انهيار المجتمعات البدائية في عصر الإلكترون-مهدي الصافي
Thu, 14 Jul 2011 الساعة : 17:53

انهيار منظومة القيم الاجتماعية لأي امة أو شعب تعني عودته الخطيرة إلى مرحلة التفكك والانعزال أو الانقطاع الحضاري عن الأمم الأخرى,وبداية لظهور حالات وثقافات بدائية متخلفة منحطة ,ومؤذية في أحيان كثيرة,تقف عاجزة أمامها كل المحاولات الحثيثة(الثورية )للنخب الواعية(هذا إن كانت هي أيضا بعيدة عن تأثيرات تلك البيئات) المخترقة لجدار تلك البيئات المريضة ,من أن تحرك تلك التجمعات الراكدة فوق أوحال الجهل المتراكم.
يقول جان جاك روسو(لم ير قط أن شعبا عاد إلى الفضيلة بعد فساده)
بلا خجل أو وجل من النفس والآخرين علينا أن نعترف بحقيقة واقعنا الاجتماعي المتحلل وبيئتنا الفاسدة المنحرفة والمنقطعة عن تراثنا العربي الأخلاقي والإسلامي,فمن العيب أن يتستر الناس عن جرائم وفساد أبناءهم وإخوانهم وأقرانهم لاعتبارات اجتماعية لم تعد أصلا قائمة أو محترمة ,بل علينا أن ‘نقيم مرحلة التراجع والانهيار الثقافي المستمر لمعظم بلداننا العربية,الذي يشمل كل مجالات ومرافق ومؤسسات الدولة والمجتمع,بغية انتشال مايمكن انتشاله من بقايا ثقافة المجتمع الأصيلة, والتي يحملها بالطبع جنود الثقافة والفكر والوعي المجهولين.
العراق احد تلك البيئات الفاسدة التي انطبعت جرائم وآثام وذنوب شرائح واسعة من المجتمع في وجوههم ووجوه أجياله,فقد مر تصريح بوش الأب في حرب الخليج الثانية المتعلق بتدمير العراق وسحق شعبه(بقوله سيعود العراق خمسين عاما إلى الوراء) مرور الكرام,بل استهزأ البعض بتلك التصريحات الإعلامية النارية وعدها تعبيرات مضخمة بعيدة عن الواقع,ولكن هذه الصور المنعكسة كنتيجة لتلك الأزمات والصراعات والتجارب الدولية المطبقة في العراق, بعد أن أضافت جريمة الحصار الاقتصادي وحرب الابن بوش الأخيرة مئات من أعوام التراجع والانكسار,خلفت لنا أرضا محروقة جرداء لا حياة فيها,يحتار المرء من أي مجال يبدأ الحديث, وعن أية شريحة اجتماعية يمكن له أن يتناول مأساتها,فهذه شريحة الأطباء تنقل لنا واقع إنساني مخيف وبائس, يتاجرون بأمراض وأوجاع الناس الفقراء,
حتى أصبحت بيوت الناس المساكين صيدليات مصغرة تعج بمختلف أنواع الأدوية الغريبة,في أبشع وافضع حملة لا أخلاقية تقودها كوادر أطباء الحصار الاقتصادي ,لاتهمهم من مهنة الطب إلا الأموال التي تضاف لهم مزيدا من الأملاك والعمارات والأبنية الشاهقة وقصورا فاخرة,
هذه النخبة المقدمة والمحترمة في اغلب دول العالم لما تحمله وتقدمه من أعمال ووظائف وجهود إنسانية نبيلة,اليوم لاتكتفي بإدخال مريض واحد إلى صالة المراجعة في عياداتها الخاصة ,بل بأكثر من مريض(في حوار مع نقيب أطباء إحدى المحافظات اعتبر أمر إدخال أكثر من مريض أمرا اعتيادي وطبيعي),
وان اعترض احد على أفعالهم المشينة يخرج جمع منهم في اعتصام وإضراب عام عن الدوام(البعض منهم يعمل في المستشفى والجامعة للتدريس والعيادة من اجل استقدام أكثر عدد من المرضى والبقاء على اتصال بالمؤسسة الصحة الراعية لهم إضافة إلى أعماله التجارية الأخرى),
هذه الشريحة مع شريحة التربية والتعليم وحتى شريحة القضاء والقانون وبعض المحسوبين على الثقافة تسلك السلوك العشائري لحل النزاعات والخلافات الشخصية(نتذكر ماحصل لوزير الصحة السابق الحسناوي مع واحد موظفيه عادل محسن ), التي يمكن أن تحصل فيما بينهم إثناء العمل, أو مع أي شخص أخر,تحولت المدن والمحافظات العراقية إلى قرى بدائية غريبة الأطوار, بفعل التوسع السكاني والامتداد الجغرافي بين تلك المحافظات والنواحي والقرى القريبة منها,وكذلك لأسباب الهجرات المتكررة لأبناء الريف من الاقضية البعيدة نسبيا عنها,فبعد أن استغل البعض ضعف الإدارة الحكومية للدولة في متابعة المتجاوزين على أملاك وأراضي الدولة من قبل شرائح محتاجة أو نفعية,بدأت بعدها عملية تجريف البساتين وفرزها والمتاجرة ,ومن ثم بيعها كقطع أراضي(بطابو زراعي)لبناء مساكن فيها,وقد تحولت بالفعل بعض هذه البساتين إلى تجمعات سكنية كواقع حال يصعب معالجته مستقبلا.
النموذج العراقي وتجربة نخبه السياسية والاجتماعية وحتى الدينية في محاولة إعادة بناء الإنسان والبلد وإحياء بنيته التحتية,
أثبتت أن الشعوب المتأخرة عن الركب الحضاري غير قادرة على النهوض من جديد بفعل آليات وأدوات وأفكار بدائية غادرتها معظم شعوب ومجتمعات دول العالم الثالث,ولهذا ليس من الإنصاف اعتبار العراق دولة من دول العالم الثالث ضمن قائمة التصنيف التي تشمل دول مثل تونس ومصر والأردن وسوريا ودول الخليج العربي وحتى اليمن,ولكن هي دولة متراجعة إلى صف العالم الرابع البعيد عن عصر الإلكترون والتكنولوجيا وخارج أسوار وحدود القرية الكونية,
هذا العالم الذي يكون فيه أبناء البلد وكافة طبقاته الاجتماعية أسيرة للعقد والموروثات التاريخية(العرقية والطائفية والاجتماعية وحتى الثقافية المتطرفة), متراجعة أمام تقدم العالم ,بحيث أصبحت قصص النزاعات والمشاكل العشائرية احد أهم معاول الهدم للمجتمع وللمدنية العراقية,بعد أن سخرت الدولة كل إمكاناتها وخدماتها وإعلامها لدعم وجود الثقافة القبلية العشائرية في مشروعها السياسي الديمقراطي المفترض به ان يكون مشروعا حضاريا يحترم الإنسان بغض النظر لانتماءاته العرقية أو الطائفية ودون الالتفات إلى لونه ودينه وعقائده وقناعته الشخصية, ولهذا تبقى كل المحاولات الشخصية او المهنية المحلية للنهوض بواقع البلاد محاولات عبثية فارغة,ليس لها أي تأثير على ارض الواقع,وإنما هناك حملات مسعورة لكسب تلك التجمعات القلقة تحت ذريعة الانتخابات وجمع الأصوات المكفولة ,والبحث عن وسائل الربح والمنفعة الفردية أو الفئوية بأية وسيلة حتى وان سالت فيها الدماء البريئة.
إن معايير ومقاييس بدائية المجتمعات في عصر الإلكترون تختلف بالطبع من مجتمع لأخر,إلا إن هناك عدة معطيات مادية ملموسة ونتائج ميدانية معروفة تجعل عملية التحديد والتقييم الذاتي لحالة تلك المجتمعات عملية معقدة
(شاهدت إحدى الموظفات وقد أخذت جهدا في انجاز معاملة بسيطة فقلت ماذا لو كان عملك بالكمبيوتر قالت يقولون إنهم سيدخلونه الخدمة بعد اشهر واشعر بالخوف لاني اعتبره أمر يصعب تعلمه بسهولة قلت هناك برامج خاصة لعمل الدوائر وليس الأمر أنت والكمبيوتر),
لان الطبقات المفكرة الواعية التي تعيش وسط تلك المجتمعات يصعب عليها تشخيص علة ذلك المرض ,ولهذا تبقى الرؤيا الخارجية للأشياء مع الاحتكاك والتواصل الداخلي مع البيئة المحلية,هي أفضل وسائل المعرفة القريبة من الواقع,
ولهذا يمكن ذكر عدة قضايا موجودة في المجتمع العراقي اليوم,تعطي لنا أمثلة واضحة عن حالة التراجع الشاملة التي يعاني منها نفس المجتمع,الفساد المالي والإداري وانهيار الطبقات والشرائح المتعلمة وانحرافها عن جادة الصواب في العمل والتنفيذ,واتساع رقعة الغش والخداع والاحتيال بين المسؤولين والموظفين والمقاولين والعمال والتجار, حتى تحولت وجوههم إلى نفس ألوان وجوه أزلام النظام البائد,
لاشيء يمكن له أن يكون شاهدا للعصرعلى قدرة أبناء هذا البلد في الاستفادة من التطور التكنولوجي العالمي ليكون حافزا قويا للعمل الجاد(اللهم إلا صبر الناس البسطاء على هذا البلاء),الشرائح الشريفة النظيفة اليد مبعدة وغير مسموح لها بتجاوز خطوط الفساد المطوقة لرقاب الشعب,
أكثر تلك العناصر الفاسدة هي المستترة خلف المسميات والعناوين الإسلامية,
أما بخصوص ظاهرة العنف الاجتماعي المتصاعدة وتيرتها باستمرار, فهي انعكاس طبيعي لبشاعة الحياة اليومية المصطدمة بالخدمات الغائبة والأجواء المغبرة وغلاء الأسعار وغياب الاهتمام الحكومي بمعاناة وصحة المجتمع واحتياجاته,
نعم جلاوزة وخفافيش ولكن ليست على طريقة رئيس القائمة العراقية,وإنما على غرار المصالح المتبادلة,لمشروع التوافق والتحالف السياسي المصاحب لملفات جرائم السرقة المنظمة لثروات الشعب,السؤال الذي سيبقى مطروحا دون حل لصعوبته واستحالة مواجهته بالآليات والأدوات الثقافية الحالية,من يستطيع إنقاذ هذا البلد المنهار ,وأين هي الإرادة الوطنية القادرة على مواجهة حملات التخريب المتعمدة لبلاد مابين النهرين,ومن يريد أن يشرع بالعمل فعليه أن يحمل معاول الثورة ليتمكن على الأقل من تدمير أسوار الخوف ويطيح برموز الجهل وشواخص حكومة الريف.
ترى هل هناك سبب طبيعي وراء عبور سحب الغيوم الممطرة لأرضنا لتنزل بركات خيراتها في البلدان المجاورة,فتفيض أرضهم (ومرابعهم) بالعطاء وتجف منابعنا بالغبار