دكتـــوراه ... وباقلا بالدهن-د . علي عبدالحمزه
Sat, 30 Jul 2011 الساعة : 14:33

لو خُلِيَتْ قُلِبت .. حال الدنيا يحتاج إلى كل الأختصاصات وإلى كل المواهب والمهن والقابليات والقدرات التي بتكاملها كحلقات متصله تدوم الحياة وتظهر بصورتها التي هي عليها ، ولكن تكامل هذه الحلقات لايمكن القبول به إلا عندما تكون كل قدرة وقابلية وإختصاص في مكانها المحدد واللائق لها عملاً بمبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب ، فالأستاذ الجامعي حامل الشهادة العليا مكانه اللائق والمنطقي هو الجامعه والمعهد والمركز البحثي ، والمدرس مكانه المدرسه ، والمهندس مكانه مواقع العمل المختلفة بأختلاف إختصاصات الهندسة ، والفلاح مزرعته وبستانه ، وبائع النفط وقناني الغاز عربانته ، أما بائع الباكله بالدهن فمكانه قدره وخبزه وبطنجه .. ولا عيب في ذلك طالما آمن الفرد بأن لكل فرد في المجتمع مكانه الذي يستحق إستناداً لقدراته وقابلياته ومؤهلاته ، وتستطيع أن تميز أي أحد من أصحاب المهن المذكورين أعلاه من خلال النظر إلى شكله وهندامه ، فمثلاً الأستاذ الجامعي تستطيع تمييزه من بدلته وأناقته وذقنه المحلوق ونظارة طبيه يضعها على عينيه بعد تعبهما لكثرة ما قرأ وتابع من أجل الحصول على شهادته ، كما تستطيع تمييز أي أحد آخر من خلال ما ينعكس على هندامه وشكله جراء إستخدام مستلزمات عمله .
وكل هذه المقاييس يتم إعتمادها في المجتمعات التي تؤمن حقاً بمبدأ العدالة في توزيع فرص الحياة والعمل ، وبأعتماد هذه المقاييس تصل المجتمعات إلى حالة من الراحة والأرتياح والموائمة ، إذ يكون من غير اللائق أن يحشر عامل النظافه وبائع الخضار نفسيهما ليكونا بموقع الأستاذ الجامعي الذي لايمكن له بأي حال من الأحوال أن يكون بمحلهما ، وإن حدث ذلك فهذا يعني حدوث الكارثة بعينها ، وهذا ما لم نراه ولم نره في أي مجتمع في الكون إلا وهذه أداة إستثناء ، أقول إلا في مجتمعنا نحن .. في العراق الذي فيه كل شئ إستثنائياً ، إذ إنقلبت الآيه وأصبح المجتمع يمشي بالمقلوب ، الرأس على الأرض (جوه) والأقدام أعلى (فوك) ولا أدري هل ينطبق على هذا الوصف البيت الشعري ..(ملأى السنابل تنحين تواضعاً ... والفارغاتُ رؤوسهن شَوامِخُ ) . وأصبح هذا المقياس هو المعمول به والمحترم والمبجل ، إذ يُلاقى الأحترام العالي والتقدير لأنه أصبح في مكان مرموق ،يستقل سيارة آخر موديل ويسكن القصور والفلل ذات الحدائق الملأى بالطواويس والنعام والأسود والنمور ، يحرسه الحشم والخدم وهو الذي كان يحلم بسيارة لادا قديمه أو خمسين متر ويحلم أن يرى يوم تركه لبس ملابس اللنكه (البالات) قريباً . ومثل هذا الحال وهذا الوصف موجود ومطبق وسائد في العراق .. العراق الحديث أو العراق الأميركي على حد وصف الأستاذ حسن العلوي ، فتجد بائع الخضار عضواً في مجلس محافظة أو وكيلاً لوزارة ، وترى سائق الكيا(الكوستر قديماً) الذي كان يحلم أن يلحقه أكثر من (دربين) على خط الحريه باب الشرقي تراه مديراً لمكتب وزير لوزارة مهمه وخطيره ، كما يمكنك أن ترى بائع الباقلا بالدهن (الصبح) والبوظه الدوندرمه (بعد الدوام) رئيساً مثلاً لمفوضية إنتخابات .. وكأن المجتمع العراقي فعلاً قد قُلِبت دنياه فخلا من الشهادات والكفاءات والأمكانيات والقيادات المهنية والأداريه لأن تتبوأ مراكزها التي تستحق ، فهل يُعقل مثلاً أن يكون رئيس أخطر وأهم مفوضيه في العراق من غير حملة الشهادات العليا أو ممن لا يمتلك خبره في هذا المجال وكأننا ليس لدينا كفاءات مذهله في وزارة التخطيط والجامعات أو كأننا لسنا في بلد إسمه العراق وإنما في بلد إسمه الصومال أو أي بلد يتمنى أن تكون لديه مدارس إبتدائيه . لقد خلا العراق من الكفاءات ذات الشهادات العليا في جميع الأختصاصات بحيث إضطر المسوؤلون أولو الأمر في العراق الحديث أن يستجلبوا من خارج العراق أناساً من أصحاب الخبرات الأخرى التي تشفع لها بالطبع صلة القربى والأنتماء القومي والمذهبي للأسف الشديد ليكونوا على رأس مراكز المسوؤلية والتأثير في المجتمع العراقي الجديد ، وما يؤكد ذلك هو إصرار مسوؤلي الدولة على العمل بوفق ذلك من خلال تعطيل الكثير من القرارات التي تخدم أصحاب الشهادات العليا والتي ستضعهم في أماكنهم التي يستحقونها ومن خلال تعطيل تشريع وإقامة مجلس الخدمة الذي بهيكليته المعلنه والمراد تشكيله على أساسها إنما يعكس صورة ناصعه ومريحه للنظر ومطمأنه للنفس على أننا نمشي في الطريق الصحيح ، ولكن وللأسف مازال هذا المجلس مجرد أفكار نظريه وأسماء مقترحه على ورق في أدراج مكاتب أولي الأمر منا بأنتظار المحاصصة المقيته والمحسوبية والمزايدات والمساومات المبنيه على ( مبدأ) ( شيلني وأشيلك )والتي ستأتي ببائع الخضار والدوندرمه والباقلا بالدهن وتاجر الخردة والألمنيوم أن يكونوا على رأس هيكل إداري من واجبه رسم سياسة البلد في تعيين أبناءه من الخريجين على وفق شهاداتهم وإختصاصاتهم .
ياحسرتي وألمي على العراق ..وحضارته الولاًدة .. لقد خلا من أبناءه الذين عانوا الأمرين وأكلوا الطحين المخلوط بنوى التمر والحصا والخنافس والذي ولد لهم أمراض القولون المستعصيه ،ليستعين بمن تسكع في نوادي وملاهي وبارات الغرب ليأتي به ويضعه مسوؤلاً ووزيراً ونائباً يُفترض أن يحس ويتألم لألم العراقيين ..ناسه وأهله .
لدينا من الكفاءات ما يُشار لها ويٌفتخر بها ولا داعي لذكر الأسماء ، فهل يعقل أن تُهمل وتُهمش ويكون غيرها مسوؤلاً عنها ، الشخص الذي لم يمتلك حصانه فكريه وإحترام لذاته والذي هو بهذا الوصف يسهل عليه التلاعب بحيثيات عمله ويسهل ضعفه أمام إغراءات الشيطان وأتباع الشيطان بأن يعمل مثلاً على تسليم مفاتيح خزائنه وشفرات بياناته لضعاف النفوس أصحاب النفوس السيئة النية ، فتتغير صور ونتائج عمل وسياسات وخطط تبعاً لذلك، ويعلوا الوضيع وينحط الكريم ويصبح مسار المجتمع بالمقلوب ،الرأس للأسفل والأرجل للأعلى وهذا مسار غير طبيعي إذ سيتعب الرأس وتتعب الأرجل ويصبح المجتمع صورة كاريكيتيريه يضحك عليه الآخرون ولا يتوقفوا من الضحك إلا بأعادة الصورة لوضعها الطبيعي ليصبح المسار ،مسار المجتمع متوازناً ومقبولاً ويصبح المجتمع متآلف ومتجانس يذهب فيه الأستاذ الجامعي بعد عناء محاضرة سهر عليها إلى مطعم الباقلا بالدهن ليتناول وجبة إفطار ربما تجعل جودتها من صاحب المطعم صديقاً حميماً للأستاذ صاحب الدكتوراه ، صداقةً بحدود تذكِر بالمقامات التي لا تسمح لصاحب المطعم أن يصبح أستاذاً محاضراً وخطيباً مفوهاً من على شاشات التلفاز والمحطات الفضائية . وأخيراً لا بد من الأستشهاد بالقول ( رَحِمَ اللهُ إمْرءاً عَرِفَ قَدْرَنَفسه) ... ولكم أن تتذكروا أغنية هذا آنه ... وهذاك إنته .. والسلام عليكم