قصة قصيرة/عقيل هاشم الزبيدي
Tue, 7 May 2013 الساعة : 0:16

المغني الحزين..!!
المقهى صاخب يعج بالحركة، ماسحو الأحذية ومعهم صناديقهم، باعة الكعك والجوارب والمتفرقات ومعهم سلال أو أكياس مدلاة من الكتف، يمدحون بضاعتهم بأصوات منغمة، ويجهد كل منهم أن يعلو صوته على أصوات الآخرين، بينما الرواد جالسون إلى طاولات مستديرة رصت بازدحام ولا يكفون عن الصخب، ويناور النادل بمهارة بين الطاولات رافعاً الصينية إلى أعلى، وهو يبلغ الطلبات بصوت عال إلى وعلى الماشي يمازح الاخرين.
صاحب المقهى إلى الآن مازال مصراً على عدم تبديل اسم المقهى.فلقد تغير كل شيء .ولت الحرب تماما والى غير رجعة.
في الجانب الاخرأصوات أحجار الدومينو تدوي عالياً، وحول اللاعبين يجتمع هواة الفرجة والألفاظ اللاذعة والمراهنة على هذا اللاعب أو ذاك، والتعليقات الحماسية والحدة والشجار، وكان مشجعو لاعبي النرد يتسمرون لحظة قبل إلقاء الزهر، وينقطع الضحك والجدال الحاد، وعلى الفور يتفجر الصمت الواهي بصيحات الإعجاب الصاخبة واللعنات والسباب، وأصوات باعة الصحف الرنانة تقتحم هذا الهرج والضجيج.
صاحب المقهى ينظر بعين الاستغراب إلى زبائنه.. ذاك فقد إحدى ذراعيه.. وآخر إحدى ساقيه، وثالث حفرت الشظايا في جسده خنادق..
احدهم يتحدث بحسرة الآن انتهت الحروب بعد أن دفعنا الثمن باهظاً، والجميع نسينا، والدم الذي سفحناه صار ماءا ..!
وصل الحكواتي، هدأ الضجيج، لاعبو النرد توقفوا عن اللعب بأمر من صاحب المقهى، النادل طرد الباعة المتجولين، أخذ الحكواتي مكانه في صدر المقهى، رمى السلام على الحضور وبدأ الحكاية:
( كان يا ما كان.. ياسادة.. يا كرام.. كان الميدان فسيحاً، تجوس السكينة في أرجائه المترامية، وفي أقصى اليسار يجري الماء صافياً زلالاً في بحيرة مستطيلة، ياله من منظر رائع.
لحظة و أقبل حاكم المدينة إلى المقهى بخطوات وقورة متزنة، تشع من وجهه هالة من النور والنقاء,صمت من في المقهى تماما وفرش له بساط قرمزي.
جلس على كرسيه المبهرج خلف الطاولة المزركشة، أشاح بيده في الهواء، فاندفع النادل لتنفيذ طلبه...
صمت الحكواتي ليدلق في جوفه قليلاً من الماء، ثم عاد يكمل الحكاية:
( وفي المساء يا سادة.. يا كرام، استدعى حاكم المدينة إلى قصره حكيماً، ولما دخل عليه قال: مولاي حاكم المدينة، دعوتك قطعت عليَّ وحدة كنت أنشدها، وأقلقت راحة كنت أبغيها.
- هذا خير أيها الحكيم من أن أكون في وحدتي المتوحشة، وقلقي المفترس.
- عجباً.. وهذه المهرجانات والعروض اليومية.. ثم تشكو من الوحدة والقلق.
- نعم.. لا تعجب لهذا، فهذه المهرجانات والعروض تقام بأوامري.. محاولاً من خلالها ادخال السكينة إلى نفسي.
- إني لا أفهم شيئاً يا مولاي.
تنهد حاكم المدينة بشدة تدل على همٍّ عظيم، ثم قال: الناس تكرهني، الجميع يدبرون حولي ما أخشاه، الكل يريد طعني من الخلف، حتى أنني ألمح في أصدقائي التذمر، وفي جنودي روح التمرد، فماذا أفعل؟
قال الحكيم: هه.. تسألني ماذا تفعل؟ ألم تفكر بهذا عندما كنت تعدم المئات لأنهم رفضوا الاشتراك بحروبك الهيستيرية، لماذا لم تفكر بالأمر عندما ملأت سجونك بأناس لم يخلقوا لها، فما أمرك يا مولاي؟ تودع الأشراف خلف القضبان، وتطلق الذئاب في بلاطك حتى صرت طاغية، لكن اعلم.. رغم عرشك.. فإنك لست الأقوى في هذا المكان، وأن صراعاً سينشب في هذا القصر عما قريب وربما لن تجد أحداً يقف إلى جانبك.
ارتعش الحاكم كمن أصابته حمى، وسأل: لكن ماهي الوسيلة كي أنهي هذا الصراع لصالحي؟
ابتسم الحكيم، وقال: دائماً تريد أن تنتصر أليس كذلك؟ إن روح الشيطان تسكنك يا مولاي واعلم أن الحقد بدأ عليك منذ إعدامك أول شاب، وحرقك أول سنبلة، وهذا الأمر كبر مع مرور الأيام حتى صار خطيراً.
- إذن بدأ الصراع منذ زمن، وأظنك تعرف كيف سينتهي؟
- نعم.. ولكن معرفتي لن تسرك.
- قلها.. فلدي الشجاعة الكافية.
صمت الحكيم قليلاً، ثم قال: مولاي.. لا أظنك ستدفع ثمن كل ذنوبك.. لأن حياتك أرخص منها مجتمعة، فالأمهات ينتظرن الفرصة لغرس أظافرهن في صدرك، ويعددن اليتامى لغرس أشواك الحقل في جسمك، والأشراف خلف القضبان يرسمون الخطط من الداخل لتفجير قصرك، والذئاب حولك تتأهب للانقضاض عليك.. وتأخذ مكانك.
سأل الحاكم: كل هؤلاء يعدون لي العدة.. حتى أعواني وأصدقائي؟
أجاب الحكيم: ما كان للظالم يوماً أحد يحبه أو يخلص له.. ومن يخشاه يبتسم له.
بدا الحاكم حزيناً منهاراً، فقال الحكيم مستهزئاً: إن حزنك لمزيف يا مولاي، كيف تحزن على أمرٍ فقدته، ولم تبذل جهداً للحفاظ عليه، سأنصرف الآن وأعود وحيداً إلى مكاني البعيد، عليك أن تنتظر الموت، سيأتيك أما من الأمام أو من الخلف، فهذا أقل ما تستحق إزاء أفعالك.
وبينما كان الحكيم منصرفاً، قال الحاكم : ما الذي يمنعني من ذبحك كالشاة أيها العجوز الأحمق؟
وقف الحكيم، ثم التفت برأسه فقط وأجاب: هذا يسعدني حقاً.. لأني لا أحب أن أشهد انكسارك ونهايتك، هذا الأمر يثير الشفقة في نفسي، ولكن اعلم أن نهاية المعركة بينك وبين خصومك هي واحدة مؤكدة.. بموتي أم لا، وبقائي حياً لن يغير من الأمر شيئاً.
وخرج الحكيم من القاعة الملكية تاركاً الحاكم في خوف عظيم).
صمت الحكواتي ثانية، دلق في جوفه كوباً من الماء، ثم قال: وإلى اللقاء مساء غد لأسمعكم بقية الحكاية.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولم يكد الحكواتي ينهي كلامه حتى انتشر في المقهى صوت غناء، سأل أصدقاءه: هل تسمعون صوت غناء؟
- ألا تدري بهذا المجنون؟
- كلا.. لا أعرف أمره.
- أوه.. إنه مجنوننا اليومي، يأتي كل يوم إلى هذا المقهى، ويزعق من الصباح حتى المساء، فإذا لم يشاهدوه أو يسمعوه.. يبدو أن المكان ينقصه شيء ما.
جذبه ذلك الصوت الجنائزي وهو يتماوج بين النغمات الحزينة ، لكأن موجة هائلة من الدموع طاردت زورقه الصغير ثم قلبته وابتلعته، ثمة أنات غامضة تتطاير بين الحين والآخر فتكسب الغناء نسقاً جميلاً، لكن كلمات الأغاني غير مفهومة.. فالمهم أنه لا يعلم بالآخرين، وهذا على ما يبدو قد حقق للمؤدي شعوراً عالياً بالأمان والسيطرة على زمام اللحن، حيث لا رقيب، فهوالمغني وهو الجمهور.
حضر في اليوم التالي كي يسمع بقية الحكاية، المقهى تعج بالحركة كما في الأمس، ولكن ما فاجأه تأخر الحكواتي وغياب المغني، سأل النادل:
- ألن يحضر الحكواتي؟
- مات خنقا عند منتصف الليل في منزله.
- وأين المغني؟
- أي مغن؟!
- مجنونكم اليومي!!
-في طريقه إلى المقهى افترسه كلب..انفجر صاخب المقهى راكضا إلى خارج المقهى,نظر نحو السماء.. يسألها المطر...!!