نعم يا ياس خضير العلي الثقافة العربية أقدم من اليونانية والعبرانية!(2)-مصطفى إنشاصي

Sun, 10 Jul 2011 الساعة : 12:17

انتهينا في الحلقة الماضية إلى أن (إسرائيل ولفنسون) وأنصار نظرية (الجنس العربي الواحد) وعلماء ما يسمى (اللغات السامية) يريدون القول أنه بعد أن انقرضت جميع اللغات (السامية) الأخرى ولم تعد لغات حية ولم يبقَ منها إلا اللغة العربية الثابت قطعاً أنها استمرار للغة الأولى لجميع تلك الشعوب، وبحكم أن اللغة العبرية الحالية هي الأقرب إلى اللغة العربية -بحسب زعمهم- فإن اليهود الحاليين -يهود الخزر المتهودون في القرن الثامن الميلادي- الذين يتكلمون اللغة العبرية هم أحفاد بني إسرائيل الذين كانوا مع موسى ووعدهم الرب بفلسطين (أرض الميعاد) الذين هم من نسل مَنْ يزعمون أنه (سام بن نوح)، وأنهم أبناء عمومة العرب الذين يسكنون الأرض من الفرات إلى النيل ولهم حق فيها، في الوقت الذي لا يمتون بأي صلة عرقية لا لبني إسرائيل ولا لعرب! وعلى ذلك تكون الخرافة التي زعمتها التوراة عن سيدنا نوح وأصل الأجناس البشرية صحيحة، وهي صحيحة بدون ذلك عند النصارى الذين يؤمنون بالتوراة على أنها (العهد القديم)، وأنها وحي ومنزلة من الله على سيدنا موسى! وكذلك صحة خرافة التوراة عن مباركة الله لـ(سام بن نوح) وذريته وحرمان (كنعان بن حام) بسبب خطيئة أبيه! هنا سننفي صحة ذلك:
العبرية الحالية ليست العبرية القديمة لغة (الكنعانيين)؟!
إن زعم علماء ما يسمى بـ(اللغات السامية: أن اللغة العبرية الحالية هي نفسها اللغة العبرية القديمة غير صحيح! فقد شكك العلماء المنصفين والموضوعيين والمستقلين في صحة أن اللغة العبرية الحالية التي يتكلم بها اليهود الخزر المتهودون هي نفسها اللغة العبرية القديمة، فالمعلوم أنه هناك شعوب كثيرة غير بني إسرائيل قد اعتنقت اليهودية وأكبرها القبائل الخزرية التي يؤكد (بنيامين فريدمان): أنها تشكل ما "لا يقل عن 92% من جميع مَنْ يزعمون أنفسهم (يهود) في العالم اليوم، ينحدرون مِمَنْ عُرفوا بـ(يهود) السلالة الخزرية تاريخياً ... [و] أن الـ8% المتبقية مِمَنْ يزعمون أنفسهم (يهوداً) يتحدرون من السكان الوثنيين البدو القدامى في إفريقيا وآسيا وحوض البحر الأبيض المتوسط" . وقد أصبح معلوماً أن تلك الشعوب كما دخلوا في اليهودية عقائدياً فإنهم أدخلوا معهم إلى اللغة العبرية الأولى كثير من مفردات لغاتهم، ولم تعد اللغة العبرية الحالية هي نفسها اللغة العبرية القديمة.
يقول الدكتور (صبحي الصالح): واللسان العبري شديد الشبه باللسان (الكنعاني). ووجوه الشبه بين العبري والعربي عديدة ... وأما عبرية اليهود الآن التي أصبحت لغة الآداب اليهودية المستحدثة فتختلف اختلافاً بيناً عن العبرية القديمة . ويرجعها الدكتور عبد الواحد وافي إلى أنها: مزيج بين العبرية والعربية واللغات الأوروبية الحديثة، التي كتبها عدد كبير من علماء اليهود والمنتمين إلى مختلف الشعوب الناطقة بشتى اللغات، ومنهم اليهود الألمان والإنجليز والفرنسيين والعرب .
وكذلك يعلم ويتجاهل أولئك العلماء المختصون فيما يسمونه (اللغات السامية) أن اللغة العبرية القديمة هي في الأصل اللغة القديمة للقبائل العربية (الكنعانية) التي سكنت فلسطين قبل مجيء يني إسرائيل إليها نحو 1200 ق. م، وقد استعارها منهم بنو إسرائيل بعد قدومهم لفلسطين وأصبحت لغتهم بعد ذلك. استعاروها منهم وليس كما قال بعض المستشرقين ونقله عنهم بعض المختصين العرب فيما يسمى (اللغات السامية) بـ(نظرية الصراع اللغوي)، وأنه كان يحدث صراع دامي بين اللغات كما كان يحدث بين القبائل ينتهي بالقضاء المبرم والهزيمة المنكرة والساحقة للغة على أخرى، وأن لغة بني إسرائيل، اللغة العبرية، قد دخلت في صراع مع اللغة (الكنعانية)، وقد كُتب لها النصر في نهاية المطاف وقضت وسحقت اللغة (الكنعانية)، كما قال الدكتور (عبد الواحد وافي)، الذي اعتبر اللغة العبرية أقوى اللغات الكنعانية وليست اللغة الكنعانية نفسها، حيث قال: "تُعد اللغة العبرية أهم اللهجات (الكنعانية) على الإطلاق". وأضاف: "أن اللغة الأصلية لبني إسرائيل قد اشتبكت مع اللسان الكنعاني في صراع انتهى بتغلبها عليها وفقاً لقوانين الصراع اللغوي" . ولم يقف الأمر عند قضاء اللغة العبرية على اللغة الكنعانية فقط ولكنها دخلت في صراع مع جميع لغات السكان الأصليين وانتصرت عليها، ويضيف في (صفحة 57): "واشتبكت لغتهم -يقصد العبرية- مع لغات السكان الأصليين وكُتب لها النصر عليها وفقاً لقانون الصراع اللغوي". ذلك في الوقت الذي يناقض فيه نفسه بنفسه عندما كتب في (صفحة 43) أن اللغة الآرامية قد قضت على اللغة العبرية: "ولم يأتِ القرن الأول من الميلاد حتى كانت الآرامية قد قضت على الفينيقية وأختها العبرية وكما قضت بعدها على الأكادية"؟! يكتب ذلك وهو نفسه أقر بقوة ومدى اتساع وانتشار اللغة الفينيقية (الكنعانية) وتأثيرها في لغات العالم المختلفة في نفس كتابه (الصفحة 36-37): "ومن الرسم الفينيقي أشتق كذلك الرسم الآرامي"! ويعلم أن "اللغة الآرامية مأخوذة عن لغات البلاد التي أقام فيها الآراميون، وكذلك الكتابة الآرامية بدأت بحروف مسمارية وبلغة آشورية وغيرها، إلا أن الآراميون أخيراً اقتبسوا الأبجدية الفينيقية المكونة من 22 حرفاً والتي ظهرت في نهاية الألف الثاني على وجه التقريب. وقد أضاف الآراميون إلى تلك الأبجدية الحروف الآتية وهي الألف والواو والياء . فكيف تكون في هذه الحال قضت اللغة الآرامية على اللغة الفينيقية وغيرها وهي امتداد وتطور طبيعي لتلك اللغات؟!.
أمثال تلك التناقضات التي كانت تواجهني أثناء قراءاتي وسعيّ لبناء نفسي فكرياً في سبعينيات القرن الماضي وشعرت أنها منهج شائع عند الكتاب والمؤرخين والمختصين العرب الذين أسسوا وأصلوا لموسوعة ومنظومة العلوم الإنسانية عندنا، لأن كثير منهم ينقل دون مناقشة أو مراجعة أو تمحيص ولا عرض ذلك على كتابه (القرآن الكريم) أصدق الكتب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإلا كان اكتشف أخطاء وتناقضات كثيرة ينقلها ويجعل منها مسلمات علمية وتاريخية لأجيال أمته وهو لا يعلم، ذلك ما دعاني إلى كتابة هذه الأبحاث محاولاً تقديم رؤية إسلامية وعربية لتاريخنا.
وإن كنت لا أستغرب ذلك من علماء الغرب المتأثرين بالتوراة إلا أني أستغربه وأدهش منه عندما أسمعه من عربي أو مسلم! خاصة وأن توراة اليهود نفسها تعترف بمدي قوة اللسان واللغة (الكنعانية) ومدى اتساع اللسان (الكنعاني) في بلاد غير بلاد (كنعان)، فقد جاء في (سفر إشعيا: 19-18): "في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة (كنعان) وتحلف لرب الجنود يقال لإحداها مدينة الشمس". وذلك دليل مدى التأثير (الكنعاني) على عقيدة وثقافة بني إسرائيل. وللأمانة العلمية أن البعض فهم ذلك النص على أنه إشارة إلى الإسلام الذي سيفتح مصر وانتشار لغة القرآن الكريم، العربية، في مصر، وأيضاً ذلك فيه دلالة على أن الكنعانية جذر العربية الحالية، وكما سيأتي فإن الحروف العربية اشتقت من الحروف الكنعانية والآرامية.
ولا أعلم كيف تكون اللغة العبرية لغة بني إسرائيل قد انتصرت على اللغة (الكنعانية) في الوقت الذي يُقرر ويؤكد فيه كبار العلماء والمؤرخين فراغ العقلية اليهودية من أي نظام حضاري أو ثقافي أو اجتماعي. وفي وقت أكد فيه المؤرخ الأمريكي الشهير (جيمس هنري بريستد): أن اللغة الآرامية "كانت اللغة التي يستخدمها يهود فلسطين في جميع البلاد التي تفرقوا فيها بعد سبي بابل، وبعد استقرارهم في كثير من البلاد في عهد الفرس... . أي أن اللغة العبرية لم تعد لغة حية ولم تصمد أمام قوة وتأثير اللغات الأخرى كما يزعم المستشرقون ومَنْ نقل عنهم. كما أن بريستد يُرجع كل تقدم حققه اليهود في فلسطين إلى اختلاطهم بـ(الكنعانيين) حيث يقول: "وقد أحدث اختلاط الطرفين تغيرات جوهرية في حياة العبرانيين". أما المؤرخ الفرنسي (غوستاف لوبن) يرى أنه: "لا يستحق اليهود بأي وجه أن يكونوا من الأمم المتمدنة". ويضيف: "إن تأثير اليهود في الحضارة العالمية كان صفراً". أما" جورج سارتون" أستاذ تاريخ العلوم في جامعة هارفرد الأمريكية يرى أن اليونان واليهود مدينين إلى سكان المنطقة فيما أخذوا عنها فيقول: "ولكننا نحن اليوم نعلم أن اليونان واليهود أنفسهم مدينون بذلك كله للمصريين والبابليين وربما لغيرهم أيضاً من الأمم التي تقدمتهم" . ويقول (شفيق مقار) عن نقل اليهود لثقافات ومعارف الشعوب السابقة ونسبتها إلى أنفسهم: إنه نوع من السطو الحضاري مارسه المحررون والمؤلفون بشكل لحوح في صوغهم للتاريخ وصنعتهم للمعبود وتجميعهم للكتاب وإرسائهم لأسس الديانة اليهودية. ذلك النوع من السطو فريد في نوعه، حقيقة أن كل ثقافات الشعوب تأثرت ببعضها وأثرت في بعضها وتفاعلت فيما بينها في كل العصور إلا أن حالة مؤلفي الديانة اليهودية تظل حالة فريدة لا قرين لها ولا مثيل لها في أي عصر وأي حضارة. ويتمثل ذلك التفرد من أن الأخذ كان وظل بغير عطاء" .
وإن كان القول بـ(نظرية الصراع اللغوي) مستنكرة عند السواد الأعظم من علماء اللغة بصفة عامة لأن اللغة تؤثر وتتأثر بنسب متفاوتة باللغات الأخرى، ويعتبر ذلك جزء من التمازج والتلاقي والتلاقح والتأثير الثقافي المتبادل بين الشعوب وثقافاتها وليس صراعاً ومعارك كالمعارك العسكرية التي تدور بين شعوب وقبائل تلك اللغات، إلا أنه في حال اللغة العبرية و(الكنعانية) تعتبر تزييف وتحريف للحقائق التاريخية الثابتة ومحاولة خبيثة للقول بالتفوق النوعي للغة العبرية لغة اليهود اليوم، كما هو التفوق النوعي والعرقي لليهود كـ(شعب مختار) وذلك جزء من محاولة التأكيد على صحة تلك القصة الخرافية في سفر التكوين عن تقسيم الجنس البشري موضوع حديثنا، ذلك لأن اللغة العبرية القديمة التي تحدث بها بنو إسرائيل وكتبوا بها توراتهم هي نفسها اللغة (الكنعانية) التي زعموا أنها هُزمت أمام اللغة العبرية!!.
وللرد على مزاعم أنصار (نظرية الصراع اللغوي) و(إسرائيل ولفنسون) وأنصاره من علماء ما يسمى (اللغات السامية) نقدم هذه الأدلة:
يقول الدكتور (عبد الحميد زايد): أنه كما تَعلم بنو إسرائيل من (الكنعانيين) حراثة الأرض وزراعتها تعلموا أيضاً "بناء المنازل والقراءة والكتابة، وترك العبرانيون اللهجة (السامية) القديمة واتخذوا اللغة (الكنعانية) الفينيقية لغة لهم. ولم تختلف اللغة الفينيقية واللغة العبرانية القديمة التي كُتب بها العهد القديم إلا من ناحية اللهجة..." . ويقرر الدكتور (أنيس فريحة) أن اليهود استخدموا اللغة واللسان الكنعاني بديلاً من لغتهم، وقد تعلموا الكتابة الألفبائية التي مكنتهم من كتابة العهد القديم، فيقول: "إن كثير من عناصر الحضارة الكنعانية حتى اللسان الكنعاني الذي أصبح لغة اليهود الرسمية أصبحت جزءً لا يتجزأ من الحضارة اليهودية رغم عدائها لها" .
أما الدكتور (أحمد سوسة) ـ الذي كان يهودياً وأسلم ـ فيقول: "ومن الثابت أن سكان فلسطين الأصليين القدماء كلهم كانوا عرباً هاجروا من جزيرة العرب إثر الجفاف الذي حل بها، فعاشوا في وطنهم (كنعان) أكثر من ألفي عام قبل ظهور النبي موسى وأتباعه على مسرح التاريخ، وقد أخذ الموسويون بعد ظهورهم في أرض (كنعان) بلغة (الكنعانيين) وثقافتهم وحضارتهم وتقاليدهم، هذه حقيقة تاريخية ثابتة أيدتها المكتشفات الأثرية الأخيرة وأخذها العلماء بالإجماع تقريباً" .
ويلخص (أندريه نهر) مدى تأثر اليهود بالثقافة والحضارة (الكنعانية)، بقوله: إن "تعقد الشعائر الدينية في الحياة الزراعية الإسرائيلية ليست في نظر المؤرخين سوى نسخة من التنظيم الثقافي (الكنعاني)، أخذ به العبرانيون أنفسهم بالتدريج بعد استقرارهم في (كنعان)" . كل ذلك تؤكده عالمة الآثار البريطانية (كاثلين كينون): "يجب أن نقرر أن المجموعات الإسرائيلية التي كانت تصل أصلاً من البدو الرحل. الذين استعاروا لدى استقرارهم أدوات أسلافهم في هذه الأرض (فلسطين). وأن الثقافة الفلسطينية كانت أساساً كنعانية" .
وعن نقل اليهود عن (الكنعانيين) يقول الأستاذ وترمان: "وهكذا فإن بني إسرائيل وجدوا شرائع معقدة ومهيأة فعملوا بها في مسيرة حياتهم في كنعان. ثم يضيف مؤكداً أن التحقيقات الأركيولوجية التي يمكن أن تزودنا بمعلومات في هذه الناحية لا تعترف بوجود أي فاصل ثقافي بين الكنعانية واليهودية .
أما (غوستاف لوبون) في كتابه "اليهود في التاريخ" فيرى أن اليهود في الوقت الذي أخذوا فيه من كل الأمم، إلا أنهم لم ينتقوا الأفضل بل اقتبسوا الأسوأ والأخس، فيقول: "فلم يقتبسوا من تلك الأمم العليا سوى أخس ما في حضارتها ولم يقتبسوا سوى عيوبها وعاداتها الضارة ودعارتها وخرافاتها ... وكانوا يضعون أبناءهم في أذرعة محررة من مولك وكانوا يحملون نساءهم على البغاء المقدس في المشارق" . ويتتبع سقطات التوراة ودعارات القوم وأخطاءهم ويرى في اليهودية أنها ليست إلا نتاجاً مختلفاً من فكر الأقوام الذين خالطوهم من السومريين والأكاديين والآراميين والبابليين.

Share |