نافذة بلا ستار.قصة قصيرة بقلم // منى عبدالغني البدري - الناصرية

Sat, 7 May 2011 الساعة : 18:13

 هدوء صاخب يملؤ المكان ...الأوراق مبعثرة في كل مكان وحاجيات أخرى..الجدران معتمة تشكو حزنا ضامر.. الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل ..اليوم هو الخامس من كانون الأول.... دموع الرجال إن سقطت فهي لاتسقط إلا من أجل شيء حقيقي ..وها هي دموعه انهمرت حين تنهد بتلك العبارات...ستكون أتعس سنوات عمري ..بعدها يدمرني..مابها الأقدار فرقتنا ..؟؟
استغل عتمة المكان وسواد الليل الحالك ليترك دموعه تسدل جدائلها بحرية وجرأة..انتهض من فراشه الدافيء ليقترب من نافذة دون ستائر..ارتفعت أنامله القوية المليئة إلى مقبض النافذة..رغم ماعرف عنه من قوة فهو اليوم يشعر أنه كائن ضعيف جدا ..لايقوى حتى على إمساك مقبض النافذة ..مع ذلك شعوره بالاختناق جعله يصارع كل شيء ليستنشق الهواء الطلق..وليرحل بعيدا عن هذا المكان..ببساط خياله نحوها ..(سأودع أمي وأبي وأخوتي وكل ضاحيتي لأعانق عينيك حبيبتي..على الأقل لن أعيش بخيالي بعيداعنك..)
قادته خيالاته إلى تلك الأجواء الخضراء ..وشلالات الشمال المتدفقة بكل كلمات العشق التي تبادلاها معا..مازالت نغمات ضحكاتها تمتع مسامعه..وخصال شعرها الذهبية تصنع أجمل معزوفة بتهوفونية..وهي تتطاير نحوه تعانق بشرته الجنوبية السمراء..كانت عيناها تأخذانه في عالم ساحر مليء بالحكايات الأسطورية الرائعة..وقوامها الرشيق الجذاب يشعره أنه أمام ملكة سبئية مفعمة بالجمال والغموض الذي يجر كل من يتأمل به إلى التشوق للاقتراب أكثر لكي يكتشف المزيد لإدراكه أنه كلما زاد اقترابا فإنه سينبهر بمزيد من الجمال والسحر...قصص كثيرة استعرضتها ذاكرته في تلك الليلة وهو يقرؤها على شفتيها الورديتين...حقيقة أم خيال تلك الأيام التي عاشاها سوية...وقد رسما على ضفاف النهر وحواف الأشجار أروع خطة لحياة دافئة هادئة ...لم يحلما إلا برباط مقدس يجمعهما تحت سقف آمن ..لكنها الأقدار حين تصنع المصير...والأعراف والقوانين حين تكبل الأحلام..والعوائق التي تقتل الخطط البريئة..والحقائب التي تعلن الرحيل مرتدية ثوب الحداد على فراق الأحبة...كتل طينية صغيرة على حافة النافذة تكونت حين تعانقت الأتربة مع دموعه الساخنة...(ملعونة أمريكا ) قال هذا وهو يسخر من نفسه ..ثم تنهد قائلا بإستزراء :\" ماذنب الأرض التي احتضنت حبيبتي..؟؟في الوقت الذي لم تجد فيه شيئا يجعلها في حجر احتواء وطنها.. وطنها ...آه حبيبتي هذا الوطن لن ينساك أبدا لأنك شيئا منه ..لأن هناك كائن يعيش ويتعايش كل مابه من لحظات وأماكن .. وكل شيء يذكرني بك .. فمتى ستعودين ؟؟ وهل ستعودين.

كانت أجفانه ملمعة بدموع حارقة ..وقلبه يعتصر ألما.. وشيء من البكاء الخانق يطوق حنجرته المغلفة بكبرياء الرجولة..انهزم من أسر النافذة متجها إلى باب غرفته فتح جزءا من الباب بحذر ليتأكد أن كل من في البيت نيام ..أقفل الباب باتقان.. تأكد من إغلاقه من مقبض الباب انحنى أرضا على أوراقه المبعثرة ولملمها..رفعها على المكتب جانبا ..انتبه لهاتفه النقال الصامت ..لاحظ أن رسائلا كثيرة قد وصلت إليه لم ينتبه لعددها ولم يحاول فتحها لأنه مدرك تماما أنه لايعيش العالم المحيط به .. بل أنه في عالم مخفي وخيالي بل أن خياله الواسع قد عانق خيالات ذكرياته مع حلمه الوحيد الذي لم يحققه وأنه يواجه شر هزيمة كما يعتقد هو ..فرصة لاتعوض هذا الهدوء المهذب ..والعتمة الخرافية ..جلس على كرسيه بجانب المكتب أمسك بهاتفه النقال وقد تصفحت أنامله باقتحام مجموعة من الصور المنوعة مناظر طبيعية .. معالم لبلده مأخوذة بطريقة فنية رائعة ..وصور لأطفال في غاية الجمال .. ومن بين كل هذا الجمال والروعة وجد صورتها .. كانت ما يبحث عنها .. صورتها ..كل شيء في هذه الصورة يحدثه ..يعاتبه .. يناديه ..ابتسامة ..أم حزن ..صرخة .. أم هدوء..كل شيء يراه في هذه الصورة أنها أثمن مايملك بالنسبة له..أغرورقت عيناه البكاء مرة أخرى .. لكن هذه المرة اشتركت حنجرته بالمواساة لحاله..وانهمك بالبكاء كطفل فاقد لأمه...تائه بين أزقة المتاهات ..تمنى لو احتضنته بيداء واسعة وانفردت بهذا النحيب المختنق...( رباه أهو البلاء الذي يبتلى به الإنسان ..؟؟؟؟أي بلاء هذا !!) كان صوت العقل يكتم صراخا دفينا في عقله..تصفح هاتفه النقال مرة أخرى ..تحدث مع صورتها كان يخال له أنها تسمعه..بل وتحاكيه..غفت عيناه برهة من الوقت على خيالاتها...ثم بدأت أصوات ملاعق الشاي وهي تتراقص بين أقداح الشاي الساخنة تعلن دخول الصباح وان جميع أفراد عائلته قد أفاقوا وبدؤوا يتناولون طعام الإفطار..الضجيج من حوله يصنع حوله شعورا متوترا..والدته تنادي عليه بصوت يائس من استيقاظه لعله يكسر قاعدة النوم المتأخر..ضجيج السيارات ..وصغار يتبادلون الحديث .. ذهبت ساعات الليل الصامته بكل ماتحمل من حزن وأحلام وتصفح في الذكريات ..ضجيج الصباح اقتحم كل شيء بثوبه المشمس الجريء ..منبه الساعة بدأ يرن..إنه جزء من الضجيج لكنه يعلن أن هناك عمل يجب القيام به.. فالعمل عشقه الثاني في حياته..اتجهت عيناه نحو ملابسه السوداء بسواد ليل البارحة..تأكد أنه عندما يفيق من نومه على مكالمات المدير الغاضبة سيرتدي هذه الملابس ..هكذا هو منذ أن حدث ماحدث جعل من السواد رداءه الدائم له انتهض بثقل متكاسل وتقدم نحو نافذة غرفته وأغلقها ثم تذكر أنها مازالت نافذة بلا ستار.

 

Share |