حينما تغرد الغربان -عبد الجبار الحمدي
Thu, 21 Jul 2011 الساعة : 10:56

ركب الحرمان على أكتافي عنوة... بعد أن شاركني كسرة خبر عفنة زهدت سد رمق، تلك التي خزنتها إلى أيام شدة وضيق، أسال لعابه ومخاطه عليها، بعدما تقيء في طريقي، مما زادهما لزوجة وكثرة تزحلق، ذاك بعد أن أسود لوني، وتهرأ صوتي من شرب قيح عبارات كنت أطلقها كعندليب، أُُحب لبس السواد أناقة وجبروت، خاصة متى كان لامعا مثل ريش غراب، لم تعتريني الدهشة يومها، فقد أمسى الفساد توأما، بل هو كل ما أملك، أما الحرمان.. فما أن يراني حتى يتَقَلَد الصدارة فقط لتلقي البؤس، وشفقة الآخرين، لم أألف أن حياتي ستكون بمثل هذا الحال، فبعد رحيل منتصف عمر من زمني، حينها استلمت أول خطوة في بُعد زمن، مع استدارة قوية كبيرة، في انقلاب موازين، أُُسقِط الكثير ممن وقفوا يوما جلادين حول واحات الحرية، وسدوا روافد الأمل، ساعتها أعلنوا أن الإنسان أجمل ما خلق الله، أما أنا كغيري من المتلونين الجدد، كنت قد فقدت وعجزت في الحصول على متطلباتي بشكل طبيعي، تحفيت ولبست المسميات حذاء، أسير به على طرقات متشققة، ومن ثم أعود لأعمل على تعبيدها، تحت سقف زمني لا حدود له، حالي كالآخرين الذين فتقوا مشيمة الإنسانية، وامتصوا من حبلها السري مغذيات وطنية وهمية، ثم قطعوا الثدي الحقيقي و لجئوا إلى شرب الحليب المعلب، المستورد و المستحضر كيميائيا من الخارج، كان ذو نفاذ صلاحية بعيدة المدى لنزع الإحساس بالمواطنة، مع فقدان الشعور بالولاء للأرض، هكذا غدوت اعزف وأغني على نفس أوتار الماضي معهم، والذي تغير فقط ألحان وكلمات منمقة، انضممت إلى غربان الزمن الجديد، والغريب!!! الكثير منهم تلونوا مع العلم أن الغربان لا تحمل الجينات الملونة، وهذا لم أدركه!! إلا بعد فوات الأوان، حين قَلّبت صوري علمت، أن من تغيرت معالم وجوههم وملابسهم قد عبروا الخطوط الوطنية، فانزلقوا حاملين معهم بطاقات عبور أخرى، بعضها احمر، والبعض الآخر ازرق، وهكذا... حتى تلونوا معها، أما أنا فبقيت أنعق تغريدا لهم وبهم، وهم يصفقون بأطراف أصابع، رضيت أن أكون غراب البين، الذي يكاد يحمل أسماء من لم تطالهم نقوش حجرية، عشت في قارورة الأنفاق والنفاق، عاقرت، وصاهرت عنق الزجاجة، تلك التي ما أن تفرغ، حتى أمسك بأخرى، وأعمد على تجرعها رغم مرارتها، كنت في وقتي ذاك قد تآخيت مع عقارب ساعة وزمن، عمل بدوره، فسن روس سهام صدئة لإعادة صياغة، عنوانها بات محفورا في ضمير التأريخ، أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه يقطعك، هكذا لعبت دوري في كوكبة البهرج الخداع، فأطلقت الذباب باديا كالفراشات، تجذبه الرغبة في التجمع على بقايا رحيق عسل، بَيدَ أني لم استسغ الفكرة، كون رحيق العسل يجذب الكثير، أي العديد من أنواع الذباب الذي أخذ يعبث يمينا وشمالا، وقتها طرأت لي فكرة! وهي أن اعمل على التقسيم الذي لاشك سيفصل الأنواع عن بعضها البعض، كون كل نوع يأخذ حصته مما يرام، وهكذا استشرى التوافق، وبات التآلف حليف الجميع، شُكلت الخلايا في مجمعات، لا يدخلها إلا من حمل الوعاء دبقاً في اقتناص فرص، أوكُل من يرمي بنرده كسبا لأغلبية جمع مراهنات، كنت حينها كقارع طبل في شهر بلا صيام، أدعو دائما الآخرين إلى سحور، ليتسنى للغربان من لملة قوت محرم، كانت الأيام قد حملت سهام الوقت نبالا، وعقفت الرياء قوسا تجهيزا لإطلاقها على صدور معوزة، فقدت الإيمان بمن لبسوا أخلاق الفروسية درعا لامعا، وتوسدوا أسلاك الحاكيات نعقا ببوح معاناة، وعجز من توفير البدائل، أملاً بمستقبل مشرق لهم، مظلم على غيرهم، كانت الجيوب تنتفخ أسرع من البطون حتى اتخمت، فعمدوا إلى مَعِدات بنوك خارجية وظفوا فيها النفاق أرصدة مجمدة، ذات صلاحية غير منتهية، كانوا قد منعوني من صنع ثقوب غربال كفتحات تهوية، لأني اختنقت ببراز نتانتهم وصنيعهم، فطفقت انشد الهواء بعيدا عن مستجدات لجان انبثقت لتكون نوافذ تبرير، وتسليك أمور، إلا أن الوقت قد أزف، فلا عودة تنفع لغراب ينفخ بوقً ساعة نشور، هكذا بقيت وحرماني يقودني إلى هاوية سحيقة، بعد أن رمت بي الغربان، كون عزفي بات مملا وكوني صنعت فتحات غربال لدخوأمير القصة القصيرة سيد الكلمة ومروضها القاص عبد الجبار الحمدي - تحية الله عليك
العنوان يحمل دلالات رمزية مكثفة يحث إلى البحث عن ماوراء التركيب اللغوي ومفارقاته .
قصة متميزة في قالب فني تعبيري يؤمها عنصر التشويق .
قدرة فائقة على تحريك عناصر القصة باسلوب يضفي المتعة والتأمل .
طوّعت اللغة بذكاء في بلورة الفكرة وشحذت حواسنا لتتبع الفكرة حتى النهاية .
دام لك بهاء القص وبهاء الحضور
الأستاذ القاص والمبدع عبد الجبار الحمدي, أحسنت في توظيف هذه اللغه الرمزيه والتي تعد اليوم من الأساليب الممتعه والمحببه للمتلقي والتي تعبر عن هموم مواطن وبلد مستباح وهمم منضويه تحت وطأة حراب الغدر والهمجيه, غير أن الأمل وضاء أن شاء الله طالما أن هنالك أراده وفهم موضوعي شامل للأخطار التي جلبها الغازي الذي أفترى على القيم والمثل....
لك أخي الأديب عبدالجبار الحمدي فائق الأعجاب والتقدير..
فهــــد عنتـــــر الدوخـــــي
وأنت تتلوا آيات العنوان، وتجتهد لِتَتَبَيَّن أصداء التغريد فيه كما غردت الغربان، فانسلخت من جلد شؤمها وشقائها، ولبست جلد الأنفاق والنفاق، طواعية أو إكراها؛ يطالعك - على غير عادته- القاص العراقي عبد الجبار الحمدي بوجه عبوس قمطرير يرسم بخدوده وانكماشاته سُوَرَ الألم والحرمان والفساد التي شاركته لحظات البؤس والتمزق النفسي حين لاك فيها الزمن بعضا من أسرار حياته، وأخضعه الفقر لطقوس الاستكانة قصرا وإجبارا من دون سابق مصحف، كما لو أنه غراب تماهى مع سواده فأضحى التوأم الذي ينفث سموم الضياع في جب الحياة وغياهبها.
بيد أن الزمن ليس كالزمن. استدارت الحياة بخطوبها ومسراتها، بأفراحها وأتراحها، فأسقطت" الكثير ممن وقفوا يوما جلادين حول واحات الحرية" يرفعون أقدامهم تعففا من سطوة الأرجاس، وتأملا في مستقبل مستنير، يرون فيه أحلامهم ويبنون فيه جناتهم. بينما في الضاحية الأخرى عفّ الغراب عن التغيير، عدا عن صوت الوطنية الذي جاهد من أجل أن يجعله على لحن الوطن، إلا أنه أبى المطاوعة له فانقطعت أوتاره عنه بفعل الطرقات المتشققة التي لطالما عمل على تعبيدها وإصلاحها، غير أن الفشل والعجز كانا يلاحقانه، كحال "الذين فتقوا مشيمة الإنسانية، وامتصوا من حبلها السري مغذيات وطنية وهمية، ثم قطعوا الثدي الحقيقي و لجئوا إلى شرب الحليب المعلب"، ومعه فقدوا الشعور بشيء اسمه الولاء للأرض والوطن وللذات والهوية.
والحقيقة أن الوطنية بما هي قيمة لاتُصنع صناعة، ولا تُدر درّا، وإنما تولد بلون الدم، وتسيل بسيلانه، فتكبر فيه على لحن التضحية، وطقوس الوفاء. لاأعتقد أن معناها وحقيقتها يُدركها أحد ممن ابتاع المال والجاه والسلطة بالهوية والشرف وهوى الأرض.أو ممن "حمل الوعاء دبقاً في اقتناص فرص، أوكُل من يرمي بنرده كسبا لأغلبية جمع مراهنات"، إذ من الكشف عن حياة التردد والتملق والتنكر للهوية، إلى تصوير "حربائية" الزمن، مرورا بسعي الذات نحو سكينتها، حدثتنا سطور "عندما تغرد الغربان" محادثتها الجهرية التي يسمعها أهل الدثور والفجور في آن واحد، ومكان واحد.
ولعل هذا يكون محتوى التوصيف البليغ الذي عايشه القاص في لحظة من لحظات حياته ولربما حياته كلها. كان مقصده منه العمل بمبدأي الانعكاس والالتزام بحسب زعماء النقد الاجتماعي في أفق تجلية الوضع والانعتاق من ربقة الهزائم والتبعية الشائهة التي لوثت سمعة الشرفاء، ودنست أرض الصبر والنقاء...
لكن العيب ليس في أن يسعى الإنسان في الأرض، أو أن يتحرى الرزق الحلال في أمصارها، لكن العيب كل العيب؛ أن يطغى ويتنكر للأصل والفضيلة،أو الأنكى منه أن يبيع دينه بالدنيا، ويشتري الزائل بالدائم، "ولا عودة تنفع لغراب ينفخ بوقًا ساعة نشور".
بيد أني أريد أن أهمس في أذني هذا المسكين المبتلى قائلا:"وهل يضر السماءَ نبح الكلاب"؟ فكم من مستدرج بالإحسان وهو لايدري، وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا، وأكفانه في الغيب تُنسج وهو لايدري.