تفتيت الدول هو أساس/محسن وهيب عبد
Fri, 5 Jul 2013 الساعة : 8:46

الانتروبولوجيا الثقافية الممهدة للإعلام والسياسة الغربية
الحلقة الأولى:
( من اجل ان ينعم الغرب بالاتحاد في أوربا وفي الناتو على أساس إيديولوجي)
توجه هنتغتون فوكوياما للتثقيف الانتروبولوجي:
بدون أي تأطير نظري أو إشكالي يبدأ "هونتينغتون" كتابه الشهير "صدام الحضارات" بسرد مجموعة من الوقائع, تأسر القارئ ولا تترك له مجالا لأي تأويل أو تشكيك, بل لا تترك له حتى المجال لتنفس الصعداء.
يقع الفصل الأول تحت عنوان "العهد الجديد للسياسة العامة" يصحبه عنوان فرعي “ومثير "الأعلام والهوية الثقافية", ويبدأ بالوقوف عند الأحداث التالية:
" يوم 3 يناير 1992: اجتمع بموسكو أساتذة جامعيون روس وأمريكان, في إحدى قاعات المحاضرات ببناية حكومية. وكان الاتحاد السوفيتي قد انهار أسبوعين قبل ذلك, وأصبحت روسيا الفيدرالية بلدا مستقلا. ونتيجة لدلك تمت إزاحة تمثال لينين من أمام تلك البناية, وبدأ علم الفيدرالية الروسية يرفرف مكانه. وقد كانت هناك مشكلة صغيرة - كما أشار إلى ذلك أحد الملاحظين الأمريكان- تتمثل في كون العلم كان مقلوبا. وفي أول استراحة, هرع المنظمون الروس إلى إصلاح الخطأ".
بعد ذلك ينتقل الكاتب إلى سرد الواقعة الثانية:
"يوم 18 أبريل :1984 تظاهر حوالي 2000 شخص في سراييفو رافعين ليس أعلام الأمم المتحدة أو الحلف الأطلسي, بل أعلام العربية السعودية وتركيا".
وتأتي الواقعة الثالثة:
"يوم 16 أكتوبر 1994 تظاهر في لوس أنجلوس حوالي 70000 شخص, وسط " بحر من الأعلام المكسيكية". وذلك من أجل الاحتجاج ضد المقترح رقم 187, والذي كان سيعرض على الاستفتاء. وبموجب هذا الأخير سيحرم المهاجرون السريون وأبناؤهم من المعونات التي تقدمها الدولة" .
من هذه الوقائع يتنقل الكاتب إلى إصدار الأحكام التالية:
1- "في عالم ما بعد الحرب الباردة, أصبحت الأعلام أساسية كما هو الشأن بالنسبة لرموز الهوية الثقافية الأخرى مثل الصليب والهلال بل حتى القبعة, لأن الثقافة حاسمة والهوية الثقافية هي الأهم عند معظم الناس. يتم اكتشاف هويات جديدة, تتم إعادة اكتشاف هويات قديمة. وسواء كانت قديمة أو جديدة, فان التظاهر ورفع الأعلام يؤدي إلى الدخول في الحرب ضد أعداء قدامى ولكن أيضا ضد أعداء جدد في غالب الأحيان" .
لاحظ مقدار الخبث في هذا التثقيف.
2- كتب فوكوياما أيضا في مقدمة كتابه "نهاية التاريخ" يقول: "عندما نلاحظ مجرى الأحداث في السنوات العشر الأخيرة [يقصد عقد الثمانيات] فمن الصعب أن نتلافى الانطباع بأن شيئا ما أساسي قد جرى في تاريخ العالم. خلال العشر سنوات الأخيرة شهدنا تغيرات بارزة في المناخ الفكري لأكبر بلدين شيوعيين في العالم، كما شهدنا بداية حركات إصلاحية مهمة في هذا البلد أو ذاك.
من هذه "المشاهد" التي هي مجرد "انطباع" شخصي لفوكوياما ؛ يخلص فوكوياما إلى إصدار الأحكام الضخمة التالية:
1- (قد يكون الذي أنشا هذه المشاهد ليس فقط نهاية الحرب الباردة أو نهاية حقيقية خاصة بعد الحرب, بل نهاية للتاريخ بالذات: نهاية التطور الأيديولوجي للبشرية كلها, وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء.
2- هذا لا يعني أنه لن تقع أحداث من شأنها أن تملأ صفحات المجلات المتخصصة في العلاقات الدولية, لأن انتصار الليبرالية جرى أولا في مجال الأفكار والوعي, وهو ما يزال غير مكتمل في العالم الواقعي. ولكن توجد أسباب قوية تدفعنا للاعتقاد أن هذا المثال هو الذي سيحكم العالم الواقعي لفترة طويلة ).
ما الذي يبرر مثل هذه الأحكام ؟ كيف تم الانتقال من الواقعة إلى الفكرة ؟
ان هذا التيه عن قواعد العقل وضوابط صحة الحكم العقلي، والانتقال من نمط تعلمي الى نمط كما يجري في تنظير فوكوياما وهنتنغتون هي من عيوب هذه الافكار. وقد وقعت في تاريخ الانسانية الفكري انزلاقات عديدة أثناء عملية الانتقال هذه, مما حدى بنفس العقل إلى اتخاذ احتياطات ووضع قيود منهجية لضبط العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع. لقد بدأ هذا الانتباه منذ أرسطو على الأقل, لأن هذا الأخير هو الذي أنشأ قواعد المنطق التي "تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ". وتم تجديد القواعد المنهجية مع بداية العصور الحديثة, وبخاصة مع بيكون وديكارت وغيرهما.
وهو ما لم يلتزم به رواد نهاية التاريخ وصدام الحضارات من اجل اهداف خبيثة. ولكن من أجل التنظير للواقع يلزم احترام القواعد التي أفرزها العقل البشري بعد جهد مرير, وبعد تجارب ومحاولات شهدت مجموعة من الإخفاقات والإحباطات تلتها تدقيقات واحترازات. هذا إذا كان الأمر يتعلق بالواقع المعايش, فما بالك إذا كان "الواقع" الذي نتحدث عنه هو المستقبل؟ ! في هذه الحالة لابد من مواجهة السؤال التالي: ما هي الضمانات التي تسند التفسير؟ ما الدليل على صحة الرؤية المقدمة بخصوص تصور معين للمستقبل؟ إذ عندما يتعلق الأمر بالمستقبل, فنحن ندخل عالم التوقعات والتنبؤات !
ولابد ان ننتبه الى انه من اليسير في السفسطة؛ جمع بعض الوقائع وإدراجها ضمن سلسلة منطقية من الأفكار, من أجل استخلاص نتائج معينة. ومن اليسير أيضا جمع نفس الوقائع حسب سلسلة مباينة, بغية الوصول إلى خلاصات مغايرة.
إن المشكلة لا تكمن في الشواهد, بل تكمن في طريقة التفسير. وإذا أريد للتفسير أن يكون علميا , يلزم أن ينتقل انتقالا منطقيا من نمط فكري الى اخر من التسليم لمعرفة المعاني الى التعليل لمعرفة العلل والأسباب ومنه الى التصديق، لتقرير الحقائق، فالتفاضل لتحديد المعايير والاصطلاح عليها ثم التعميم لصياغة القوانين، فالتكامل لبناء الحتميات والسنن؛ كما اثبتناه في كتابنا( تكوين الانسان من منظور قرآني).
اما ان نلاحظ الوقائع ونعتبرها بمثابة أسباب لظواهر أخرى، فهو تخبط وتيه, يأتي في خضم المغالطات والسفسطة .
والى الحلقة الثانية انشاء الله