ندافع عنها  حتى النهاية . ونستريح تحت نخلة والزهو يركبنا لأننا تمكنا من الحفاظ عليها .  إعادة التوطين تعني أنهم سيلصقونك في مكان ما ،  ستكون أشبه برقعة بيضاء في ثوب أسود . لا يا حسين الموت أهون من الشعور بعدم الإنتماء . الخسارة كبيرة . ولكن هل ستبقى مسبياً هنا الى آخر العمر؟ . أذكر يوم  نقلونا  من سجن الأمن في البصرة الى أمن النجف حين أشتعلت حرب الصواريخ في قادسية صدام ! . حشرونا في سيارة لا نشم فيها الهواء .  كنا معصوبي العيون ومقيدين . الطريق طويلة ومتعبة . أنزولنا في مكان لا نعرفه وهم يهيلون علينا روث أفواههم ويضربوننا بالعصي  . قال أحدهم : لقد دمرنا عاصمتكم طهران بالصواريخ!  وضحك آخر معلقا : هه هه أرسلنا صاروخ الحسين للرضا حتى يرضيه !! ولما ردَّ عليهم  صديقنا ماجد : ولكن نحن عراقيين ! مالوا عليه وكأنه ألقى عليهم قنبلة . رفحاء أيتها المحطة التي نسلخ فيها وجدنا ونلقي أثوابنا و نخلع فوق صحرائها  ما يربطنا بالعراق. يا شاهدة موتنا . كيف تتصرف وليس لك خط للرجعة . كان عليك أن تستمر في التقدم والعثرات تقهر أقدامك . السقوط   يكبل خطواتك. بعد سنتين ذقت بها ما لا يطاق ، شددت الرحال باتجاه القطب الشمالي . حيث حل الثلج  مكان الأتربة . كان يتساقط بكثافة مثل رمال متطايرة  خلال ريح عاتية . سألتني إبنتي الصغيرة متعجبة : أهذا رمل أبيض يا أبي ؟ وهكذا  رفعت قلوع التغرب وأسرجت خيل الدموع  وبدأت تحلم بالعودة الى أرض خلعوا جذورك منها قسراً وزرعوا  في عيونك لهفة  عاصفة مثل  عواصف الرمل والثلج  إلى بلد الرافدين وأهله الطيّبين .

                    { انتهت}
1 مقطع من قصيدة في ديواني غابة الرحيل المطبوع في سوريا
2 مقطع من قصيدة في ديواني أقدام حافية تحت الطبع في العراق
3 الخرقية قرية في الهور قبالة قضاء الجبايش على الجانب الأخر من شط الفرات.
4 الفهود ناحية بين قضاء الجبايش والناصرية  على الطريق العام

 التعريف بالكاتب

                    بسم الله الرحمن الرحيم

سيرة شخصية

الشاعر والكاتب داود الحسيني
مخضتني أمّي (ويا ليتها لم تفعل) في سنة  1957 ، كان ذلك في قضاء الجبايش / محلة الشرقية ( المجري ). عشتُ طفولة أشبه بكابوس مرعب من المرض وضيق التنفس لم أتخلص منه  إلاّ وأنا ابن العشرين . درستُ في مدرسة الأسدية الإبتدائية فثانوية الجزائر في نفس القضاء . تخرجتُ من السادس ثانوي ( الفرع العلمي ) من إعداية الناصرية للبنين في الناصرية (1975- 1976 ) وحصلتُ على شهادة معهد المهن الصحية من البصرة(1978 ). سجنتُ في زمن الظلم والظلام  ونفيتُ بعدها إلى القطب الشمالي (فنلندا ) حيث البرد والتجمد والوحدة والغربة القاتلة عقابيل ثورة الحفاة  الجياع ( الإنتفاضة الشعبانية ) 1990 . درستُ في كلية الشريعة في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية نجحت بامتياز في المرحلة الأولى ولا زلت طالبا بعد توقف لظروف صحية ومالية ضاغطة. عدتُ بعد سقوط  النمر الذي كان من ورق في عام 2004  ولم أزل أسكن ذي قار الحضارة.
طبعت أول ديوان لي غابة الرحيل في سوريا .2001
رواية حلم العودة أو الهروب الى القفص تحت الطبع.
مخطوطات لثلاثة دواوين شعر  : ( أقدام حافية /ذكريات / آهِ .. كم كانت اللحظات مرايا ).
كتيب منشور في مواقع الإنترنيت بعد أيام من سقوط البعث : ( العراقي بين الإستلاب الفكري ومفهوم الحرية ) رددت به على الإعلام الذي صور الشعب العراقي عبارة عن مجموعات من الغوغاء وقطاع الطرق والحرامية ولاقى رواجا واستحسانا كبيرين من جمهور الأدباء في المهجر
آلاف من المقالات السياسية والأدبية والبحوث والتحليلات منشورة في الجرائد ومواقع الإنترنيت ومراسلات ومساجلات مع الكثير من أدبائنا وشعرائنا مثل البروفسور عبد الإله الصائغ الذي قدم لروايتي حلم العودة والدكتور هاشم العقابي والروائي حمزة الحسن والمرحوم كمال سبتي وغيرهم ... لا زلت أحتفظ بها في ارشيفي الخاص.
أحد المؤسسين الأوائل وعضو  البرلمان الثقافي في المهجر
قدمت في شهر كانون الثاني /  2011  لنيل شرف العضوية في الإتحاد العام لأدباء العراق .
حصلت على عضوية إتحاد الكتاب والأدباء في العراق في مايو 2011.

داود سلمان ابراهيم الحسيني
الناصرية المحروسة
 

Share |