الطريق الى الجنة/اكرام حسن
Thu, 14 Feb 2013 الساعة : 22:43

مذكراتي في مسيرة الاربعين ج1
لم اتشرف بزيارة الاربعين من قبل فقد عشت في لندن سنين طوال وابتعدت عن وطني , ولم تكن لدي خبرة في المشي مسافات طويلة , لذلك كان توجُهنا ( انا وولدي محمدرضا وابنتي مريم ) الى الحسين ع مشيا على الاقدام من النجف الى كربلاء , مخيفا ومصدرا للقلق نوعا ما بالنسبة لي , الا اني كلما نظرت الى اولادي ورأيت الابتسامة على وجوههم يعود اليّ الاطمئنان ...
وصلنا النجف عند غروب الشمس , زرنا امير المؤمنين ع ثم قضينا ليلة هادئة نوعا في دار الاستضافة .
استيقظنا مبكرا ولم يكن لدينا متسع من الوقت للفطور, حاولنا الصعود بالسيارات للالتحاق بموكب المغتربين الذي تنظمه العتبة العلوية والذي كان يضم زائرين من مختلف الجنسيات من اوربا وامريكا .
تجَمَّعنا عند العمود 96 وكان الطريق مقسما الى اعمدة وبين كل عمود واخر 50 مترا . وزعوا علينا ارقام اماكن الراحة والمبيت وقالوا لنا سيروا على بركة الله ... اخذتني رجفة واحسست كاني ذاهبة لاقابل الحسين ع شخصيا , بدأت واولادي بالتكبيرات ثم قرانا سورة الفاتحة وسور اخرى بالاضافة الى الاستغفار والصلوات , ولم اتوقف عن الارتجاف فاراد ولدي محمد ان يلطف الاجواء قائلا : هااا هل جبنتي وتودين العودة ؟ فلم اتمالك نفسي وانهمرت دموعي لااراديا عندما قلت له ( ذاهبون للحسين ياولدي...)
لم يكذب الرواة عندما قالوا ان لاهل البيت هيبة وعظَمَة تجعل الناس تهابهم وتنحني بين يديهم احتراما وحبا , كان هذا شعوري وقتها, رعدة غريبة انتابتني وكاني احس بوجود سيدي الحسين ع حاضرا معنا...
امتزجت الدموع بكلمات دعاء كنت اقرؤها واُسْمِعها اولادي وسرنا بخشوع واهديت ثواب الخطوات الاولى الى ارواح المؤمنين والمؤمنات وشهداء الاسلام .
مذكراتي في مسيرة الاربعين ج 2
لا اعلم كيف افترقنا (انا واولادي) عن مجموعتنا التي كنا معها ,الا اننا لم نشعر بالغربة وواصلنا طريقنا مع زحف الجموع .
كان محمد يحمل الكاميرا ويلتقط الصور وهو مبتهج لما يراه من ولاء منقطع النظير من اصحاب المواكب للحسين ع وزواره , حيث فكروا في كل مايحتاجه الزائر وجعلوه في متناول اليد وبالمجان , لا بل يتوسلون اليك ان تشرفهم بالاكل من مواكبهم وقد هيأوا موائد مفتوحة وفيها مالذ وطاب على طول الطريق من الوجبات الغذائية كالرز والقيمة والدجاج والسمك والشاورمة والفلافل والفواكه والشاي والقهوة والحمص المسلوق في هذا الشتاء البارد بالاضافة الى "حبيبي الشلغم"
لم يكن الاكل وحده متوفرا انما وفروا خطوط للمكالمات الهاتفية داخل العراق وخارجه وبالمجان .
كنا منبهرين بهذا الكرم والجود وأنستنا هذه الصورة تعب المشي لدرجة اننا وصلنا عمود 380 دون تعب , فافترقنا للمبيت في اماكن مفصولة وذهب محمد لخيمة الرجال وبقينا في خيمة النساء صلينا فيها المغرب والعشاء , تناولت مريم طعامها ثم توسدنا ماكان متوفرا من بطانيات ومخدات
استيقظنا في صباح اليوم التالي لاداء صلاة الصبح والبدء بالسير مبكرا ,في هذه الاثناء بدأنا نحس بالام في القدمين واحمرار في طريقه للتحول الى فقاعات مائية فقررنا استبدال الاحذية الخاصة بالمشي (بالنعال البلاستيكي الخفيف ) وكان علينا في اليوم الثاني ان نصل عمود 900 فاسرعنا بالمشي ولم نتوقف الا للصلاة والغداء وفقدت انا الشهية للطعام وفي منتصف الطريق بدا عليَّ التعب فكنا نضطر للاستراحة 15دقيقة لكل ساعة مشي .
في هذه الاثناء حدث ماكنت اخاف حدوثه , فقد امتلات قدما محمد فقاعات مائية وكانت مؤلمة جدا له بسبب وضعه الصحي , اتصلت بصديق طبيب لاستشارته فلامني في البداية على قدوم محمد معي للمسيرة الا انه ارشدني الى مركز صحي قريب ذهبنا له وكانت الخدمة غاية في الاخلاص والرقي بحيث لم تبق ومضة قلق في ذهني .
واصلنا المسير للمكان المخصص للمبيت ببطئ بسبب تعب القدمين مع ان النفس تتمنى لو انها تطير لكربلاء وازداد الالم على ولدي لدرجة اني لاول مرة اسمعه يقول اه .
تركته في خيمته وعدت الى خيمتي ابكي فرآني احدهم وقال { زائر الحسين لايبكي يا اختي وثقي بالله سيكون ولدك بخير في الصباح} فقلت ان شاء الله .
مذكراتي في مسيرة الاربعين ج 3
زائر الحسين لايبكي , كلمات بسيطة قيلت لي وكان وقعها عظيما على نفسي , فقد نبهتني الى ماغفلت عنه وهو اني متوجهة في الاساس الى من الشفاء في تربته فكيف اخاف ان يتضرر ولدي محمد من المشي اليه !!!
قضيت النصف الاول من الليل متنقلة بين المجالس النسوية داخل الخيمة حضرت مجلسين للعراقيات ومراسم تشبه النشيد للاتراك مع اني لاافهم اللغة الا انها كانت حزينة وتبعث على الخشوع وكان هناك هتافات باسم القائد والدولة الاسلامية لمجموعة من الايرانيات في الزاوية الاخرى من الخيمة .
جلست في نهاية المطاف ,الساعة الثانية صباحا تقريبا , مع نسوة من الباكستان كن يقران الادعية بالاردو - لغتهم الاصلية - وقرات القران من جهاز صغير كان عندي ثم توسدت حقيبتي كمخدة واستيقظت بعد ساعتين على صوت المنبه لصلاة الصبح .
انهيت صلاتي بسرعة وذهبت لاطمئن على ولدي في خيمة الرجال , كان الجو باردا قليلا ( انجماد حسب وصف العراقيين ) وكان بين الخيمتين عددا من الكراسي والطاولات لتناول الطعام , اجتزتها مغطيةً نصف وجهي بعبائتي , مرَّ بي رجل فطلبت منه ان ينادي ابني من الخيمة , ذهب الرجل ثم رجع قائلا لايوجد احد باسم محمد , التفتُّ الى اخر وكان يبدو عليه انه صاحب الموكب فاعطيته الاسم الكامل لولدي , سمعته ينادي باسمه ورايته ينظر لوجوه النائمين وعاد قائلا لايوجد شخص باسم محمد , خفت , وبدون ان اشعر ضربت على قلبي بقبضة يدي وقلت { يمة ابني راح } وكنت اظن ان حالته ساءت فنقلوه للمستشفى .
تناولت كرسيا لاجلس فلم اعد اقوَ على الوقوف واذا بي اسمع صوتا يقول لي { ماكو كَعدة ... ورانه مشي } .هو بعينه ولدي محمد والابتسامة المشرقة على وجهه الصبوح ومعه اثنين من الشباب وهما الدليلان لموكب المغتربين وقد افترقنا عنهم عند بداية المسيرة الا ان الصدفة جمعتنا من جديد بسيد محمد وعلي
كان همّي ان اعرف ماحصل لمحمد فعلمت انه تلقى رعاية خاصة داخل الخيمة من اصحاب الموكب ومن الزوار , من مساج لكامل بدنه وتعقيم لجروحه وشدها برباط خاص كان قد جلبه احد الزوار الايرانيين من ايران لنفسه الا انه اهداه لمحمد وشد رجله بطريقة لم يعد يشعر بعدها بالم ... حمدت الله كثيرا وسلمت على سيدي الحسين ع
توجهنا نحو كربلاء بصحبة الدليل سيد محمد وكان غاية في الاخلاق والادب وقد اصطحبنا الى مركز صحي قريب اعطوا محمد حبتين من المسكن تناول منها واحدة فقط ولم يشعر بعدها بالم حتى هذه اللحظة واحتفظ بالحبة الاخرى لوقت الحاجة . سرنا بين المواكب وكان سيد محمد يتوقف عند المواكب التي توزع الشلغم ليجلب لي صحنين او ثلاث لانني لم تكن عندي شهية للطعام منذ يومين .
من حسن الصُّدف علمتُ ان النسوة الباكستانيات اللواتي كن في الخيمة يسكنون لندن فتعارفنا واتفقنا ان نلتقي عند العمود 1356
سرنا ببطئ وكنا نتوقف للاستراحة كلما تعبنا اواحسسنا بالم ,وكانت جموع الزائرين تزحف نحو كربلاء كموج البحر ورغم الزحام الشديد الا انك لاتجد هناك تدافع او نزاع او جدال وهي من الامور التي تحدث عادة بين الجموع الغفيرة , ولا تجد هناك من ينظر في وجوه النساء او يعاكسهن او يضايقهن كما يحدث في اقدس الاماكن عند المسلمين , والحال هنا يشعرك انك في عالم اخر غير عالمنا وكأنه يوم القيامة ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) .
مذكراتي في مسيرة الاربعين ج 4
هلا بزوار الحسين , هلا باحباب الزهراء : عبارات ترددت على مسامعنا على طول الطريق المؤدي لكربلاء تبعث فينا القوة لمواصلة السير , كانت مريم تبتسم كلما سمعت هذه الكلمات (وتقول :مامه يكَول هله بزوار الحسين ) , فهي لم ترَ مثل هذا الترحيب في مسيرة الاربعين بلندن بل ربما نواجَه بعلامات التعجب والاستفهام من قِبل الاجانب فنضطر لان نوضح لهم لماذا نسير ومن هو الحسين ع
كنا نلتقي بين الحين والاخر باخوتنا البريطانيين من اصل باكستاني مع دليلهم علي , وبقينا نحن بصحبة سيد محمد الذي كان ياتينا بالطعام الطيب والشاي والشلغم باستمرار
وصلنا مكان المبيت قرب العمود 1356 عند غروب الشمس , ولم نجد اي اثر لمخيم او مكان مخصص للمبيت الا دار احد سكنة المنطقة وكان ينتظر ان يصله زوار غيرنا للمبيت عنده . رحب بنا على ان نجلس لدقائق نتوضأ ونصلي . انتظرنا مكالمة هاتفية من المسؤول في العتبة الذي وعد برعاية موكب المغتربين ولصعوبة الاتصالات الهاتفية بسبب الزخم الشديد عليها في مناسبة كهذه طال انتظارنا فاقترحتُ على سيد محمد وعلي ومجموعته ان نذهب للمبيت في دار اهلي الواقعة قرب العمود اللاحق 1357 وما علينا سوى المشي عمودا اضافيا فوافق الجميع
اتصلتُ باختي ملام وسألتها ان كان عندهم استعداد لاستقبال 15 زائرا ( فبيتهم يعج بالزوار مسبقا ) فرحبت بنا بالعبارة الجنوبية المعروفة - عين فراش وعين غطى لزوار الحسين - فقلت لها مازحة : لا, نحن نريد بطانيات ومكان للمبيت واحتفظوا بعيونكم .
بعد دقائق قليلة جاءنا اخي ابو زينب في اربع سيارات خصوصية نقلتنا للبيت , وكانت هذه المرة الاولى التي ارى فيها والدتي منذ سنتين تقريبا وقد شاخت ونحلتْ ولم تعد تقوَى على المشي .
قضينا ليلة مريحة جدا واغتسل الضيوف ثم افطرنا مبكرا في اليوم التالي وهو يوم الاربعين 03/01/13 وتوجهنا مشيا الى داخل المدينة حيث الضريح المبارك .
كنا نمر في هذه الاثناء بنقاط تفتيش تؤخر مسيرنا لكن الامور مشت بانسيابية وكانت اخلاق الجنود والقوات الامنية عالية وتعاملهم مع الزوار باحترام وتوقير وصبر وكانوا يوجهوننا الى حيث نريد دون ملل او تضجّر , فتحية لهم مباركة
مذكراتي في مسيرة الاربعين ج 5
لم نعد نحسب الاعمدة بل كانت عيوننا شابحة نحو الضريح الشريف , اصبح المشي بطيئا جدا وتكرر ايقافنا من قبل الشرطة والجيش عدة مرات لمنع التدافع والازدحام .
دقائق واذا بولدي محمد يقول : ماما انظري اليها شامخة كشموخ العباس , قبة ضريح العباس ع , وهاتين المنارتين وكأنهما يداه ارتفعتا عاليا لترحب بالناس .
ارتفع صوتي بالصلوات وسالت الدموع ولسان الحال يقول سيدي يا ابا الفضل لاتقف متحيرا خذ دموعنا واروي عطاشى الحسين
سرنا مع هذا الزحف الهادر وكنا نحن السبع نساء نضع ايدينا بايدي بعضنا لئلا نفترق , ثم توليت مهمة رعاية النساء البريطانيات لعدم معرفتهن باللغة العربية وليس لديهن خبرة بالمكان وفيهن كبارُ سن
تقدمَنا الرجال بالراية البيضاء الكبيرة التي اصبحت علامتنا ان فقدنا شخصا من المجموعة اثناء التفتيش .
سلمت على سيدي ابا الفضل وكنت احكي معه وكأني اراه : جئناكم ناصرين يا ابا الفضل فخذنا للحسين عسى ان تَضمدَ جراحه . كانت احد الاخوات تراقبني وتبكي على بكائي وهي لاتعرف ماذا اقول لكنها تعلم اني انعى الحسين بكلماتي هذه
لم نرى قبة الحسين بوضوح ولم نتمكن ان نتحرك مابعد منطقة التفتيش خطوة واحدة لان الارض تغص بالبشر
وقفنا خارج الصحن الشريف وسلمنا على سيدي الحسين وكنت اقول في نفسي : يبدو ان الله قد كتب علينا ان نزور الحسين ع من بعيد حتى لو عبرنا المسافات وانفقنا الاموال او الجهد ... لزمت الصمت , وشعرت بخيبة امل ولم اُظهر حزني لاولادي او لمن معي ... بقينا واقفين في نفس المكان اكثر من ساعة فشعرت احدى الاخوات بالم شديد في قدمها بعد ان دعسته عربة طفل بسبب الزحام فاضطررنا لان نتوجه الى المستشفى التابع للعتبة والذي يبعد قرابة 20 متر عن الحضرة الشريفة .
اكملنا علاج السيدة بعد ساعة من الزمن وكان التعب والجوع قد انهكنا فاقترح احد الاخوة العاملين في المستشفى ان نصلي ونأكل على سطح المستشفى رغم انه غير مسموح لاحد ان يفعل ذلك -حسب قوله- لكنه تفضل علينا مشكورا .
صعدنا الى سطح بناية المستشفى واذا بقبة الحسين تلمع امام انظارنا ... وأنعِم بها وبمن حلت فوق ضريحه ... احسسنا وكأننا داخل الحضرة الشريفة , وكأن الحسين يقول لنا ان الله لايخيب ظن من زارني ابدا .
سرور دخل قلوبنا مابعده سرور وبدأنا نهنئ بعضنا ونبارك لبعضنا تمام الزيارة والسعي , قال لي محمد( لو كان كل ماصرفناه من اموال وجهد من اجل هذه اللحظة وهذا المنظر فقط , فانه يستحق ) اجبتُه : يستحق اكثر .
قرأنا الزيارة وبعض الادعية وصلينا والتقطنا الصور ثم تناولنا طعام الغداء .
طُلِبَ منا ان نغادر المكان فودعنا مجموعتنا ورجعنا انا ومحمدرضا ومريم الى دار اهلي في احياء كربلاء على امل العودة للزيارة عندما يخف الزخم البشري في الحرم الشريف الا اننا اكتشفنا انه لايمكن ان يقل عدد الناس لان ذكرى وفاة الرسول ص لم يبقى لها الا ايام قلائل وسيزيد الزحام ايضا فلم يكن عندنا خيار الا الذهاب برغم الزحام الشديد ونرى ان كان بامكاننا الزيارة عن قرب , وكنا قد اتفقنا مسبقا على ان لانزاحم ولا ندافع ولا نُغضِب ولانؤذي احد من الزوار ابدا .
كان القسم الخاص بالرجال في الحضرة كعادته قليل الزحام بحيث ان محمدرضا زار ورجع بسرعة . اما قسم النساء فمزدحم جدا , بقينا واقفين انا ومريم على بعد من الضريح واكتفينا بالصلوات والدعاء ثم طلبتُ منها ان تقرأ سورة الفاتحة عسى ان يفتح الله علينا , وما هي الا لحظات حتى انفرج الصف وقالت احدى النساء : ( دخلن يمه دخلن ) دون ان نطلب منها ذلك .
لم اصدق اسماعي , ودفعتُ ابنتي امامي وبدون ان اشعر بدأت انادي : احبك سيدي , احبك سيدي ياحسين , يشهد الله اني احبك واَعرف من انت ولماذا قتلت .
قبَّلتُ الضريح وانا ارتجف ومسحت دموعي على شباكه ثم أسمعته عتب خاص على عجل
تذكرت حينئذ اني كتبت اسماء من اوصاني بالدعاء ( ولم يتمكن من الحضور ) على ورقة ففتحت حقيبتي بسرعة واخرجت الورقة ورميتها داخل الضريح الشريف عسى الله علام الغيوب ان يقضي حوائجنا جميعا .
انتهت رحلة كنت اتمناها طيلة حياتي , ولاول مرة امشي للحسين ع ولاول مرة ازور عن قرب ولاول مرة اُسمِع صوتي لسيدي الحسين ع واسال الله ان لاتكون اخر مرة مادمت على قيد الحياة
ولي موعد معكم في العام القادم ان شاء الله والمشي الى الحسين من الكاظمية المشرفة