قراءةٌ تفكيكيةٌ في كتاب ((وعاظ السلاطين)) للدكتور علي الودي/عماد الناصري

Wed, 13 Feb 2013 الساعة : 1:15

منذ الصفحة الأولى من كتابه الموسوم بـ "وعاظ السلاطين"، أقصد مقدِّمة الكتاب، يشنُّ علي الوردي حملةً شعواء على أساليب الوعظ الأخلاقيِّ في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة عامَّةً وفي العراق خاصَّةً، إذ يقول في أقدِّم بين يدي القارئ العربيِّ بحثاً صريحاً لا نفاق فيه حول طبيعة الإنسان، وهو بحثٌ كنتُ أعددت بعض فصوله... لإلقائه من دار الإذاعة العراقيَّة فرفضه جلاوزة الإذاعة ...والإذاعة كغيرها من المؤسَّسات الثقافيَّة في هذا البلد تجري على أسلوبٍ في التفكير يحاكي أسلوب الواعظين" ] فالدكتور علي الوردي يعتقد أنَّ دراسة الإنسان بصفته جزءاً لا يتجزَّأ من الطبيعة مقدِّمةٌ منطقيَّةٌ لا بدَّ منها لفهمه واقتراح الحلول الواقعيَّة لمشكلاته التي يعاني منها، وهذا كلامٌ لا غبار عليه أبداً، لكنَّ الذي يدلُّ عليه السياق العامُّ لكتابات الدكتور علي الوردي هو أنه يقصد أنَّ الأديان كلَّها بما فيها الإسلام لم تنجز هذه المهمَّة، وهنا نقطة الخلاف معه، إذ إنَّ الإسلام لم يعمل خلافاً لهذه القاعدة، ولذا أصبح القول بأنَّ الإسلام دين الفطرة على ألسنة علماء الإسلام كلهم بلا استثناءٍ من الأقوال المشهورة التي يعرفها كلُّ أحد، فلا مزايدة على الإسلام من هذه الجهة.
نعم. يكون من حقِّ الباحث أن يناقش الإسلام في قضيَّةٍ أخرى، وهي أن يزعم مثلاً كما زعم في الكثير من المناسبات أنَّ تجربة الإسلام على مستوى الحكم وغيره لم يتطابق مع هذه القاعدة الصحيحة التي اقترحها بنفسه من الناحية العمليَّة، وفي هذه الحالة يتخذ الحوار معه وجهةً أخرى غير الوجهة التي أراد أن يحرف لها مسار الحديث، بما يوحي أنَّ الإسلام مثلاً لم يهتمَّ أبداً بدراسة وفهم طبيعة الإنسان، ليشخِّص مشكلاته ويقرِّر له الحلول بناءً على فهمه ودراسته للطبيعة البشريَّة. ثمَّ إنَّ هناك خلطاً متعمَّداً يجريه الدكتور علي الوردي بين مفهومين، أحدهما مختلفٌ عن الآخر في الحقيقة، فهو إذ يشجب أساليب الوعظ المتعلِّقة بخدمة الحكام وذوي القدرة مثلاً، يخلط هذا النوع المحدَّد من أنواع الوعظ الذي يستحقُّ الذمَّ قطعاً بنوعٍ آخر منه، وهو ذلك الوعظ الأخلاقيُّ المجرَّد من كلِّ النزعات والرغبات الشخصيَّة المتعلِّقة بالواعظ في علاقته بالآخر الذي يتوقَّع منه حصول المنفعة، بحجَّة أنَّ كليهما وعظٌ، وعلى هذا الأساس برأيه يستحقُّ كلاهما الشجب والذمَّ منه ومن المجتمع الذي يدعو إلى تشكيل معالمه الجديدة، على هدىً من دراسة الطبيعة الإنسانيَّة بشكلٍ إمبيريقيٍّ خالص، باعتبار أنَّ الإنسان جزءٌ لا يتجزَّأ من الطبيعة، وهذا من غرائب الأمور في الحقيقة، مع أنَّ الدكتور صرَّح في أكثر من مناسبةٍ أنه يميل إلى اعتناق مبادئ السفسطائيين ويفضِّلها على الفلسفة العقليَّة في كلِّ الحالات، ومعه لا تكون هناك حاجةٌ للإستغراب، إذ يكون مثل هذا الإجراء واحداً من نتائج تفضيله للمبدأ السفسطائيِّ هذا، في الخلط بين المصطلحات والمفاهيم، وعدم الحفاظ على الحدود المعيَّنة والتخوم الفاصلة بين كلِّ مفهومٍ وآخر كما يحتِّمه المنهج العقليُّ الموضوعيُّ طبقاً لقواعد المنطق التي هي بدورها مما يرفضه الدكتور علي الوردي بذات الحجج التي يوردها فلاسفة الوضعيَّة المنطقيَّة والبراغماتزم ضدَّ المنطق الأرسطيِّ عادةً.
مشكلة الدكتور علي الوردي كمشكلة كلِّ الإنتلجنسيا الثقافيَّة في مجتمعاتنا العربيَّة والإسلاميَّة، وهي أنهم ينظرون إلى ما حولهم من المؤسسات السلطويَّة فيعانون منها المأساة، ثمَّ لا يتوجهون إلى إصلاحها بتشخيص المشاكل من داخلها هي، بل إنهم يبحثون عن جذور المشكل في ما يوجد داخل النظام الإجتماعيِّ أو الدينيِّ أو النسق الحضاريِّ المعيَّن، ولقائلٍ أن يقول: وما الضير من ذلك، أليست تلك المؤسسات السلطويَّة إنما هي نتاج هذا النسق الحضاريِّ نفسه، ومن الطبيعيِّ أنه لم يهبط علينا من مجرَّةٍ أخرى، بل هو نابعٌ منا، وعلينا أن نغيِّر أنفسنا أوَّلاً قبل أن نعقد عزمنا على التغيير في دائرة تلك المؤسَّسات والبنيات التي تنتج كلَّ هذا الحيف والقسوة والتسلُّط.
وأنا لا أختلف إطلاقاً مع مثل هذا الإعتراض بالطبع، لكنني لم أقصد هذا المعنى بالتأكيد، بل قصدت أنَّ هذه النخب الفكريَّة لا تقتصر في نقدها على تلك الجوانب السلبيَّة في هذا النسق الدينيِّ أو الحضاريِّ المعيَّن، بقدر ما تريد اجتثاث النسق نفسه من الأساس، بحيث لا يعود له من وجود، وهنا المشكلة، فمن ناحيةٍ لا يمكن أن تستجيب الجماهير الدينيَّة التي تحترم نسقها الحضاريَّ الخاصَّ بكلِّ تأكيدٍ إلى مطالبهم غير المعقولة في التخلي التامِّ عن هويتها والإنتقال إلى هويَّةٍ أخرى، خاصَّةً مع علمها الراسخ بأنَّ هناك ما يستحقُّ أن يتمسَّك به المجتمع في ذلك النسق وهو كثيرٌ بالطبع، ومن ناحيةٍ أخرى فإنها تمارس نوعاً من الخلط المنهجيِّ مما يفقد الدراسة موضوعيتها في نظر القارئ الحصيف، ولنأخذ مثال الإذاعة، فإنَّ الدكتور يحمل اتجاهها عقدةً نفسيَّةً ضخمةً وحُقَّ له ذلك طبعاً، وهي مما ينطبق عليها توصيف الكتاب من خلال العنوان، ولكنَّ تشبيهها بكلِّ الوعظ الأخلاقيِّ الذي يتداوله المجتمع في المساجد وفي البيوت وفي المدارس الخاصَّة البعيدة عن رقابة الدولة، وفي الأحاديث اليوميَّة والإجتماعيَّة العامَّة هو من نتائج هذا الخلط الذي يوقع أيَّة دراسةٍ من هذا القبيل في حبائل السفسطة.
إنَّ النظر إلى المشكلة من زاويةٍ واحدة، أو من خلال ما تقرره بعض مدارس علم النفس دون تدقيقٍ أو ملاحظةٍ فاحصةٍ تلتزم بالصبر كضرورةٍ لا بدَّ منها من أجل إصدار الحكم الصحيح هي طبيعةٌ ملازمةٌ لمنهجيَّة الدكتور علي الوردي في أغلب كتبه، فلنستمع إليه في هذا الحديث إذ يقول: "حدث لي ذات مرَّةٍ في بدء دخولي الحياة الأمريكيَّة أن حييت فتاةً من فتيات صفي الحسان فردَّت لي التحيَّة بغمزةٍ من عينها. وغمزة المرأة في أمريكا لا تعني غير اللطف وحسن المجاملة. أما أنا فقد فسرت تلك الغمزة تفسيراً شرقياً خبيثاً، وبقيت طول يومي أنظر وجهي في المرآة وأضرب أخماساً بأسداس...
ثمَّ يواصل الدكتور تعليقه على هذه القصة: "إنَّ ما نشأت عليه في بيئتي الشرقيَّة المتزمتة من وقارٍ مصطنعٍ جعلني أحسُّ لدى تلك الغمزة البريئة بهمسةٍ من همسات الشيطان، ومن السهل أن يغري الشيطان إنساناً اعتاد على الوقار المصطنع والتزمت الشديد. ويبدو لي أنَّ هذا التزمت الشديد الذي امتازت به حضارتنا الشرقيَّة هو بقيَّةٌ من بقايا مجدنا الذهبيِّ القديم، فقد كانت المرأة آنذاك تباع وتشرى، وكان الأمراء والأغنياء في تلك الأيام يكثرون من شراء الجواري ويملأون قصورهم بهنّ"
ولنا في هذا المقام كلامٌ مع الدكتور علي الوردي، إذ نناقشه ضمن النقاط الآتية:
النقطة الأولى: إنَّ رأي الوردي في هذا الإقتباس ساذجٌ للغاية ولا يختلف في سذاجته عن سذاجة الكثير من الآراء التي يقدِّمها الكثير ممن يقيمون في البلاد الأمريكيَّة والغربيَّة مدداً طويلةً أو قصيرةً، حتى أنَّ الطبقة غير المفكِّرة من هؤلاء هم الذين يتبرَّعون عادةً بتقديم هذه الآراء، وتتمثل سذاجة هذا الرأي في أنه يحاول أن يقدم لنا التفاصيل الداعرة في المجتمعات الليبراليَّة المنفتحة على أبشع أشكال الإباحيَّة الجنسيَّة والإنحلال الاخلاقيِّ بصفتها لا تعكس وجود الإنحراف في تلك المجتمعات، بل هي بحسب هذا الرأي الساذج تصرُّفاتٌ طبيعيَّةٌ لا تعني عدم العفاف بالضرورة، وربما بلغوا في هذه المسامحة درجة اعتبار العمل الجنسيِّ الإباحيِّ نفسه غير مناقضٍ للعفاف، وتلك مفارقةٌ تدعو إلى العجب فعلاً، فمن قال إنَّ المرأة التي غمزت للوردي لم تكن تقصد أن تقدم له إشارةً غير محببةٍ أخلاقياً، وهل إنَّ المجتمعات الأمريكيَّة هي مجتمعاتٌ منحازةٌ إلى فضيلة العفاف بالجملة، ونحن نعلم إجمالاً أنَّ هناك الآن عشرات الفضائيات وعشرات المواقع الجنسيَّة الإباحيَّة تبثُّ من تلك البلاد التي تقطن بها تلك المجتمعات، فهل إنَّ وجود هذه الثقافة المنحطَّة والأفلام الداعرة لا تعني عدم العفاف كذلك، النقطة الثانية: إنَّ الدكتور الوردي يعلل وجود التزمُّت الشديد كما اصطلح عليه في نظرتنا إلى العفاف وشؤونه بعلَّةٍ لا أعتقد أنها منحصرةٌُ في المجال العربيِّ أو الإسلاميّ، وهي أنَّ المرأة كانت في تأريخنا تباع وتشترى، والحقيقة أنَّ هذا النظام في بيع وشراء النساء والعبيد بشكلٍ عامٍّ لم يكن خاصاً بالإسلام أو بالعرب في أيَّة مرحلةٍ من مراحل الزمان، بل إنَّ وجوده كان عاماً وشاملاً في كلِّ الحضارات تقريباً، من الحضارة اليونانيَّة والرومانيَّة إلى المجتمعات الغربيَّة الحديثة قبل اتخاذ قرار إلغاء الرقِّ بقرارٍ دوليٍّ عامّ، النقطة الثالثة: إنَّ الدكتور الوردي لا ينتبه إلى قضيَّةٍ هامَّةٍ، وهي أنَّ الطرائق والأساليب التي تتعدد في التعبير عن الجوهر الأخلاقي كالعفاف وغيره، لا تبرر للدكتور أن يعتبر غمزة المرأة الأميركيَّة كغمزة المرأة الشرقيَّة مثلاً، لأنها باعترافه في المجال الأميريكي لا تعبر عن وجود حالةٍ من الإنحراف الأخلاقي عن منهج العفاف على فرض صحة هذا المدَّعى، ولكنها بما أنها تعتبر معبرةً عن هذا المضمون في المجال الآخر، سواءٌ كان شرقياً أو غيره، فإنها تكون مدانةً من الناحية الإجتماعيَّة والأخلاقيَّة، ولا علاقة للتشدد والتزمت وما إلى ذلك من الكلمات بهذه المسألة، لأنَّ المفهوم من كلام الوردي أنَّ حالة التحرُّش والإنحلال الأخلاقي مرفوضةٌ في كلِّ الحالات، والإختلاف إنما هو في فهم دلالة بعض العادات والتصرُّفات على المضامين الأخلاقيَّة المتفق عليها قبحاً وحسناً بين الشعوب.
كذلك لا يتنبه الوردي إلى وجود مخالفةٍ للمنهج الموضوعيِّ في الفصل بين المتاشبهات من الأمور في الرذائل الإجتماعيَّة، فهو لكي يدين سرقة الحاكم يجد من المناسب جداً أن يبرر سرقة اللصوص من عامَّة الشعب، وهذا منطقٌ غريبٌ حقاً، فاللصوصيَّة مرفوضةٌ في كلِّ الأحوال، سواءٌ جاءت من جهة الحاكم أو من جهة المحكوم، يقول الدكتور الوردي: "وجدت الواعظين ذات مرةٍ وهم يمجدون أحد الطغاة على ما قام به من شدةٍ تجاه
 

Share |