تفتيت الدول هو اساس الأنتروبولوجيا الثقافية الممهدة للإعلام والسياسة الغربية/محسن وهيب عبد

Sat, 6 Jul 2013 الساعة : 9:11

تفتيت الدول هو اساس الأنتروبولوجيا الثقافية الممهدة للإعلام والسياسة الغربية
الحلقة الثانية:
إيقاظ النزعات الطائفية و العرقية والدينية بفعل تفتيت الدولة الوطنية:

في سنة 1996 صدر ببرلين كتاب بعنوان:( " فخ العولمة : الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية ").
لقي نجاحا كبيرا , وأعيد طبعه تسع مرات في عام واحد. وقد أفلح مؤلفا الكتاب ( هانز ـ بيتر مارتين وهارالد شومان ) في تقديم النتائج الاقتصادية التي أفضت إليها العولمة في صورة واضحة , ونوع من التعليل والتحليل يرفع الكثير من اللبس والغموض عن مسار الحضارة الغربية في أفق القرن المقبل. يعرض المؤلفان نتيجة ما وصل إليه اجتماع أقطاب العولمة في عالم الكومبيوتر والمال وأساتذة الاقتصاد في جامعات ستانفورد وهارفارد وأكسفورد , وكدا القائمون على التجارة الحرة في سنغافورة والصين.. وذلك سنة 1995 بفندق فيرمونت بسان فرانسيسكو. يقول المؤلفان : " يختزل البراجماتيون في فيرمونت المستقبل في العددين 20 وهم العاملون، إلى 80 وهم العاطلون وإلى مصطلح Tittytainment. الذي يعني (تسلية الرضاعة).
فحسب ما يقولون فان 20 بالمائة من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ على نشاط الاقتصاد العالمي.. ولكن ماذا عن الآخرين ؟ مادا عن 80 بالمائة من العاطلين وإن كانوا يرغبون بالعمل ؟.
الجواب:
إن المسألة ستكون في المستقبل " إما أن تأكل أو تؤكل To have lunch or to be lunch " .
أما مصطلح Tittytainment فقد كان برجينسكي هوالذي طرحه للمناقشة , وهذا الأخير اشتغل لمدة أربع سنوات مستشارا للأمن القومي على عهد جيمي كارتر. "
وحسب ما يقوله برجنسكي فان Tittytainment مصطلح منحوت من الكلمتين Entertainment ( تسلية ) وTits ( حلمة ) , وهي الكلمة التي يستخدمها الأمريكيون للثدي دلعا. ولا يفكر برجينسكي هنا بالجنس طبعا , بل هويستخدمه للاشارة إلى الحليب الذي يفيض من ثدي الأم المرضع. فبخلط بين التسلية المخدرة والتغذية الكافية , يمكن تهدئة خواطر سكان المعمورة المحبطين) .
ما هي الوقائع التي تبرر مثل هذه الرؤية السوداوية للقرن المقبل ؟ لنستمع إلى لغة الاحصائيات :
مثلا:( في ألمانيا كان هناك في العام 1996 أكثر من ستة ملايين يرغبون في العمل , إلا أنهم لا يجدون فرصة دائمة للعمل. وهذا العدد , هوأعلى رقم يسجل منذ تأسيس جمهورية ألمانيا الاتحادية. أما صافي متوسط مداخيل الألمان الغربيين , فهوفي انخفاض مستمر منذ خمس سنوات.. وفي النمسا أيضا تعلن الدوائر المختصة باستمرار تناقص عدد العاملين , ففي كل عام تلغى في الصناعة عشرة آلاف فرصة عمل.. ويختزل الاقتصاديون والسياسيون أسباب هذا التدهور إلى كلمة واحدة لا غير : العولمة )
لكن؛ ما هي نتائج هذه العولمة على الدول وعلى تماسك النسيج الاجتماعي ؟
( إن أممية رأس المال الجديدة تقتلع دولا بمجملها , وما تقوم عليه هذه الدول من أنظمة اجتماعية , من الجذور. فمن ناحية هي تهدد ـ مرة هنا ومرة هناك ـ بهروب رأس المال لكي تجبر الحكومات على تقديم تنازلات ضريبية عظيمة , ومنح تبلغ المليارات وإقامة مشروعات بنية تحتية لا تكلفها شيئا )
إن الرأسمالية تنحو فعلا نحو ذلك الاتجاه الذي توقعه كارل ماركس حينما قال سنة 1865 : " إن الإنتاج الرأسمالي لا يميل في العموم إلى رفع متوسط الأجور , إنما يميل إلى تخفيضه أو إلى الضغط على قيمة العمل إلى أدنى مستوى ". شيء واحد لم يكن يتوقعه ماركس وهو" أن الرأسمالية في طابعها الأول ستطعم في يوم من الأيام القادمة بالروح الديمقراطية. ولكن ومهما كان الحال , فبعد الإصلاحات التي تمت في قرن سادته أفكار الاشتراكية الديمقراطية , تلوح في الأفق حركة مضادة ذات أبعاد تاريخية : إنها تتمثل في رسم صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي السحيق ) .
" العودة إلى الماضي السحيق " ! إنها فعلا النتيجة التي تقود إليها العولمة حاليا , ودلك بالعمل على إيقاظ النزعات العرقية والدينية بفعل تفتيت الدولة الوطنية.
لم ير هونتنغتون في استيقاظ هذه النزعات القديمة سوى نتيجة طبيعية لنهاية الحرب الباردة , وسقوط المعسكر الشيوعي , وتوقف الأيديولوجيات عن تجنيد الناس وراء الأهذاف السياسية. يقول : " مع نهاية الثمانينات سقط المعسكر الشيوعي , ولم يعد النظام الدولي المرتبط بالحرب الباردة سوى ذكرى. ففي عالم ما بعد الحرب الباردة , لم تعد الاختلافات الكبرى بين الشعوب أيديولوجية أوسياسية أواقتصادية , بل أصبحت ثقافية. إن الشعوب والأمم تجهد نفسها للجواب عن السؤال الأساسي بالنسبة لجميع البشر وهو: من نحن ؟ ويجيبون عنه بالطريقة التقليدية العتيقة , بالعودة إلى ما هوأهم بالنسبة لهم. إنهم يحددون أنفسهم بلغة السلالة والدين واللسان والتاريخ والقيم والعادات وكذا المؤسسات. إنهم يحددون هويتهم من خلال الجماعات الثقافية : القبائل , الأعراق , الجماعات الدينية , الأمم ؛ وعلى مستوى أعم : الحضارات. فهم يستغلون السياسة ليس من أجل مصالحهم , بل من أجل هويتهم. فنحن نعرف من نحن , إذا عرفنا ما لسناه . وفي الغالب , إذا عرفنا ضد من نحن " .
عندما يسرد هونتنغتون هذه الوقائع , فهولا يتساءل عن الأسباب التي كانت وراء هذه " العودة ". إنه يتحدث عن كل دلك بنوع من التقرير المحايد , وكأن الأمر يتعلق بالموضوعية العلمية أوبتأمل المجريات بدون تدخل إرادي. إن أقصى ما يمكن استخلاصه من هذا السرد هوأن نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشيوعيى هما المسؤولان إلى حد ما عن كل ما حدث , فالحد الفاصل بين عالم الحرب الباردة وعالم ما بعد هذه الحرب هوالدي يؤرخ لبروز تلك العودة !
أمام انهيار النظام الدولي بعد الحرب الباردة يبدو أن العالم يسير نحو الفوضى , باستثناء الغرب الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة. فهذه الأخيرة " تظل الفاعل الرئيسي على مستوى الساحة الدولية. فكما كان الشأن في الماضي , ما يزال توجه الولايات المتحدة هو البحث عن القوة والثروة ") .
هذه القوة الجبارة من الناحية الاقتصادية والعسكرية , تبدو هي الماسكة بزمام الأمور في عالم اليوم. فهل يشهد ظاهر هذه القوة على باطنها ؟ هل المسار الذي انخرط فيه الاقتصاد الأمريكي ينبئ فعلا عن استمرار قيادة الولايات المتحدة للعالم ؟
لنعد إلى كتاب " فخ العولمة " , ونقرأ بلغة الأرقام : " ليس هناك مكان آخر يبدو فيه التدهور بينا للعيان كما هو بين في الموطن الأصلي للرأسمالية المضادة : الولايات المتحدة الأمريكية. فالجريمة اتخذت هناك أبعادا , بحيث أصبحت وباءا واسع الانتشار.
ففي ولاية كاليفورنيا (التي تحتل بمفردها المرتبة السابعة في قائمة القوى الاقتصادية العالمية)؛ نلاحظ ما يلي:
أ‌- فاق الانفاق على السجون , المجموع الكلي لميزانية التعليم.
ب‌- وهناك 28 مليون مواطن أمريكي ـ أي ما يزيد على عشر السكان ـ قد حصنوا أنفسهم في أبنية وأحياء سكنية محروسة. ومن هنا فليس بالأمر الغريب أن ينفق المواطنون الأمريكيون على حراسهم المسلحين ضعف ما تنفقه الدولة على الشرطة " ( ص : 35 ).
ثم ان هونتنغتون يستند على مجرد نبوءة لهنري كيسنجر القائلة بأن القرن الواحد والعشرين سيشهد " على الأقل ست قوى عظمى هي الوليات المتحدة , أوربا , الصين , اليابان , روسيا ومن المحتمل أيضا الهند ؛ بالاضافة إلى عدد كثير من البلدان المتوسطة أوالصغيرة ".
والقوى الست المذكورة تنتمي ـ حسب كيسنجر ـ إلى " خمس حضارات متباينة ". كما سيجعل الموقع الاستراتيجي والنمو الديموغرافي وكدا موارد النفط , من بعض الدول الاسلامية قوى مؤثرة.
من هذا كله يستخلص هونتنغتون أنه " في عالمنا الجديد , أصبحت السياسة المحلية إثنية , والسياسة العامة حضارية , لقد غدا الصراع بين القوى العظمى صداما بين الحضارات.
في هذا العالم الجديد لن تكون الصراعات الشاملة المهمة والخطيرة صراعات بين الطبقات الاجتماعية , بين الأغنياء والفقراء وبين مجموعات محددة وفق معايير اقتصادية , بل بين شعوب تنتمي إلى هويات ثقافية مختلفة. ستشتعل الحروب القبلية والصراعات الاثنية , داخل هذه الحضارات نفسها ")
هكذا يطرد الفكر الدرامي عند منظري السياسة الغربية المؤسسين لها؛ ليقولوا ان القرن الحالي سيكون قرن الحروب الحضارية وحرب تحقيق الهويات القرن بتلك الصورة الدرامية التي تذكرنا بحروب العصور الوسطى.
نعم سيشتعل القرن الحالي فقط لأن الغرب يمتلك زمام المبادرة، فهو عالم القطب الواحد, على مستوى الأحداث الدولية والسياسة العامة ، وهذا عكس ما كان يؤكد عليه منظروا السياسة الغربية ونبوءات دهاقنتهم.. فمصائب العالم اليوم من قطبية الغرب وليس من بروز الحضارات.
وبهذا يكون من منتهى العته والغباء ان نعتقد ان التاريخ " يغضب " من الحضارات الأخرى وينتقم للغرب , إما بإدارة عجلته إلى الوراء ( هونتنغتون ) وإما بإعلان توقفه عن الحركة ( فوكوياما ) ؟ ! . لكن الواقع انه ليس عتها ولا غباءا انما هو المكر السيء( ولا يحيق المكر السيء الا باهله)
واقول مكر لان فيه قدرة على التنظير , خاصة عندما يخلق نوعا من التجاوب لدى الناس. والتجاوب عادة ما يأتي من الكتابة عن موضوعات مطلوبة لدى القارىء , أو تزحزح قناعاته إما بتهويل أو بتخويف أو بترغيب.. أو بما يجري هذا المجرى. وكتاب هونتنغتون أصاب في القارىء جانبا ما من الجوانب المذكورة , وضرب على وتر من الأوتار المثيرة للاحساس لدى الغربيين عموما.
انظر ماذا يقول مؤلفا كتاب " فخ العولمة " عن كتاب هونتنغتون ؟ ما موقع " صدام الحضارات " من مظاهر العولمة الراهنة ؟
خلص المؤلفان إلى التقويم التالي لكتاب هونتنغتون : " كان الأستاذ في جامعة هارفارد صموئيل ب. هونتنغتون قد نشر في عام 1993 في مجلة Foreign Affairs , وهي المجلة الأمريكية المرموقة في أوساط المثقفين والمهتمين بالسياسة الخارجية , بحثا نال شهرة واسعة يطرح في عنوانه السؤال عن " صراع الحضارات ". وكانت نظريته القائلة بأن المستقبل لن يتحدد من خلال اختلاف النظم الاجتماعية ـ كما كان الحال إبان الحرب الباردة ـ بل سيتحدد من خلال ما يدور بين الحضارات من صراعات دينية وثقافية , قد نالت اهتماما واسعا في الدول الصناعية الغربية على وجه الخصوص. ولا ريب في أن هونتنغتون قد أيقظ في بحثه هذا الفزع القديم الذي كان يهيمن على أوربا , حينما اجتاحها قرنا بعد قرن , العرب والأتراك والروس ") .
اذن هو المكر فهذا الكتاب ادن " أيقظ الفزع القديم " لدى الناس , وهذا سبب شهرته ! فهولا يحمل نظرية أصيلة عن الحضارات , ولا يقدم تصورا جذريا عن مسار التاريخ.
انه يدخل في ذلك النوع من الكتابة التي تستفز مشاعر الناس, وتؤلبهم على حقد الآخر , وتحرضهم على الحذر والالتئام والتكتل في الفئة والطائفة والجماعة وتحفزهم على التحضير للاقتتال مع الاخرين.
وهذه شيطانية لا مثيل لها تعمل على تفتيت الانسانية وتحضيرها للصراع، واول ما سيظهر منه تقطيع اوصال الدول.
ان الاتجاه الذي اتخذه الاقتصاد الغربي اليوم وصار على اساسه الالتئام والتكافل والتكتل, فيما يسمى الاتحاد الاوربي والحلف الاطلسي يخالف تنظيرات فوكوياما وهنتنغتون لان شعوب اوربا وامريكا من اعراق وسلالات وهويات مختلفة ..
إن " الفزع " في مكر فوكوياما وهنتنغتون داخلي ـ إذن ـ وليس خارجيا , لأن الاحساس بالفزع لا يمكن أن يطفو على سطح الشعور إلا إذا كان هناك تهديد فعلي لحياة الانسان. والتهديد لا يصبح مؤثرا إلا في حالة الاصطدام بالعوائق التي توضع أمام السير العادي لحركية المجتمع , أي عندما يتم المساس بما هو ضروري لكي يستمر كقوة اوربا في اتحادها.
فأين هو العدو المزعوم الذي يهدد الغرب ؟
وعليه ان نتساءل اذن: من هو هذا العدو بالضبط : هل هو العربي أم المسلم أم الزنجي أم الأسيوي.. أم من ؟ ام هل هو إنسان العالم الثالث الذي يبحث عن لقمة العيش ولا يجدها إلا بالكاد ؟
وهل الحروب القادمة المزعومة يمكن أن تجري بين الضعفاء والأقوياء ( اقتصاديا وعسكريا ) ؟
نقرأ في (" فخ العولمة " الجواب التالي : " بما أن 95 بالمائة من الزيادة السكانية تتركز في أفقر مناطق المعمورة, لدا لم يعد السؤال يدور حول ما إذا كانت ستندلع حروب أم لا , إنما صار يدور حول طبيعة هذه الحروب وحول من سيحارب من.
فمن بين الاثنتين والعشرين دولة عربية , ينخفض الناتج القومي في سبع عشرة دولة منها , وهذا في وقت يتوقع فيه المرء أن يتضاعف حجم السكان في بعض من هذه الدول في العشرين سنة القادمة.. ومن هنا فليس مصادفة أن يكسب الانفصاليون والمتحمسون المتدينون , من المغرب وعبر الجزائر وحتى الهند وأندنوسيا , أنصارا أكثر فأكثر " ) .

 

Share |