ستانلي كونيتز شاعر أمريكا الأول بين العراق وامريكا - بهاء الدين الخاقاني

Tue, 26 Jul 2011 الساعة : 11:35

ملاحظة:( نشر المقال في ذكراه السنوية الاولى ويعاد الان لاهميته مع بعض الصياغة).
اخذتني الأيام وكنت أحاور معنى الشعر الغربي متمثلا في رجل منذ أكثر من عشرين سنة واِني في العشرينات من العمر واذ ياخذني هذا المشوار معه الى مرحلة المئة من عمره.
ان الموروث الشعري عندنا، والصياغات الجاهزة المعبأة للحداثة الشعرية، وللحداثة الثقافية عامة، على قدر كبير من الالتباس والفوضى والحاجة للمراجعة، أمر نُفاجأ به، ونستسلم عن قناعة له، كلما استغرقنا في قراءة شاعر عالمي واسع الشهرة.
الإنكليزية تزودنا بالمجموعات الشعرية الوافية، موضوعة أو مُترجمة، لأسماء من كل مكان، لأن هذه الأصوات الشعرية الغريبة لا تُعلن عن حداثتها بالصورة المتعالية بتشنّج، وفرادتها لا تنتسب للإعلان عن الأنا المتضخمة، بل تنتسب لرؤية جد خاصة للنفس والآخر والحياة، ولا تعلق مصيرها الإبداعي على مشجب أحداث التاريخ المحيطة، بل تسعى إلى الخيط الموصل بين الحدث وبين فرادة الوعي الشخصي له، وأيضا صلتها بقدرة تصوره الشعرية، وهي مشغولة بعالم الإنسان الداخلي اللامحدود، لا بأفكاره التي تتلوّن تلوّن المراحل.
أمضى كونيتز حياته في ابتداع لغة مجازية في وصف الطبيعة والزمن والجمال من اجل ذلك كله، إضافة الى الناس والأماكن والعلاقات والقضايا، وهو يصف اعماله:
(تأتي القصيدة على شكل بركة أو نعمة .. وقد وجدت على مر السنين أن هذه الموهبة الشعرية مساندة للحياة ومعززة لها ولا يمكن التنبؤ بها على الإطلاق .. فهل يعيش المرء .. إذن .. لغرض نظم الشعر؟ لا .. العكس هو الصحيح .. فالغرض من الشعر هو إثراء الحياة).
كنت أتعرف عليه في كل مرحلة أكثر فأكثر حتى بلغت معرفتي به بفضل الانترنت والبريد المتبادل ما بيننا، اِنه بات شاعر امريكا الأول ولكن بروحية الحرية الحقيقية وآلام ما بثه حول حوارنا عن العراق ليعبر لي:
(ان التاريخ يبكي على أبواب العراق .. فالعراق هو الفضل بعينه على الحضارة الانسانية ولابد من الفرات ان تنطلق منه جيوش الملائكة الاربعة المقيدين على نهر الفرات بعد تحررهم بارادة الهية كيما يهيئون لبعث ابن الانسان كما يرد في رؤيا يوحنا من الانجيل أوما يرد في نصوص التوراة..).
وبذلك نبهني الى التاريخ السماوي لأبحث فيه من أجل عراق السماء والأرض، وتواصلت النغمات الروحية بيننا وفرحت اِذ أجمع بين مفكرين وعباقرة في علاقتي بهم أمثال علي الوردي ودكتور حسين على محفوظ وروجيه غارودي وغيرهم وغيرهم، ومن ثم ستانلي كونيتز شاعر امريكا الاول، نعم اِني أتحدث اليوم عن هذا الشاعر .
قد يكون من الصعب وضع عنوان عريض يختصر جملة الأحداث الأدبية التي يشهدها العالم. هناك ظهور وأفول، فان السنين على صورة الحياة وسنّتها، من جهة كواكب تنطفئ تاركة إرثاً راسخاً في ميادين الخلق الأدبي المتنوعة، ومن جهة ثانية نجومٌ تعلن عن ولادتها وتحاول أن تجد لنفسها مكاناً في سماء لا تحتفظ الا بالتوهج وحده، بينما شُهبٌ تمر سريعاً من دون أن تترك ما يذكّر بها. عندما نجري نظرة بانورامية سريعة الى العصر من احتفالات ومئويات واصدارت وجوائز وترجمات وغياب أسماء وبروز أخرى، يخيّل إلينا ان العمر دوما هوفي الحراك الأدبي المتنوع، لكن ذلك لا يتعدى كونه جزءاً من حركية الحياة نفسها. يستمر الأدب بالوتيرة نفسها محاولاً، كما فعل على الدوام، خلق مساحة أخرى ممكنة للعيش في عالم يتخبط في رمال حروبه المتحركة وصراعاته المتنقلة، هي الحاصدة نفسها التي يتحدّث عنها دوما الفكر والأدب ومشاعر من مبدعين أكثرهم تمرداً، في خضم مسيرة حافلة بالمعارك الأدبية من كل نوع، وأعمال تغوص في استكشاف قوى الخير والشر في الانسان، مؤمنة ان مشكلة البشر الرئيسية ليست سوى الحياة. انه صراع الحزن والفرح، لينطفىء الواحد منهم تاركا شعراً يختصر تجربته مع الأمل واليأس، ويتدفق حيوية كأن الكلمات فيه أدوات مناعة مكتسبة، أو وسائل دفاع بدائية.
شهدت الولايات المتحدة خسارة ومعها العالم ، أحد أهم الروائيين وأكثرهم تمرداً، وليم ستايرون الذي رحل عن 81 عاماً بعد مسيرة حافلة بالمعارك الادبية من كل نوع، وخسرت الولايات المتحدة والعالم أحد الاصوات الشعرية الأهم التي تركت أثراً كبيراً في مسيرة تطوّر الشعر الاميركي المعاصر، الشاعرة الحداثية باربرا غيست التي رحلت عن ستة وثمانين عاماً و29 كتاباً في الشعر والسيرة والرواية والنقد الفني والمقالات، كذلك الشاعرة الأميركية توري دنت عن 47 عاماً، بعد صراع مع الأيدز دام سبعة عشر عاماً، فانطفأت تاركة شعراً يختصر تجربتها مع المرض، كما وصفه شاعرنا مورد البحث الاميركي الكبير ستانلي كونيتز. كونيتز نفسه الذي نال في 2000 لقب شاعر الولايات المتحدة، سرعان ما خطفه الموت عن عمر يقارب المئة، بعد مسيرة شعرية استمرت نحو ثلاثة أرباع قرن واثنتي عشرة مجموعة، وكان قد قال لي :
( ان روح الشباب هي التي تعني ان تبعث بابل من جديد .. وأن يكون لحضارة بغداد تلك السمة المعبر عنها .. اِنها الكائن البشري الذي تستمد منها الانسانية كيانها لأن الاسلام بمعنى السلام قد عبر الى الدنيا من خلالها وكانت بحق دار السلام وما قبلها أور .. ذي قار .. بلد ابراهيم وثم الكوفة عاصمة علي وان العراقي اليوم عَبَرَ عمر الشيخوخة .. يولد من جراح الثقافة ومن صلاة السماء .. كيما يولد شابا يحتضن الانقاذ السماوي للأرض( ... .
هكذا ردد عباراته وأنا اُحاوره عن العراق والانسان والاسلام والعرب، ليقول:
(ان الرافدين يعنيان لي الانسان نفسه وانها معبر الفردوس عندما يحكم ابن الانسان) .
فجادلته: (انه في قرأننا هو المهدي ) .
فرد: (نعم انه ابن الانسان .. نعم انه ابن الانسان .. عندما يكون العراق الانسان الحق في الارض .. وسيكون اليوم او غدا .. وهذا النزيف استدلال على كل ما ورد عن العراق وسيكون) .
وكانت كل همة هذا الشاعر الامريكي الكبير أن يهتم بالشباب وأن يؤسس مؤسسة لشعراء الشباب في العالم، فقد كان مربيّا قديرا ومصدر اِلهام وتأثير للأجيال، وكان له دورا تربويا تجاه الطلبة في الجامعات الامريكية المهمة، وذلك امتدادا للسبعينات من قرن العشرين، عندما كان الحَكمَ في مباراة الشعراء الشباب في جامعات امريكا المعروفة، ليذكرها لي بشعور حَكم مقتدرٍ، فعندما يحكِّم فانه يشعر بتجدد التجربة. وعندما قلت له:
: ان هناك منتدى لشعراء الشباب في العراق..
فلم يتعجب واردف قائلا:
:(كنت لأفرح اكثر لو قلت لي قد فتحت في العراق جامعة للشعر اليس بدر شاكر السياب منكم أو لم يكن المتنبي منكم بل اِنكم آباء الشعراء وأبناءهم..) .
وهممتُ أن تقام له محاضرة في منتدى أدباء الشباب آمذاك، ولم أفلح، ولكن حصل التحدي عندما طلب مني الدكتور عبد الأمير الورد من محادثة هذا الشاعر، وقد كان الأستاذ الورد يقيم دورة عن العروض الشعرية في المنتدى، وبعد رسالة استمرت أكثر من شهرين في الثمانينات، أرسل ستانلي كونتيز، هاتفه لنتصل به ويتكلم مع الأستاذ الورد وحضر بعض من الادباء الشباب ذلك الأتصال، وكان الشاعر الفلسطيني خالد مصطفى من الحاضرين أيضا ومن شعراء الشباب الأديبة اليوم لهيب عبد الخالق، وكان له وقع جميل على أهل الدورة والمنتدى وهو يبثهم أمله، من أنه يتمنى أن يكون العراق موقع مؤسسة شعر الشباب العالمي .
حظيت منه بدعوات عندما زرت بريطانيا في نيسان عام 1985م والثانية عندما زرت المغرب اذار في عام 1987م واُخرى عندما زرت الهند عام 1994م وأخرى عام 1999م في الاردن قبل عام من استقراري في سورية، ولم أفلح لاعتبارات كثيرة لامجال لذكرها ومنها مرضي .
أما عن كيفية تولد القصائد وانطلاقها، فقال كونيتز:
(أعتقد أن القصيدة تكون غارقة في أعماق الإنسان .. وهي مزيج من انطباعات اندمجت مع بعضها بعضا .. تكون في كثير من الأحيان انطباعات رئيسية من حياة إنسان ما .. وأعتقد أن هناك أحداثاً معينة في الحياة تشكل مجموعة متألقة وتلك هي البذرة التي تتولد منها القصيدة .. والقصائد حينما تواكب حادثة من الحاضر تلتصق بتلك الصور والانطباعات المترسخة في أعمق أعماق المرء .. وعندما يحدث ذلك يبدأ كل شيء بالانطلاق في الحال) .
لاحقاً، بعد حوالي ثلاثة عقود من الزمن، وبعد صدور مجموعة كونيتز المشهورة، عبور، وهو في التسعين من عمره، كتب الناقد دافيد باربر:
( واحدنا يشعر بحضور روح خبرت الزمن ولم تُقهر وهي تكتب بذهنية يقظة وقوة تماسك وبراعة .. فيما لاتزال منغمسة في حياة الحواسّ ومصرّة على البحث عن الماهيات المتملصة أبداً .. قصائد كونيتز تأملية حميمية البوح .. أسطورية وكئيبة .. واِذا كانت تمتلك النبرة الشمولية المترويّة التي تلائم معلماً مُسنّاً فإنها أيضاً لا تخلو من الهواء المتقدّ الفضولي لشخص تبدو طاقته على الإندهاش الطفولي العفوي غير قابلة للنفاد ..).
وهنا تكون الشيخوخة أبسط من الشباب، إذ أنها تنطوي على خيارات أقل، إلى هذا السبب عزا كونيتز، مسألة جنوحه نحو التبسيط والتقشف في العبارة في مجموعته الأخيرة، ففي النهاية، الخيار الوحيد المتبقي هو بين الحياة والموت. عن هذه المجموعة نال الجائزة الوطنية للكتاب عام 1995، بعد نيله جائزة بوليتزر لعام 1959 عن مجموعة، قصائد مختارة 1928-1958، والعديد مما قد لا يناله من الجوائز والتقديرات ومراتب الشرف والعضويات أي شاعر أميركي عظيم. غير أن أهم تكريم حازه كونيتز، كان منحه لقب شاعر الولايات المتحدة الأميركية في خريف عام 2000.
وكان بين فترة واخرى يخبرني بما ينال من جوائز وانه استلم عرش الشعر لامريكا ليكون شاعر امريكا الرسمي دون منافس، وفرح بها كأنه طفل يعبر عن براءة شيخوخة تتوق الى مولد جديد كيما يثري العالم ببسماته أو عويل بكاءه، وبالفعل شعرت عبر رسالته انه تدمع عينه وهو يتكلم عن الخمسينات من القرن العشرين عندما نال جائزة بوليتزر المهمة أو عندما نال جائزة الكتاب الوطني في العام 1995 . وليفرحني أكثر وهو يقول بصدد اِقامة اِرشيف في مكتبة الكونكرس الامريكي عن الشعر العراقي وأردف مؤكدا بعد فترة، وفي اِحدى المرات وهو يخصص احدى ندواته بعد اعتكافه في منتجعه المعروف في برفينستاون، عن الأدب والشعر في العراق وعن أسماء لشعراء شباب وآخرون كبار كان يعرفهم وقد كنت اُزوده بمعلومات عنهم وكانت الندوة مخصصة لشعراء الشباب الأمريكان الذين كان كثيرا ما يهتم بهم، ومن ثم خصص لأصدقاءه من الشعراء الكبار ندوة مماثلة وهو يطالبني بتزويده بما جدّ من الاسماء العراقيين والشعراء الفحول والشباب، لتتحول الندوة الى أكثر من ندوة أدبية فتاخذها الحوارات عن العراق وعن امريكا واهتماماتها في العراق وما أسماه بحروب الملعونة لأمريكا والذي عبر عنها بعبارة:
: (علّه روح العراق تكون سبب لطهارة الفكر السياسي الامريكي ) .
ويضيف في حديث إلى مجلة، شعر، الأمريكية:
(لقد كانت دائماً مشكلة هذا البلد .. امريكا .. أنه .. وتحديداً المؤسسة السياسية فيه .. لا يتقبل الروح الحر في الشعر وقدرته .. ليس فقط على نقد التجربة الإنسانية بل على نقد المجتمع أيضاً ).
ولتتكرر الندوة لأيام بعد ذلك بطلب من اُدباء مهمين في منتجعه، وليوضح لي برسالة:
:( كنت أحب أن أكون أكثر المحاورين كلاما ولكن العمر وصعوبة الحديث يجعلني متقطع الحديث ولكني كنتُ أعطى رؤس أقلام حول الشعر والشعراء مع الاتيان بملاحظة خطيرة ان الساحة الامريكية تفتقر الى ترجمات عربية للعراقيين واِن كلّ الاطلالات والمعرفة تأتي عن طريق علاقات شخصية).
فكان لبدر شاكر السياب مساحات واسعة في حوارنا ،وهو يذكر الجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد ليصف الأول عملاق المناسبات والقصور ويصف الثاني عبقري في الملحمات الشعرية، وبالأخص عندما زودته بنص الحر الرياحي فعلق عليه:
( انها مسرحية شعرية لمذبحة مقدسة وان الحال الحاضر مثال عراقي لتجدد الحر الرياحي في كل عراقي ) .
وكنت أيضا أعطيه أسماء أمثال مصطفى جمال الدين وجميل حيدر وصالح الظالمي، والياسين وغيرهم، وعلى رغم تكاليفها المالية الباهضة فقد ارسلت اليه موسوعة الأعلام لحميد المطبعي وموسوعة شعراء الغري ومن ثم موسوعة ما قيل في الحسين ع، حيث كان معجب به، وكل ما عرفته واطلعت عليه أيضا من شعراء الشباب دون استثناء وغيرهم، مما يمكنني أن أرسله له أو أترجم بصعوبة بعض مقاطعهم، لأنها كانت ترجمة شعرية أحاول فيها ان لاتكون حرفية بل لمعناها الشعري، وكم من مرة فشلت في اِيصال المعنى، ولكن يخبرني بعد ايام وهو قد جاء بترجمة مضبوطة للنص من خلال خبراء يكلفهم في ذلك، وبالأخص قصيدة بغداد للسيد مصطفى جمال الدين، بغداد قد اشتبكت عليك الاعصر، ليدهش من معناها وكذلك ما حدث عندما ارسلت له قصائد لوالدي ضياء الدين الخاقاني من ديوان ثورة الربيع وغيره، كقصيدته جميلة بوحيرد وقصيدة تسالني عن الحياة فكانت ترجمته بعد ايام، أضبط بكثير حتى ارسلت له مرثية، وداعا يا هادي، وهو ديوان لمجموعة من الشعراء الكبار العراقيين والعرب الصادر من، نادي الخاقاني، بمناسبة وفاة صديقهم وابن العم هادي سلمان الخاقاني في النجف الأشرف، فانبهر من هذه المناسبات لطريقة التأبين الأدبي لحادث موت يعتبر بسيط في عالم الغرب، وقد أعتبر قصيدة الوالد..
.. دعوني اصلي .. أهيء رحلي .. لأذبح بين ازدحام الحجيج فؤادي .. وذكرى ودادي..
مؤكدا انها اغنية الحزن الحقيقية فقلت له انه عمه، فاجاب:
( اِذن .. ماذا يفعل الأدباء اليوم أمام هذا الكم الهائل من الشهداء والأموات والحزن والماساة .. لانكم يمكن ان تنسجو ليس فقط حزن العراق بالشعر بل أن يكون شعراء العراق رسل الانسانية ما بين السماء والأرض الى البشرية بالتعبير الشعري الكوني ضد طغاة العالم .. ضد الجوع والالم والحاجة الانسانية وليس فقط العراق .. عليك يابهاء .. أن تعبِّر عن آلام عالمية في عباراتك واذا احتجت لأداة التوصيل لذلك ساساعدك في ذلك ما أمكنتني صحتي .. اِنكم تعيشون جدلية الموت والحياة ومنها تبرز الحكمة من الوجدان وتجربته .. فتتعرفون أكثر على الطبيعة وعلاقتها الذاتية مع ذات الانسان .. اِنكم تجربة آخطاء العالم وجوره .. ) .
منذ طفولته المبكرة عرف كونيتز، أنه يريد أن يكون شاعراً، ليس فقط من باب الولع بالشعراء الكلاسيكيين الذين قرأ أعمالهم في مكتبة زوج أمه، ومنهم على وجه الخصوص وليم بلايك الذي اقتبس من شعره في أولى مجموعاته الشعرية مطلع الثلاثينات من القرن الفائت، بل إدراك منه لتلك الصلة العميقة والعضوية بين الشعر والحياة. فالشعر، بالأحرى جوهره ومعناه، كما يعرّفه كونيتز:
: (هو تحويل الحياة أسطورة).
فإذا كانت الحياة قائمة على الفقدان والخسارة والضياع، يمكن الشعر باستمرار أن يكون نوعاً من خشبة خلاص حيال المجانية والعبثية الفائقة التي يمثّلها موت الكائن واندثاره، وهي فلسفة تشمل معنى الوجود نفسه. وفي معرض إجابته عن سؤال حول كيفية تمكّنه من الاحتفاظ عبر السنوات بذلك الحس المتيقّظ تجاه الشعر وأسئلته الكبرى، قال كونيتز:
:( لأني لم أجرؤ على النسيان .. أحسب أن من الجوهري للإنسان الذي يريد أن يستمر في العيش أن يبقى على صلة بالأمور الغنية في الحياة .. فالمرء لا يعيش في الراهن بل في التاريخ الكامل لكينونته منذ اللحظة التي يصبح فيها واعياً .. . (
الشعر يمثّل عملية بحث دائمة عن المعنى، عن معنى وجودنا على هذه الأرض، لكنه بالنسبة إلى كونيتز، يشكّل في ذاته هدفاً مستمراً للبحث:
: )قصائدنا لا يمكن أن ترضينا لأنها في أفضل أحوالها صدى مندثر لأغنية سمعناها مرة أو أثنتين خلال حياتنا كلها .. ونروح نحاول باستمرار تذكّرها واستحضارها .. ).
ليس غريباً والحال هذه أن يكون كونيتز، كمالياً في شعره، وهذا ما تجسّد من ناحية إقلالاً نسبياً في إنتاج الشعر، فقد أصدر خلال ثمانين عاماً من الكتابة عشر مجموعات شعرية، كما أنه انتظر( 15 ) عاماً ليصدر مجموعته الشعرية الثانية، ومن ناحية أخرى عنايته الفائقة باللغة الشعرية، فمفهومه للشعر يتعدّى ذلك إلى دور الشعر في المجتمع وفي الزمن والتاريخ، وهو يدين بالفضل في ذلك إلى وولت ويتمان، الذي كان باعتقاده كما اورد في مجلة الشعر المرموقة:
: ( أول من أدرك أننا نفتقد كأمة خرافة تأسيس عظمى.. أي الديموقراطية .. لقد كانت دائماً مشكلة هذا البلد أنه وتحديداً المؤسسة السياسية فيه .. لا يتقبل الروح الحر في الشعر وقدرته .. ليس فقط على نقد التجربة الإنسانية بل على نقد المجتمع أيضاً ) .
لا يعني ذلك أن كونيتز كتب شعراً سياسياً بالمعنى المباشر، أو سعى إلى ذلك، بل شغله كان باستمرار أن يتمكّن الشعر من أن يكون شاهداً صادقاً على زمنه والبيئة التي خرج منها، فيذكر مثلاً أن أحد التمارين الشعرية التي كان يمارسها مع صديقه الأقرب الشاعر ثيودور روثكه، هو قول مقطع من قصيدة لأحد الشعراء الكلاسيكيين، ومحاولة تحديد الزمن، الشهر والسنة، الذي كتبت فيه القصيدة، بناء على مناخاتها ولغتها.
اللغة الشعرية في هذا المعنى لصيقة زمنها، ولعل هذا ما دفع كونيتز، إلى الانتقال، ابتداء من مجموعته الثانية، جواز سفر إلى الحرب1945، إلى التخلّي عن قواعد الوزن والقافية، اللذان التزمهما بشكل صارم في مجموعته الأولى، أمور ثقافية، نحو لغة أكثر حرية وانفتاحاً وحتى تجريباً في كثير من الأحيان. لا ريب أن التحوّل الذي طرأ على كتابة كونيتز هو انعكاس لما طرأ من تغيرات ومستجدات على طبيعة شخصيته وعلاقته بالحياة والأشياء من حوله. وفي حين تغيّر أسلوبه، فإن ثيماته الأساسية ظلّت على حالها، وأبرزها جدلية الحياة والموت والتي كان يُعاينها ليس فقط على مستوى تجربته الوجدانية، بل أيضاً في وجدان الطبيعة من حوله. المعروف أنه كان شغوفاً بالعناية بحديقته، يعيش موتها وقيامتها في حديقة الروح، وكان يواصل بمتعة إعادة توليف أزهارها على غرار ما ظلّ يفعله بمفردات قصائده. إلى هذه الثيمة، شغلته موضوعات أخرى، منها فداحة خطايا العالم وجور الزمن، الولادة من جديد، والإنحدار إلى العالم السفلي، وهذا ما كان يشغله في حوارنا عن كلكامش، بين رؤيته:
:( امر كلكامش كان انحدارا ..).
وبين تأكيدي:
: ( كلكامش كان سفرا من أجل اكتشاف المجاهيل وهوانعكاس للطبيعة البشرية وفضولها للسعي الى الخلود او الموت بعزة ..).
وهذا ما ربط حديثنا بالنبي الخضر وقصته مع موسى عليهما السلام، فاندهش من هذه المعومة، وموضوعة ماء الحياة و ليؤكد :
:( نحتاج الى أكثر من زمن للبشرية كيما ندرك حضارتكم .. ).
فاكدت له :
: ( ان ما تنتجه وانتجته حضارتنا ليس ملكا خاصا بل هو للبشرية جمعاء منذ آدم مرورا بابراهيم وعيسى انتهاء بمحمد والى اليوم .. ) .
ليلفت نظري لملاحظة :
: ( رغم الماسي والاندحارات تتسيدون عرش الامل ..).
لم أرغب أن اُجادله في عبارته الذهبية هذه لأنها أشبعت حاجتي النفسية.
اللافت للبحث أنّه في السبعينات، زمن العقلانية والمادية والواقعية، بدا تركيز كونيتز، على موضوع سبر الذات أو الزمن أو التحوّل أو القدر، سباحة عكس التيار. وفي هذا الاتجاه، رأى النقاد كثيراً من الشجاعة التي أفلحت في خلق شعر استثنائي العمق والقوة.
طالما كان كونتيز، يتكلم عن موت الشعراء والمبدعين في سن مبكر، مؤشرا لدراسة اِمريكية بهذا الخصوص، وكنت أسعى للحصول عليها بحكم تعليقه عليها، من انه تجاوز سن الشباب منذ انظلاق الدراسة هذه في السبعينات، متسائلا:
:( هل تشمله الدراسة من ناحية كون عقله ينتمي الى جيل الشباب ابداعا وحزنا واملا ؟ .ز).
حتى بالفعل حصلت على الدراسة، وهي في جوانب منها خصوصية امريكية من ناحية موت الشعراء في سن مبكر، بينما تقام أعراس الشعر في المراكز الثقافية، بما فيها بيوت ومقاهي الشعراء والمسارح الصغيرة، ليس في نيويورك وحدها، ولكن في أنحاء الولايات المتحدة، احتفالاً بالشهر القومي للشعر، شهر أبريل، أقسى شهور السنة، كما وصفه ت.س. إليوت، وربما احتفاء بتيمة الموت الأثيرة لعدد غير قليل من الشعراء، أصدر جيمي س. كوفمان، مدير معهد بحوث التعليم بولاية كاليفورنيا، في سان برناردينو، دراسة ركزت على ظاهرة موت الشعراء في سن مبكرة، وقد تناولت الدراسة التى صدرت عام 1987م كتابا بارزين راحلين، وسجلت متوسط الأعمار عند وفاة الروائيين والشعراء وكتاب المسرح والمؤلفين الآخرين، ذكوراً وإناثاً، من بينهم كتاب من انحاء العالم المختلفة، الى جانب كتاب وشعراء أميركيين. وتفيد الدراسة بأن متوسط عمر الشعراء كان 62.2 سنة، بالمقارنة بالكتاب غير الروائيين، الذين عاشوا حياة أطول 67.9 سنة. بينما بلغ متوسط عمرالكتاب المسرحيين 63.4 ، والروائيين 66 سنة. وقد تأكدت الفروق بين الشعر والنثر وسط الأميركيين، حيث عاش الشعراء في المتوسط 66.2 سنة، وعاش الكتاب غير الروائيين 72.7 سنة. ومن هذه الملاحظة التى اكدتها لشاعرنا مورد البحث:
:( ان هذا المتوسط من العمر نعتبره عربيا مرحلة الدخول الى الشيخوخة..).
فاندهش من الملاحظة، مرددا:
:( اذا متى ستعيشون .. وكيف ؟ .. ) .
ويقول كوفمان، في دراسته:
:( إن صورة الكاتب كشخصية ابتليت بالشقاء وفي بعض الأحيان تراجيدية قدر لها الموت مبكراً .. يمكن أن يؤكدها البحث ..).
وقد استمد الباحث بياناته عن الكتاب والشعراء من كتب السير الذاتية، والموسوعات الأدبية التي يرجع بعضها الى سنة 390، بالنسبة للكتاب الأوروبيين الشرقيين. بينما ينتمي معظم الأميركيين الى القرنين التاسع عشر والعشرين. وفيما يتعلق باختيار هذا الموضوع، يقول كوفمان:
:( إنه أراد أن يعرف ما الذي يجعل الشعراء يختلفون عن غيرهم من الكتاب .. هل هي زيادة الأعباء المالية؟ ضعف التقريظ المجتمعي؟ زيادة التوتر؟ ..
كما تساءل:
:( عما إذا كانت تلك الفروق مستقلة عن الثقافة؟ ..).
وفي مقابلة مع فيليشيا ر. لي، يقول:
)إنها مجموعة كاملة من الأسباب .. إذا تأمل الإنسان أكثر زاد احتمال إصابته بالاكتئاب.. والشعراء يتأملون .. والشعراء ينضجون في سن مبكرة .. وهم يكتبون على انفراد وحدهم ..).
واستناداً الى تحليله لدراسات الإبداعية ومعدلات الموت، ربما نستنتج إن معدل الموت في سن مبكرة بين الشعراء ربما كانت له علاقة بطبيعة الإبداع الشعري في حد ذاته. وقد وجد الباحثون أن التواجد في حقل عاطفي ذاتي فهو يرتبط بالاضطراب العقلي. وبالمقارنة بالقصص واللا قصص، يميل الشعر في الغالب بدرجة أكبر الى الاستبطان والتعبيرية. وقد أدى هذا الى استنتاج أن معدلات موت الشعراء الأكثر إرتفاعاً ربما كانت لها علاقة بزيادة معدلات إصاباتهم بأمراض عقلية.
ويتناول البحث، في جانب كبير منه، معدلات الموت بين مهن مختلفة الى جانب الصلات بين القدرة الإبداعية والاضطراب العقلي. ومن أبرز الباحثين في هذا المجال أرنولد لودويج، بروفسور تحليل سيكلوجي متقاعد بجامعة كنتاكي، المركز الطبي في لكسينكتول، وفي كتابه الصادر في 1995 ثمن العظمة: (حل الجدل حول القدرة الإبداعية والجنون ) .
درس الدكتور لودويج مسار حياة أكثر من ألف شخصية بارزة في ثماني مهن تتعلق بالفنون الإبداعية وعشر مهن أخرى. وقد استنتج:
:( أن الإضطرابات النفسية كانت أكثر شيوعاً بين الفنانين..).
وقد وجد لودويج أن نحو 20 في المئة، من الشعراء المرموقين قد انتحروا، بالقياس الى معدل الانتحار 4 في المئة، لجميع المهن التي تناولها بحثه. بينما يبلغ معدل الانتحار لسكان الولايات المتحدة بصورة عامة 1 في المئة، تقريباً. ويشير الدكتور لودويج، في مقابلة مع فيليشيا لي، كاتبة هذا التحقيق مع اضافات حول كوفمان:
:( أن هذا الموضوع المعقد قد بحث منذ القرن الخامس قبل الميلاد .. أن استنتاجات كوفمان تؤكد الى حد كبير بعض الاستنتاجات التي توصل اليها نفسه .. فقد ذكر في دراسته، على سبيل المثال .. أن متوسط عمر الشعراء 59.6 سنة بالقياس الى 73.5 سنة للعلماء الاجتماعيين .. وأن متوسط عمر الكتاب غير القصصيين 70.6 سنة .. بالقياس الى الفنانين الموسيقيين الذين بلغ متوسط عمرهم 57.2 سنة .. وقد قارنت دراسات أخرى الكتاب بشكل عام بالمهن الأخرى .. بما فيها المهن المتعلقة بالفنون .. ولم تحمل أي من هذه الدراسات أنباء طيبة للكتاب ..).
ويقول دين كيث سيمونتون، أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا، :
:( إن دراسة كوفمان تضيف مستجدات البحث وهي واحدة من أضخم العينات التي رأيتها على الإطلاق .. أن نظرة كوفمان الى الاختلافات الجنسانية في أعمار الكتاب مثيرة للاهتمام لأنها أوحت فيما يتعلق بالشعراء .. بوجود فجوة أصغر في متوسط سن الوفاة بين الرجال والنساء منها في متوسط عمر السكان بشكل عام .. والملاحظة المستنتجة هي أن الشاعرات يعشن على الأرجح حياة أقصر ..).
وفي 1975، نشر البروفسور دين سيمونتون دراسة عن 420 كاتباً هاماً، فبين :
:( أن الشعراء يموتون في المتوسط قبل الكتاب المبدعين الآخرين بست سنوات.. وأن هذا الاختلاف أو الفارق ثبت عبر التاريخ القديم مقابل الأزمنة الحديثة وعبر الحضارات الشرقية والعربية مقابل الغربية .. ان ارتفاع معدل الإصابة بأمراض ما بين الشعراء ومعظمها أمراض تتعلق بالميل الى إيذاء الذات.. مثل إدمان الكحوليات وإساءة استخدام المخدرات والاكتئاب والانتحار .. أعتقد .. أن الشعراء ربما يستعملون الشعر كشكل من أشكال العلاج الذاتي لمشاكلهم وأن الأمراض تختصر سن الوفاة .. أن المرء يحتاج لكي يصبح شاعراً الى بذل جهود أكثر مما تتطلبه أي مهنة أخرى مما يؤدي الى مشاكل مثل الاكتئاب وإدمان الكحوليات ..).
وإذا كان بعض الباحثين الآخرين يتفقون في تحليلهم مع استنتاجات كوفمان، فهناك شعراء أحياء تجاهر حقيقة وجودهم، بل ونشاطهم الملحوظ والمثير للإعجاب، مثل الشاعر ستانلي كونيتز، الذي اقترب عمره من المئة، بأن لكل قاعدة استثناء، هكذا ورد عن شاعرنا مورد البحث.
وتقول ماكسين كومين 79 سنة، والشاعرة المتوجة السابقة لولاية نيوهامبشير :
:( إن معدل الانتحار بين الشعراء لا يقارب من حيث الارتفاع معدل الانتحار بين أطباء الأسنان .. ) .
وفي إشارة الى سنها تقول كومين :
:( حسناً إنني لا أعاني من الاكتئاب.. إنني أعيش وحيدة نسبياً.. لقد كنت في الثلاثين من عمري عندما بدأت أكتب الشعر لذا لا أعتقد أني نضجت في سن مبكرة .. هذا افتتان كئيب وافتتان شبقي بموت الشعراء المبكر.. أعتقد أني لا أصلح لهذا القالب.. ) .
أما الشاعر فرانز رايت، الذي فاز بجائزة بوليتزر للشعر ، والذي عانى وكافح الاكتئاب المرضي الجنوني، وإدمان الكحول والمخدرات، فقد أعد بياناً كرد فعل لدراسة كوفمان، بعد أن أكد أنه فكر ملياً في هذا الأمر:
:(حيث إنك في الولايات المتحدة كلما كانت كتابتك سيئة كلما زادت احتمالات بقائك على قيد الحياة .. فالمنطقي أن الشعراء يمكن أن يكونوا أصغر مَن يموتون .. وربما كانوا أكثر لذة وطراوة من الكتاب الآخرين.. إنني أعرف كثيراً من الشعراء الذين عاشوا حياة عادية ومنتجة .. إنه شيء مهين .. فالشعراء يعانون والكتاب يعانون .. وثقافتنا لا تقدِّر الشعر وهي تصيب الشعراء بالجنون .. لكن ينبغي على المرء أن يخاطر .. ) .
ويتفق هذا التحليل مع رأي البروفسور مايكل مارموت، أستاذ علم الأوبئة والصحة العامة بجامعة لندن، الذي يقول:
:( إن الوضع الاجتماعي الأعلى يرتبط بحالة صحية أفضل وحياة أطول..).
ويعتقد الشاعر كريستيان وايمان:
:( أن الشعراء، لكي يواصلوا العيش ينبغي أن يضعوا أنفسهم خارج الثقافة وهي عملية تقتضي ثمناً ..).
ويذكر أن وايمان هو أيضاً رئيس تحرير مجلة شعر، إحدى أهم الدوريات الشعرية في الولايات المتحدة، وهي تصدر في شيكاغو عن مؤسسة شعر، التي كانت حديث الساعة بعد حصولها على هدية قدرها 100 مليون دولار من روث ليلي، وريثة إحدى أكبر شركات الأدوية في الولايات المتحدة. ويعتقد وايمان:
:( أن الشعر يتسم بإلحاحية سيكلوجية أكبر بكثير من أشكال الكتابة الأخرى.. فإذا كنت كاتباً نثرياً سوف يكون لديك دائماً شيء تعمله .. أما إذا كنت شاعراً لن يكون للإرادة دور كبير.. فأنت تواجه قدراً كبيراً من الوقت الميت الذي لا تستطيع أن تملأه بأشياء أخرى.. (.
ويصدق هذا الرأي على قول كوفمان:
:( إن الشعراء ربما كانوا أكثر وحدانية .. وكتاب المسرح والكتاب غير القصصيين لديهم حيوية عمل اجتماعي أكثر..).
وقد استشهد كوفمان بقول و.ب. ييتس إن :
:(ربة الإلهام تهب الإلهام الى أولئك الذين تضطهدهم ويموت الشعراء بها في ميعة الشباب .. ) .
وفي القرن الرابع قبل الميلاد سئل أرسطو :
:( لماذا كل الرجال الذين يتفوقون في الفلسفة والشعر والفنون يصابون بالسوداوية؟..) .
وبالرغم من بحثه، كتب جيمس كوفمان يقول إنه مع ذلك، لا يعتقد :
:( أن الشعراء الطامحين ينبغي أن يقلقوا .. إن حقيقة أن سيلفيا بلاث أو آن سكستون قد تموت في شبابها.. لا تعني بالضرورة أن تقديم حصة مدرسية عن الشعر ينبغي أن يتضمن تحذيراً أن القصائد يمكن أن تشكل خطراً على الصحة .. والمثل على ذلك ستانلي كونيتز الذي اقترب عمره من المئة..) .
ومثل ذلك كان يمتد بنا الحوار البريدي الى اعماق نهج البلاغة والقران والاحاديث وشخصية النبي (ص) والتاريخ، على رغم ما كان يعبر عن التاريخ برفض فكرة وجوده قائلا :
( لااعترف به ولأنه دوما يختم المراحل بفاجعة فيقال انتهى العصر الفلاني او مات الانسان الفلاني لتنتهي مرحلة برحيله انه تاريخ الأموات وليس الأحياء .. ) .
وكان لموضوع الحسين الشهداء عليه السلام، استثناءه في الطرح وهو يطلب المزيد من الاشعار عنه وقد اعددت له ملفا كاملا لأفضل الشعراء المعاصرين كما رغب بذلك، ومنها قصيدة بدر شاكر السياب والجواهري وعبدالرزاق عبد الواحد ومظفر النواب ووالدي ليعبر عن ذلك:
( ان الشعر ليسمو عندما تكتبون الرثاء وهو أحسن اشعاركم.. أشعر تكتبونه بلسان الوحي وليس باللغة الانسانية المجردة ليبتعد عن المجاملة لما يبعث من شعور الصدق فيه .. وأعجب من ذلك تلك الاسطورة الالهية المتمثلة في حزن تاريخي على العقيدة المتمثلة بالحسين عندما أشعر بالشاعر تلميذا يتعلم الايمان أمام استاذ يعبر التاريخ والشعر وهو الحسين .. ولهذا الحزن سوف لايموت العراق وان حضاراتكم ارتقت عندما يبلغ بكم الحزن مبلغه فتكون حضارتكم عالمية .. ولكن ما ان تفرحو انتم العراقيون حتى تنهار حضارتكم لانه ينتابكم الخمر والسكر والضياع .. ) .
فقلت له: ( تقصد المبدأ؟ ..) .
فرد : (ربما عنيت ذلك ولكن لا اُحدده بذاته ولكن لليقين أقرب ..) .
وأدهش ما عبر عنه عندما أرسلت له نصوص من أدعية النبي والائمة وبالأخص رسال الحقوق لزين العابدين عليه السلام، فعبر:
:(وكأنها لغة اخرى للسماء شعرا وادبا وعلما ..) .
وكان خص لدعاء عرفة للامام الحسين (ع) أثره عليه، فقال :
:( ان الحسين يعلم البشرية الكلام مع الرب.. إذا كان صحيحاً ان الفكر يولد أو يتجدد فان الماساة مادته الأولى وهكذا كانت ملحمة كلكامش .. وان في قصة نهج البلاغة بلاغة المأساة .. ومأساة الحسين دليلها .. ولهذا يحتاج العراق الى قرون كي يستوعب هذه العبقرية البلاغية التى تتجاوز الشعر كيما يتم التعبير عن الانسانية فيها والعدالة التى حرمت منها الأرض .. ولهذا فمأسي مثل هذه الحروب اذكاء لذاكرة الشعر والبلاغة التى لم يستوعبها الأوائل مثلما لم يتم استيعاب كلّ حدث لانسانية الأرض في كلّ مراحل نزول الأديان والبشرية ولذلك تكرر الأنبياء وتواصلت الرسالات كي يدرك الانسان ان وعيه لا يقصر تجاه انسانيته .. ان ما أراه .. ان المأساة تخيم على مدركات العرب والعراقيين في كل بلاغتهم فلابد ان لا يتاخر الوعي من الحضور الانساني لديهم .. فأنتم الأوائل في طرح الرسالة لكل ما يمت للسماء والأرض من استفهام ومثل ذلك الموت والحياة .. ) .
وكنت، ما ان أبث له ألماً عراقيا حتى يأتي الرد:
:( ان شيخوخة الحضارات لاتعني فناءها .. انها فرصة للأجيال كيما يعالج غير الانساني فيها الذي كان سببا في انهيارها او شيخوختها وكي تبعث من جديد وهذا ما سيحصل للعرب وللعراق بالتحديد .. ان الجراح والنزيف لايعنى ان عزرائيل وهو ملك الموت سيفني الشعب انه يؤدي واجبه الاعتيادي ولكن يعلّم حكمة .. من انها هناك ولادة ولا معنى للانسان ان يكون الموت بالمرصاد له فعليه ان يؤمن .. بما انه سيموت وان موته جزء من حياته مثل ولادته كي يعيش شبابا ومثل ذلك الحضارات .. ان بلوغ الفكر قمته يحفز البشرية ان تنتظر اخطار الغرور وهذا هو ترقب الحكماء وانها حكمة .. اذا ما ادرك الانسان مثل العراقي الذي يمتلك كل هذه الحضارات منذ عشرة الاف سنة من ان عليه ان لايموت .. انه لابد من ان يترقب قلبا حاول ان يعشق كلما ورد من جمال في الارض ..) .
فقلت له: (ذلك هو جمال السماء .. ).
فرد: (ان شعرت بذلك فهذا يعني انه لابد ان تسعى له بالأخص اذا عشقت امرأة وحرمت منها مثلما تحرم من وطنك فتسمى غريبا ..) .
فقلت له:( انه شعور متشابه ..)
فقال: (هذه هي الانسانية وعليها ان تنزف من الطغاة كيما تشعر بها وهذا يحدث لكم .. أي العراق ... فعليك ان تعشق وتترقب ضياء يحملك الى أمل من الاكتشاف .. وانه لابد من التفكير في كل ألم أو سعادة فدون تفكير يكون لكل منهما مأساته .. ).
كان يرسل لي أحيانا أهم ما يصرح به، وبالأخص بعد توفر الانترنت وسرعة الاتصال عن طريق مترجمه أحيانا، او كنت أترجم المقاطع الامريكية عبر القاموس ان صعب الأمر، ليعلمني طريقة بترجمة النصوص عبر القاموس استفدت منها كثيرا في ترجمة النص ومعناه وهي طريقة بسيطة نفعتني بالاطلاع على نصوص غير انكليزية أترجم من لغاتها الى العربية .
لأعود فأقول، إذا كان صحيحاً أن الشعر يولد في الدرجة الأولى من المأساة، فإن هذا ينطبق بصورة خاصة على كونيتز، فرغم أنه احتاج إلى نحو نصف قرن ليتمكّن من التعبير شعراً عن المأساة الكبرى في حياته، وهي انتحار أبيه قبل ولادته، فإن هذه المأساة خيّمت بقوة على وعيه الإنساني والشعري على حدّ سواء، وقادته مبكراً إلى طرح الأسئلة العميقة عن الحياة والموت، ومكان الشعر فيهما أو في السعي الدائم لإدراكهما. يمكن القول إذاً إن الجزء الأهم من نتاج كونيتز الشعري الضخم قائم على هذه المعادلة، على البحث المستمر عن معنى ما، وعن طريقة ما لقول هذا المعنى، على ما عبّر كونيتز نفسه ذات مرة:
:( أجدني عالقاً في ذلك الازدحام الخطر بين الذات والعالم ..) .
رؤية فلسفية لطالما وسمت وعي كونيتز، وشعره، فلم يكن انتحار الأب وحده المأساة، بل الطريقة التي تعاملت بها أمه مع هذا الانتحار، وهو ما صوّره بدقة في قصيدته الشهيرة، الصورة. فقبل أسبوعين من ولادته أقدم الأب على الانتحار بتجرّع مواد سامة في حديقة عامة، الأمر الذي لم تسامحه عليه الأم، اللاجئة الليتوانية يتا جاسبون كونيتز، فأزالت من البيت كل ما يذكّر به، بما في ذلك صوره. وحين بلغ ستانلي الثامنة عثر صدفة على إحدى صور أبيه، وكانت تلك المرة الأولى يرى شكله فيها، غير أن الأم فاجأته حاملاً الصورة فمزّقتها وصفعت الفتى بقوة. كانت رحلة البحث عن أب، وإن لم تكن واضحة في رأس ستانلي الفتى وقتذاك، هي التي قادت الشاعر إلى الصورة الفوتوغرافية، غير أنها استمرّت معه طوال أعوام حياته. فكان شعره في ما يتعلّق بهذه الناحية بالتحديد، محاولة مستمرة لبعث هذا الأب :
: (صرخت.. عد يا أبي.. أنت تعرف الطريق..).
يقول في قصيدة، الأب والإبن ، وإقامة صلة ما معه، خصوصاً أن تجربة الفقدان لدى ستانلي، لم تقف عند هذا الحدّ، فبعد انتحار الأب تمكّنت الأم من الإمساك بزمام حياتها من جديد، وتزوجت مرة أخرى من مارك داين، وهو رجل واسع الثقافة أثّر كثيراً في وعي ستانلي المبكر، غير أن هذا الأب البديل، الذي :
:(ربطتني به وشائج وثيقة وكان يمتلك حساً عميقاً باحتياجاتي العاطفية ..).
على ما يقول ستانلي، توفي هذا الاب الآخر، بعد سنوات قليلة بذبحة قلبية، ليتكرس بذلك مفهوم الأب الضائع أو المفتقد في حياة كونيتز، الشخصية كما في شعره.
كانت بداية كونيتز، كشاعر في منتهى التواضع.، وكان يستمتع طوال حياته بتذكّر القاموس الكبير غير المختصر الذي كان جزءا من مكتبة عائلته حينما كان طفلا، وكان يفتح القاموس حتى يعثر على كلمة يكاد لفظها يكون مستحيلاً ولكنها تجذب اهتمامه، فيسرع إلى الحقول المحيطة بمنزل عائلته متفوهاً بتلك الكلمات بأعلى صوته، وقد قال ذات مرة:
:(بدأت أستوعب هذه الكلمات في القصائد وبيوت الشعر.. لكن المؤكد هو أنني كنت أعتقد في البداية أن هناك متعة كبيرة في اللعب بالكلمات واللغة إلى حد أنني لم أكن أستطيع التفكير بالعيش بدونه ..) .
وقد استمر كونيتز، في الكتابة على مر السنين، ولكن ذلك لم يكن دون فترات توقف، بل بعد فترات طويلة قال انه:
:( كان يقضيها بالقراءة والاستغراق في التفكير والتأمل..).
بدأ مشواره الشعري في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، إلاّ أنه على مدى ثلاثة أرباع القرن لم ينشر في الشعر سوى إثنتي عشرة مجموعة، إذ لم تكن تهمه الغزارة بقدر الجدارة، وكان صرّح بأنه :
: (لم يكن ليرغب في كتابة أي قصيدة ما لم يتوافر لديه النبض الملّح والشعور الباطن بأن قصيدته غاية في الأهمية..).
وعليه، فإن حاله في النشر لم تكن أقلّ حذراً وتأنياً وخضوعاً للنقد الذاتي، وهو لهذا الأمر تحديداً، يعزو مسألة استمراره في الكتابة الشعرية حتى آخر حياته، فهو لم يقترف العاصفة كي يجني لاحقاً، ما يليها من هدوء مرعب، لكأنه فضّل أن يُشارك في سباق وحيد على مدى حياته، لأن العبرة له كانت في مواصلة السير، لا الوصول.
ما كتبه في العقود الأخيرة من عمره، يُوحي أنه كان ادّخر ربيعه من الشعر إلى خريفه من العمر. ميزته أن شعره لم يهرم معه، بل ظلّ يشحذ روحه، وروحه تشحذه، بالحلم والسؤال والشغف والهوى والدهشة، وملكات أبقته في الشِعْر والجَلَد في زهوة الشباب، حتى بعدما شاب شَعره، وتغضّن جِلده.
وعندما سئل قبل سنوات عن فكرة الكتابة الشعرية، قال:
:( انه يفكر في قصيدة الوداع..).
ولكن بعد ذلك بسنوات وفي أمل متجدد، كما أرسل النص لي لمقابلة له أخرى ليؤكد:
:( إنه لا يزال يفكّر في كتابة الشعر.. الهبة العظمى بالنسبة إليّ .. ).
وكان باعتراف الوسط الأدبي من أهم الشعراء الأميركيين في القرن العشرين والى يومنا هذا، وفي الخامسة والتسعين من عمره عام 2000م ، قرر وبعد جدل طويل رسمي وسياسي وثقافي امريكي، أن يقبل منصب الشاعر الرسمي للولايات المتحدة الامريكية والى يومنا هذا، وان يتثبت رسميا في مكتبة الكونغرس، كما تعين فيها على طول السنوات منذ السبعينات، ليكون الشاعر الرسمي للولايات المتحدة، وليؤكد لصحيفة نيويورك تايمز بهذه المناسبة:
:( أشعر أن أفضل خدمة يمكنني أن أؤديها هي مواصلة نظم الشعر..).
وقد سألته: ( كيف تعطى مثل هذه المناصب وانت ترفضها .. فكيف ذلك وانت لديك مواقف معروفة ضد السياسة الامريكية والحروب؟..).
فرد: ( أعتقد ان ذلك يبقيني على أمل بامريكا دوما رغم سياساتها.. ان السياسة لاتعنى الثقافة الانسانية لمفردها ولابد للانسانية ان تفوز.. ) .
وهو ينوه لجرف الحياة والموت مع ادراك عميق ان الدنيا تحتاج لمعنى الوداع في يوم ما، ولهذا تلاشت لديه المأساة بعد حادثة انتحار والده وتحول والدته الى كيان من الانتقام لاية ذكرى لذلك، متواصلا حتى رحيل زوجته قبل سنة تقريبا وقد عبر عن ذلك :
:(لا أستطيع تصوّر حياة بلا خيبات كبرى.. أنا متآلف مع الأسى ومع ذلك أقول بصدق إني استمتعت بحياتي ولا أستطيع تخيّل شيء أكثر أهمية بالنسبة إليّ من ذلك.. الشعر كان هبة عظيمة وأشعر بالكثير من الامتنان لحيازتي إياها.. فقد ساعدتني في الصمود خلال السنوات والخسارات.. الحياة نفسها هي الهبة العظمى ويبدو أني لا أنسى ذلك إطلاقاً.. ).
وقد ذكر ذلك لصحيفة الوسط الأدبي وهي تحتفل بمئوية ولادته.
وله من العبارات من تبادلنا للرسائل يمكن ان تلهم الانسان بعدا جديدا الى عالم الانسانية اقتطفتها بتصرف، فيقول :
(لأني لم أجرؤ على النسيان .. أحسب أن من الجوهري للإنسان الذي يريد أن يستمر في العيش أن يبقى على صلة بالأمور الغنية في الحياة .. فالمرء لا يعيش في الراهن بل في التاريخ الكامل لكينونته منذ اللحظة التي يصبح فيها واعياً.. أنه لم يكن ملماً كثيراً بالأبعاد الإنسانية للغة وما لبث بعد ذلك أن أدرك بأن اللغة هي الوعاء الأخطر للأفكار والقيم والمفاهيم بغض النظر عن الجغرافيا التي تنتمي إليها .. إن أعمق ما يبادر الى ذهني هو أنني أدرك أنني أعيش الموت والحياة معاً وقناعتي أن أعبّر عن هذا الحوار بين الذات وذاتها..).
جاء في كتابه الأخير قبل وفاته، تأملات نثرية خالصة في ما شهده من أحداث في حياته تحت عنوان، الصغيرة المتوحشة:
:( أفضّل أن أقول كما في قصيدتي .. عبور.. أني تدريجياً أتحوّل إلى كلمة.. جمالية هذه العملية أنها تتضمّن تحويلاً لمجرى الطاقة لا الخسران.. أنا ملزمٌ .. الإيمان بأن الكلمة أقلّ قابلية للهلاك من خالقها.. بأن الشخص لا يعيش في سبيل الشعر بل الشعر هو الذي يعيش في سبيل الحياة.. تأتي القصيدة على شكل بركة أو نعمة.. وقد وجدت على مر السنين أن هذه الموهبة الشعرية مساندة للحياة ومعززة لها ولا يمكن التنبؤ بها على الإطلاق.. فهل يعيش المرء إذن لغرض نظم الشعر؟ .. لا.. العكس هو الصحيح.. فالغرض من الشعر هو إثراء الحياة.. بدأت أستوعب هذه الكلمات في القصائد وبيوت الشعر.. لكن المؤكد هو أنني كنت أعتقد في البداية أن هناك متعة كبيرة في اللعب بالكلمات واللغة إلى حد أنني لم أكن أستطيع التفكير بالعيش بدونها .. قصائدنا لا يمكن أن ترضينا لأنها في أفضل أحوالها صدى مندثر لأغنية سمعناها مرة أو اثنتين خلال حياتنا كلها ونروح نحاول باستمرار تذكّرها واستحضارها.. أعتقد أن القصيدة تكون غارقة في أعماق الإنسان وهي مزيج من انطباعات اندمجت مع بعضها بعضا تكون في كثير من الأحيان انطباعات رئيسية من حياة إنسان ما.. وأعتقد أن هناك أحداثاً معينة في الحياة تشكل مجموعة متألقة وتلك هي البذرة التي تتولد منها القصيدة.. والقصائد حينما تواكب حادثة من الحاضر تلتصق بتلك الصور والانطباعات المترسخة في أعمق أعماق المرء وعندما يحدث ذلك يبدأ كل شيء بالانطلاق في الحال.. لم أجرؤ على النسيان.. إن الإنسان لا يحيا في اللحظة الآنية بل يحيا في كامل تاريخ كيانه .. وتواقاً إلى كتابة مئات القصائد.. لا تستغربوا ذلك.. أجدني عالقاً في ذلك الازدحام الخطر بين الذات والعالم..) .
ولد كونيتز لأسرة يهودية من أصل روسي، في مدينة وورسيستر من ولاية ماساتشوستس عام 1905، وذلك بعد أسابيع قليلة من انتحار أبيه، وهو ابن خياط مهاجر من ليتوانيا . بعد تخرجه من جامعة هارفرد عام 1926، عمل في الصحافة الأدبية، ولاحقاً في مجال التحرير، له مساهمات في الترجمة عن اللغة الروسية، إلى جانب تدريسه في جامعات عدة وفي أكثر من ولاية أميركية. عُيّن مستشاراً لقسم الشعر في مكتبة الكونغرس منتصف السبعينات، وكان له تأثير عميق على كبار شعراء القرن العشرين أمثال روثكي وأودن ولوول. في الثمانيات، أسس مركز عمل للفنون الجميلة في مدينة بروفينستاون، يعنى برعاية المواهب الشابة من الأدباء والفنانين، وأيضاً بيت الشعراء في مدينة نيويورك. عام 1986، وتكريماً لدوره الرائد في المجتمع الأدبي، صدر كتاب عنوانه إحتفاء بستانلي كونيتز في عيد ميلاده الثمانين، إضافة إلى العديد من الدراسات والبحوث التي تناولت حياته وأعماله. واعتنق كونيتز المذهب السلمي وكان معارضا شرسا للحرب العالمية الثانية كما انتقد حرب فيتنام واجتياح العراق. وأمضى كونيتز معظم حياته أخيراً في بروفنستاون بولاية ماساتشوستس حيث عاش مع زوجته الثالثة الرسامة اليز اشر، التي ظهرت أعمالها علي أغلفة العديد من دواوينه. في 14 أيار 2006، توفى هذا الشاعر الكبير بعدما كان الشعر قد أطال بعمره بحسب تعبيره.
وكان قد أرسل لي حوار له ، حين سُئل ، وكان قد تجاوز التسعين من عمره، حول ما قاله يوماً عن كونه يعيش الحياة والموت معاً، وحول ما إذا كان التقدّم في السن يجعله بمعنى ما، يموت في حياته بسرعة أكبر مما يعيشها، أجاب:
:( أفضّل أن أقول كما في قصيدتي.. عبور.. أني تدريجياً أتحوّل إلى كلمة.. جمالية هذه العملية.. أنها تتضمّن تحويلاً لمجرى الطاقة لا الخسران.. أنا ملزمٌ.. الإيمان بأن الكلمة أقلّ قابلية للهلاك من خالقها.. ) .
أعتبر ستانلي كونيتز، من أهم الشعراء الأميركيين في القرن العشرين وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين. وفي صيف العام 2000، حينما كان كونيتز في الخامسة والتسعين من عمره، تقبل اختياره لمنصب الشاعر الرسمي لمكتبة الكونغرس أللامريكي، مما اعتبر الشاعر الرسمي للولايات المتحدة الامريكية، وقد عبر عن ذلك:
:( أريد لي أن أربط الحاضر بالمستقبل.. ولكن مَن للماضي ؟ .. لأنه بفقدان الماضي نفقد انسانيتنا.. هل تريدنا العولمة هكذا ؟.. ).
ومما قاله لصحيفة نيويورك تايمز، بمناسبة تعيينه في ذلك المنصب:
:(.. أشعر أن أفضل خدمة يمكنني أن أؤديها هي مواصلة نظم الشعر...(
وهكذا فعل، بنفس النهج الذي أهتدى به طوال حياته، وهو نهج وصفه زميله الشاعر جاي باريني :
: (التفاني التام لحرفة نظم الشعر نفسها دون أي تكلف وبتواضع تام في عمله ..) .
وقد نال استانلي كونيتز، معظم الجوائز الشعرية الرئيسية، بما في ذلك جائزة بوليتزر. وكانت سعة اهتماماته مدهشة، من تأملات في الحرب العالمية الثانية والهبوط على سطح القمر في العام 1969، حتى رؤية مذنّب هالي.
إلى جانب موهبته في الكتابة، كان كونيتز مربيّا لامعا، وقد كان من خلال دوره هذا مصدر إلهام وتأثير عميق بالنسبة لعدة أجيال من الطلبة في جامعة كولومبيا. ولعلّ تأثيره لم يكن أقوى في أي يوم من الأيام أكثر مما كان عليه في السبعينات من القرن الماضي، عندما كان الحَكَمَ في مباراة الشعراء الشباب المهمة في جامعة ييل. وقد ازداد إشراقاً وتوهجاً لدى بلوغه التسعين، بدليل أنه فاز بجائزة، الكتاب الوطني في العام 1995 ، إعترافاً من الوسط الثقافي في الولايات المتحدة بوزنه الثقيل في الكتابة الشعرية وبموهبته الاستثنائية في إحداث نقلة نوعية، في هذا المجال، في الولايات المتحدة والعالم. وكان قد حصل قبل ذلك، على جائزة بوليتزر العالمية في العام 1959، وميدالية الفنون سنة 1993، وجائزة بولينينغن الشهيرة في العام 1987، غير أن اللقب الأحب الى قلبه تمثل في تتويجه شاعراً للولايات المتحدة الامريكية وهو في الخامسة والتسعين من عمره.
أول دواوين كونيتز الشعرية كان بعنوان ،أمور فكرية في العام 1930، إلا أن ديوانه التالي، جواز سفر إلى الحرب لم يظهر حتى العام 1944، وتوالى ظهور أعماله الشعرية بعد ذلك بوتيرة أسرع، تتخللها نشاطات أخرى، بينها ترجماته لأعمال شعراء مثل آنّا أحمدوفا وأندريه فوزنيزينسكي.
عام 2005، وبالتعاون مع الشاعرة جانين لانتين، ألف استانلي كونيتز، الضفيرة البريّة، وهي تأملات شاعر طوال قرن في الحديقة، حيث اعترف بشغفه طوال حياته بزراعة الحدائق، وهي الهواية التي مارسها في حديقته في بلدته بروفينستاون بولاية ماساتشوستس، حيث كان حوارا سجلته الشاعرة جينين لينتاين مع الشاعر المسن، ولكن حول حقل من عالمه الشعري جد صغير ومحدود في الظاهر، هو حقلُ اهتمامه بالحديقة، حديقته، حتى لتبدو الحديقة هنا، ذلك الخيط الموصل بين المحدود في الطبيعة وبين المدى غير المحدود داخل افنسان الاستثنائي للشاعر.
في واحدة من تعليقاته تلك يقول:
:(إن الكون نسيج كنسيج عنكبوت متواصل.. ما أن تمس طرفاً منه حتى يرتجفَ النسيجُ كلُّه ..) .
ان الكتاب الضفيرة البرية، يعكس انصرافه الشخصي للمدهش في كل ركن من الطبيعة، وما ينطوي عليه من صلة وصل بتشعب وعمق الحياة والإنسان معاً، فكم يبدو الموضوع ضيقاً محدودا، هنا تكمن قيمة الموضوع في الشعر. الشاعرُ ينتسب لتجربته الداخلية، التي هي بالتالي مصفاةٌ لتجربته مع الخارج، والحديقةُ قد تبدو، عبر هذا، أكثر غنى من معترك تاريخي.
يبدو استانلي كونتيز، أكثر استثارة وعمره يمد في الطول بفكرته الشابة، فعاش فيها شبابه ومرحلةَ نضجه وشيخوخته ثم مات ودُفن وهو يعيش هذه الفكرة، ولم يخرج من داخلَ النفس، عن رؤية الحياة المتواصلة دون يأس بل يوسع من خطاه خارج خارطته التي توصله إلى حديقته وأصدقائه.
كانت جغرافية وجوده الأرضي غير محدودة، وكأنه يرسم خارطة كون للانسانية خلاف محيطه الرأسمالي ومن ثم العولمي، على رغم تأكيده على عتمة الرؤيا، ولكنه لا يبدو كياناً عاجزاً بل متفاعلا مع شجاعةٌ استثنائية في احتضان القوة واحتضان الضعف، هكذا تثار الأسئلة ما بين ماهية الشعر وماهية الشاعر في غاية من بساطة اللغة، بأسمائها وأماكنها وأزمنتها.
إن لدى كونتيز، ما يكفي من غنى الداخل ومعتركه، وشعره بحاجة لمن ذائقتهم ووعيهم للشعر غير مثقلة بموروث شكلاني، ونزعة غائية وإعلامية للقصيدة، وغير مأخوذة بالحداثة لذاتها، وكأن الحداثةَ عقيدةٌ من العقائد، كما هو الحال في حالات من شعرنا العربي الحديث.
أن قارئ الشعر بذلك يدرك أن الشاعر يعرض للتاريخي من أجل أن يكتشف ما هو شخصي، وهذا التكوين الشعري المعقّد يحتاج إلى وعي شعري معقّد بدوره، إلا أن هذا التعقيد لا يتوفر بين حداثيينا، إلا على هيئة تعقيدات بلاغية، شكلية، تقنية، ذهنية ولفظية في النهاية.
أعمال استنلي كونتيز الشعرية الأولى انشغلت بالصنعة والجمالية واللغة والأوزان والتجريد، وافتقرت إلى ما وسم أعماله اللاحقة من غنى في المعرفة والتجربة الحسيّة والعاطفية في الحياة. ففي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وبينما كان الشعر التجريبي مع رائديه إليوت وباوند، آخذاً في احتلال المكانة العليا من اهتمامات الأدباء والنقاد، كانت أعمال كونيتز، لا تزال تعكس إلتزام الشكلانية المتزمتة لشعراء ميتافيزيقيين من القرن السابع عشر، أمثال جون دون وجورج هربرت.، غير أن كتابته راحت تدريجياً تتحوّل وتتطور إلى أن تمخّض عنها مع بداية السبعينات أسلوب شعري جديد يجمع بين التعقيد في النظم والشفافية في القول، ففي مجموعته، الشجرة المُمْتَحِنة الصادرة عام 1971، والتي شكّلت في نظر النقاد نقطة تحوّل مفصلية في تجربته، يُلاحظ أن كونتيز، تخلّى عن الذهنية الثقيلة والحرفية والرطانة اللغوية والتبطين المعرفي لحساب البساطة والعمق والإيجاز والرشاقة في التعبير. قصرت جملته، وتحررت قصائده من كل المحسنات والموروثات والتقنيات اللغوية والمعرفية، لتقتصر على الشعر فحسب، ولتغدو أخفّ شكلاً، وأشفّ مضموناً، وأقرب إلى شغاف الحياة ولا سيما أنها اتسمت بطابع الشعر الإعترافي الذي كان يكتبه آنذاك كل من لوول وباريمان. ويوضح كونيتز:
:( أن البساطة التي اعتمدها أسلوباً لكتابته الجديدة قد تبدو غير شعرية على السطح إلا أنها تكنز في داخلها من الأصداء ما يُبقيها حية ونابضة وشديدة التأثير..) .
ولم يحد بصر هذا الشاعر الأميركي، مع تقدمه في السن، عن الطريق الممتد أمامه، حيث شاهد المعالم تتلاشى نحو الأفق البعيد، كما قال في قصيدة وضعها وهو في سن متقدمة بعنوان، الطبقات، ولكنه في نفس الوقت لم ينس الماضي البعيد وتجاربه وقصائده نفسها، وقد تضمنت مجموعة قصائده التي نشرت في العام 2000، قصيدة تعود إلى العام 1914، وقد أوضح ما دفعه إلى إعادة نشرها بالقول:
:( لم أجرؤ على النسيان.. إن الإنسان لا يحيا في اللحظة الآنية بل يحيا في كامل تاريخ كيانه..) .
جاء كتابه الأخير قبل وفاته، تأملات نثرية خالصة في ما شهده من أحداث توزعت على قرن من الزمن عاشه حتى الثمالة، فعنوان هذا العمل النثري هو، الصغيرة المتوحشة، فقد كان يردد دائماً:
:( إن أعمق ما يبادر الى ذهني.. هو أنني أدرك.. أنني أعيش الموت والحياة معاً.. وقناعتي أن أعبّر عن هذا الحوار بين الذات وذاتها.. ) .
وقد عرف هذا المئوي الشاب معظم شعراء القرن العشرين الأميركيين، ومنهم ألن غينسبرغ وثيودور روثكه واي اي كمينغز وجوزف برودسكي، كما ساهم في إطلاق أسماء باتت في طليعة شعراء أميركا اليوم، على غرار روبرت هاس ولويز غلوك، وقبل رحيله كان يمضي ستانلي كونيتز، وقته كله في حديقة منزله، معتنياً بالنباتات التي زرعها بنفسه، وتواقاً بحسب ما قال في آخر مقابلة:
:( اِن كتبت مئات القصائد لا تستغربوا ذلك.. ) .
وقد أرسل لي رسالته الشهيرة عن النبي محمد(ص)، بعد جدل طويل بيننا سبق ذلك، ومما تضمنته الرسالة :
:(..عزيزي .. عندما ابتدأنا متفاخرين حياة العَلمانية لنجدها خلاصة حرية فكر محمد للتخلص من خرافات الاساطير نحو العِلمية والتجدد.. وعندما عشنا الالحاد واللادينية.. وجدناها في رسالة محمد في الثقافة تتسيد اللاعبودية ولنذهب معها الى الحرية المطلقة.. وعندما أحببنا الشك في كل شيء عشناه مبدأ يحتمه علينا محمد في عقائده لفتح أبواب المعرفة.. وعندما بات ديدنا اللاانتماء كان يتجذر روحا من اخلاق محمد وقد تمسك بهذا الفضاء ليجعلنا من المبدعين فيه كيما نعرف قيمة انسانيتنا.. وعندما ملنا الى التمسك والتعصب لافكارنا وجدنا أسلوب محمد في الحوار أفضل الأساليب لمثل هذا التمسك.. وعندما ألغينا الآخرين لأننا أفضل منهم كان محمد يربينا على ذلك في مفاهيم اِلغاء الغير بالاعتراف بانسانيتهم وحقهم بالرأي والحياة.. وقد راينا فيه ان الله اطلقنا لنختار ما نشاء كي ندرك ان الله ليس ظالما ليهبنا العدل.. وعندما سعينا الى الحرية وجدناها شريعة أساسها احترام الآخر ففهمنا ليس الله فوضويا ليرشدنا الى الواجبات والحقوق.. عزيزي.. كنت أعرفه وأعيشه وان كان شبحا في طفولتي المتجذرة من عالم أوربا الشرقية اليهودية دينا وتراثا وعادات ومساحة واسعة من التقاليد المسيحية.. وما ان ارتقيت سلم الشعر في امريكا.. وجدته بلاغة تفاعل الروح في الجسد لاجده شاعرا وما هوبشاعر .. هكذا ادركته.. وان اتقلد سيادة موقعي في هذا العمر الطويل الطويل في امريكا وشاعرها الاول وحاصد جوائزها .. لأجد امريكا في نظامها من الولايات والضرائب صورة مصغرة لنظام الدولة المحمدية.. ولولا الربا الذي يحرمه محمد لكنا كما يريد هذا النبي العبقري من العدالة والمساوات.. وان كان هناك فارق في الابعاد الثقافية والاخلاقية ولكن هناك تطابق في ابعادها الادارية.. وربما هذا سبب من اسباب نجاحها كقوة ووحدة رغم جبروتها في السياسة.. وربما هناك من مؤسسيها من أدرك هذه الحقيقة واختار ما أحب أن يختار لبناء دولة مثل امريكا ودستورها ولكن لم يعترف بذلك .. فاحببنا الشمولية واذا بمحمد العظيم يطلقها في الاختصاص.. وكل من اهتم باختصاصه مثلي كشاعر ربما يدرك هذه الشمولية انطلاقا من عظمة الكون والخلقة والاخلاق.. وأيضا الشعر الذي أراه عند محمد معجزة لايمكن الاتيان مثله وان لم يكن شعرا فهو عنوان لشاعرية الرب.. العجيب في هذه الشمولي وهي من ملاحظاتك التى الفتت نظري .. فاني انا الشاعر اعتبرمحمدا شاعرا اعجازيا وهو ليس بشاعر.. وان الاقتصادي يعتبره عالم اقتصاد بنظريات ابداعية وما هو باقتصادي.. وانه فليسوف تاريخيى عبقري وما هو بفليسوف.. وانه طبيب عالم وما هو بطبيب .. وهكذا هو في كل اختصاص بشري مطلق العلم لديه.. أعتقد مثل هذا الاعتبار في شخصيته مما يدل على انه نبي .. مثل باقي الانبياء وهكذا يستدل عليهم لانقاذ البشرية بمثل هذه الشمولية التى تكون فيهم بناءة وان ادعاها غيرهم وهو ليس بنبي فانه يكون هداما وعاجزا وفاشلا وان نجح لبعض الوقت.. هكذا ياعزيزي.. يستدل على الانبياء والاولياء وايليا القادم وامير السلام .. اليس كذلك.. الم ترغب دوما ان نصل الى مثل هذه النتيجة التى أتعبتني بها بأسئلتك وانا الشيخ الكبير.. وأهم سؤال: كيف ينقذ العالم نفسه؟ .. والعجيب في سؤالك لم تسألني كالآخرين في أسالتهم مثل هذا السؤال: كيف ننقذ أنفسنا أو كيف نفعل هذا أو كيف نأكل؟.. وغيرها من الأسئلة التى دوما ينطلق الانسان فيها من فردية مهلكة منتجة جبروت من الجهل والظلم للانسان والبشرية.. واعتقد هذا ما تعلمته أنت من محمد ورسالته وقد كانت تلك على ما أظن وهوالمؤكد تربية أهلك ومجتمعك هذا ما أشعر به وأعتقده عندما يكتب الأديب.. يكتب عن ما هو في اطار قدراته العقلية واستيعاباته الحسية والمشاعرية و بين ما هو ارادي وبين ما هو غير ارادي ليتعرف على قدرات معرفية مرتبطة بملكات الانسان بين التربية والنشاة والتعليم والبيئة تلك التى تصقل مواهبه وتلك التى تمده منذ ولادته بالثقافة لمعالجة الصراع بين أميّة القراءة والكتابة وبين أميّة الثقافة وهي الفاصل بين الحق والباطل وما بين السماء والأرض وما تسميه أنت بعصر الجاهلية وعصر النور وصدقت عندما تذكر.. ان الجاهلية لاتعني أن لا تكون البشرية لها حضارة بل أثبت التاريخ لها حضارة بل أثبت التاريخ ان ثقافة الجاهلية تتعزز عندما تتطور الحضارة بحجج مختلفة وتبريرات مختلفة لتكون هي التي اُسميها دوما بوحش الحضارة التى تلتهم العلم وتلتهم الانسان مثلما يكون للذرة طاقتها الخلاقة للعلم والتقنية والطاقة فانها ايضا بايدي غير أمينة ممن لم يخرج من عصور الجاهلية الثقافية فيمكن أن تكون قنبلة مدمرة للانسانية والحضارة فالجاهلية ليس لها قومية أو وطن وربما تكون عالمية وان كانت هناك حضارة وعلم.. نعم هكذا أنت تمس الحقيقة والوجود وعلى هذا الأساس نعرف الصادق من الكاذب ونعرف من هم الرجال والنساء ومن يكونون.. ان كانو أرضيين أو سماويين وربما الاثنين معا.. وهذا هو الاعجاز الذي لاتدركه البشرية العاجزة مثلما لم تعرف محمدا أو عيسى او موسى وكل صادق أمين كما هو رؤيا يوحنا المقدس.. ان عقولنا يمكنها ان تكتب عن هذه الممكنات محاولين أن نصنع السلام أو الموت ولكن لايمكننا أن نكتب عن الانسان الكامل كما تقول اِلا اِذا أدركنا من هو الآمي حقا.. لا لشيء اِلا لأن البشرية لا تستوعب عقولها .. فأنا في الشعر يمكن أن أفهم من هو محمد.. ولو أهتم كل شخص باختصاصه لأدرك من هو محمد ومن هو عيسى ومن هو موسى ومن هو العبقري الصادق وليس النبي الكذاب او المفكر الفوضوي او الدجال والشرير لأن حبه لاختصاصه أي رغبته باكتشاف الحقيقة يدله بوحدة الحق وووحدة الباطل.. فالفوضى هي في الاختصاص والادعاء بمعرفة كل شيء وكل علم وكل فن وكل فكر وعندها نجد أنفسنا نحن الآلهة وليس هناك اِله غيرنا.. ان عقولنا لم تستوعب الرحمة لنا فكيف بالجهلة.. من هنا انطلق محمد لنعيش الأميّة اعترافا بالعلم فعرفنا به وبالانبياء بميزان واحد دون أن يلغي احدا أو يلغينا.. بهذه الرؤية للاختصاص والشعر تدرك البشارة عبر العصور وعن البشير وعن الانسان الرحمة للانسان وعن ملك السلام في الارض.. ونحن نعرف ان أي حملة لا تضع للشيطان وأعوانه حدا مثلما قال محمد وعيسى وموسى وابراهيم وكل نبي صادق وشاعر حالم بالحب والغيب.. لأنهم جميعا شعراء ولكن ليسوا مثلنا وليس بالشعر الذي نعرفه.. لأنهم يتكلمون وهم يعشقون السماء والرب.. فهي معركة الباطل مع الحق ومعركة الحق مع الباطل لانقاذ البشرية .. ودعوة ليس فيها خلاص أو انقاذ فهي خرافية باطلة.. هكذا نفهم الاسطورة أو الحقيقة ليبقى أدبنا وبالأخص الشعر هو صفاء الكتابة وبناء الانسان من أجل حضارة حقة.. أهم ما بها هي الحب وليس الكراهية.. هكذا عرفنا التطرف الى اللا تطرف في الدين والفكر برسالة محمد .. وهكذا آمنّا بالتعصب لللا تعصب الذي أهداه لنا هذا الرسول أسوة باخوته الرسل .. وهكذا حبب لنا الانحراف نحو الصحيح بالضد مما عشناه من الخطأ .. وهكذا من خلاله عشقنا العبودية لأنها عنوان لحرية الانسان في توحيد الرب.. هذا هو محمد الذي طالما تثيرني أنت به وبأهل بيته المقدسين ادبا وشعرا وفكرا.. وكفى فقد اتعبت الشيخ المسن ).
عن عمر يناهز المئة قليلاً، تحوّل استانلي كونيتز، نفسه إلى كلمة بذاتها ، بعد أن كان عشقها وعشقته حتى استعصى الفصل بين زرقة دمه ودمها، وبين ما ذاب في حبرهما من وجدان الآخر.
ماذا يعني أن يبلغ شاعر أعوامه المئة؟ بل ماذا يعني أن يبلغ أي كائن بشري هذا العمر؟
بالنسبة إلى ستانلي كونيتز، كبير شعراء أميركا اليوم، وشاعرها المتوّج لمرتين متتاليتين، الذي حصد في حياته الأدبية الطويلة أنواع الجوائز كلها، وساهم في إطلاق شعراء شباب صاروا بارزين لاحقاً، بالنسبة إلى هذا الشاعر فإن بلوغ المئة من العمر لا يعني انتظار الموت، بل ترقّب ما ستحمله الحياة من جديد.
أمضى السنوات الخمسين الأخيرة من عمره المديد وهو يستلهم الروح الإنسانية وعذاباتها وتطلعاتها والقهر اللاحق بها، مستظلاً الأشجار الكثيفة في حديقة منزله التي وفّاها حقها وفضلها عليه في سائر كتاباته الشعرية والنثرية. على هذا الأساس، أوجد كونيتز لمادته الشعرية أرضاً إنسانية خصبة تجاوزت في مضامينها وأبعادها البيئة الأميركية الضيقة بمعتقداتها، الى رحاب الميثولوجية الإنسانية الكبرى، فيقول في هذا السياق:
:( أنه لم يكن ملماً كثيراً بالأبعاد الإنسانية للغة.. ).
وما لبث بعد ذلك، أن أدرك بأن:
:( اللغة هي الوعاء الأخطر للأفكار والقيم والمفاهيم بغض النظر عن الجغرافيا التي تنتمي إليها..).
في حديقته الشهيرة في بروفينستاون، أمضى استانلي كونيتز، برفقة مساعدته معظم أوقات نهاره، مستقبلاً ما أمكنه من زوار، خصوصاً الشعراء والنقاد والصحافيين والطلاب، مقطّعاً كلماته القليلة بحساب دقيق، هو حساب مشقّة خروج الكلمات من الفم، كما حساب ما ستقوله الكلمات عن الشعر وعن الحياة.
قبل نحو خمسة أعوام، حين سئل كونيتز في مقابلة صحافية عمّا يفكّر في كتابته، قال إنه:
:( يفكّر في كتابة قصيدة الوداع..).
قصيدة لم يحدّد مسارها أو فحواها أو نبضها، مؤكدا:
:(سأدعها تأتي وحدها..).
ومع إتمامه القرن، فلم يأت في مقابلات أجريت معه على ذكر الوداع، بل اكتفى بالقول إنه لا يزال يفكّر في كتابة الشعر. في سنّه هذها ومع إدراكه أنه كان على حافة وداع دائم، وأنه لم يعد ثمة الكثير في الحياة، لم يكن ينظر كونيتز إلى الموت بمأسوية، بل لا يأتي على ذكره قط، حس غامر بالتفاؤل والإيجابية حيال الحياة، يحرص كونيتز على التمسك به، رغم المآسي الكبرى التي رافقت حياته المديدة، منذ طفولته حتى رحيل زوجته أليس آشر ،العام الفائت:
:( لا أستطيع تصوّر حياة بلا خيبات كبرى.. أنا متآلف مع الأسى ومع ذلك أقول بصدق إني استمتعت بحياتي ولا أستطيع تخيّل شيء أكثر أهمية بالنسبة إليّ من ذلك.. الشعر كان هبة عظيمة وأشعر بالكثير من الامتنان لحيازتي إياها.. فقد ساعدتني في الصمود خلال السنوات والخسارات.. الحياة نفسها هي الهبة العظمى ويبدو أني لا أنسى ذلك إطلاقاً.. ) .
قالها لصحيفة بوسطن غلوب، في مقال واسع يحتفل بمئوية ولادته.
و كان من أقواله :
:(الغرض من الشعر إثراء الحياة).
هكذا أغمض عينيه ستانلي كونيتز في في 15 أيار/مايو2006 في ولاية نيويورك، عن عمر يناهز المئة نتيجة لإصابته بالتهاب رئوي حاد، بقي حتى الرمق الأخير صافي الذهن غير عابئ بأعوامه المئة التي أمضاها في حديقة الشعر ولم يقدم استقالته يوماً من هذه المهنة الأكثر صعوبة في عالم الكتابة.
.......................................................
[email protected]
[email protected]

 

Share |