مقتل قائد شريف/عاطف العزي

Sat, 9 Feb 2013 الساعة : 23:28

قبل خمسين سنة وفى اليوم التاسع من شباط الأسود عام 1963 فتح أخس الناس نيران رشاشاتهم على واحد من أشرف من قاد العراق فى اي وقت من الأوقات ان لم يكن أشرفهم قاطبة . كان الزعيم عبد الكريم قاسم أول عراقي يحكم العراق منذ أكثر من خمسة آلاف سنة ، وأول حاكم عراقي غادر الدنيا ولم يملك دار سكن ، ولم يأخذ أكثر من مرتبه الشهري الذى كان ينفق معظمه على الفقراء والمحتاجين ، وكان أول حاكم أحب كل العراقيين على اختلاف قومياتهم واديانهم وطوائفهم ومللهم ونحلهم ، وهو الوحيد الذى أحبه العراقيون ، كل العراقيون، عدا قلة ضئيلة ضالة منهم ما بين أعمى وأخرق وحسود ومنافق ودجال اثيم. ساعدهم ودفعهم لارتكاب الجريمة النكراء مجرمون من وراء الحدود. وهم ما بين طامع حاقد على الزعيم الذى لم يسلمه العراق لقمة سائغة فانطلق يسبه ببذىء الكلام وأطلق كلابه المسعورة تنبحه ليلا ونهارا وزود أعداءه بالمال والسلاح لاسقاطه ، ومستعمر كان يأخذ الجزء الأكبر من خيرات العراق ويحرم أهله من العيش الكريم، واقطاعيين منحهم العثمانيون أجود الأراضي الزراعية فى العراق بدون وجه حق ليستعبدوا الفلاحين الفقراء المعدمين. اتفق هؤلاء كلهم على اسقاطه، يؤازرهم الحمقى والبله والمغفلون من العراقيين مدنيين وعسكريين ومنهم رفاقه فى السلاح وتلامذته فى الكلية العسكرية، وأحزاب مجرمة اتخذت من القومية والدين حجة كاذبة لإسقاطه، وعسكريون جبناء فضلوا البقاء فى بيوتهم فى يوم 8 شباط المشئوم، ولم يغادروها للالتحاق بوحداتهم والدفاع عن وطنهم وأبناء شعبهم وقائدهم وانتظروا حتى ينجلى الغبار فيبعثوا ببرقيات التهنئة للقائد الجديد!
قبل يوم واحد من ذلك التأريخ كنت فى زيارة لأحد أصدقائي فى حي الضباط من بغداد الشرقية، وقررنا أن نذهب صباح اليوم التالى (الجمعة 8 شباط/فبراير1963) لزيارة صديق آخر لى وهو ضابط كبير فى معسكر فى جلولاء. كان الجو فى بغداد صباح ذلك اليوم صحوا جميلا منعشا، فأخذنا حافلة (باص) لتوصلنا الى ساحة التحرير حيث نأخذ سيارة أجرة. وصل الباص الى حديقة الأمة وتوقف فجأة وصعد اليه جندي يضرب رأسه بكلتا يديه ويصرخ : (لقد قتلوا الزعيم). وسمعنا أزيز الطائرات المرعب وهى تطير على ارتفاع منخفض، وبعد لحظات من الذهول التام غادر الركاب الباص ، وعبر صديقى الضابط الشارع الى الجانب الآخر ليأخذ الباص العائد لمدينة الضباط، وعاد الى بيته ليمكث فيه بدلا من الالتحاق بوحدته والدفاع عن قائده كما فعل الضباط الجبناء الآخرون. ومضيت نحو الساحة أبحث عن سيارة اجرة لأعود الى داري فى البياع غرب بغداد.
اختفت او كادت تختفى السيارات من الساحة ، والناس تتراكض على غير هدى فى كل الاتجاهات، وشاهدت سيارة اجرة وأشرت الى السائق فتوقف وصعدت الى السيارة، وتدافع الناس للصعود اليها بالرغم من معارضة السائق، وأخيرا تحركت السيارة لعبور جسر الجمهورية، وما ان وصلنا الى منتصف الجسر حتى أوقف السائق السيارة وطلب منا مغادرتها لأنه بدأ يشعر بالقلق ويريد العودة الى بيته وعائلته. غادرنا السيارة مكرهين وبدأتُ مسيرة طويلة على القدمين من الباب الشرقي الى مدينة البياع. وبعد أكثر من ساعتين وما ان عبرت جسر الخر حتى شاهدت مدنيين (بعثيين) يحملون البنادق وهم ينظرون بحقد وتشفٍّ الى جندي سقط على الأرض يتخبط فى دمه. ولم ينبس أحد ببنت شفة، فقد كان الذهول والرعب يخدر أوصال الجميع.
وصلت الى بيتى حيث وجدت الجميع قد تسمروا فى مقاعدهم أمام التلفزيون، وقد فرّت الدماء من وجوههم، واسرعوا نحوى يستفسرون عما حصل وانا أكثر منهم جهلا بما جرى وما يجرى. كان التلفزيون يعرض فيلما عن مدينة الثورة التى شيدها الزعيم للفقراء والمحتاجين ، وانقطع البث، وسمعنا المذيع من الراديو يكرر اذاعة انذار صادر من ضباط الانقلاب موجه للمسئولين عن محطة التلفزيون بقطع البث او مواجهة العقوبات الصارمة. وبدلا من عبارات الاطراء والمديح التى تعودنا على سماعها منهم للزعيم، فقد بدأ المذيعون وعلى رأسهم المدعو قاسم نعمان السعدي يكيل الاهانات وأقذع الشتائم له، وانزلوه من مرتبة الزعيم الأوحد التى رفعوه اليها الى مرتبة المجنون الأرعن!.
وفى اليوم التالى وبعد ليلة أرق وفزع وغضب وحيرة، بث تلفزيون بغداد أفظع مأساة حصلت ببغداد فى عهدها الحديث. ظهر الزعيم جالسا على كرسي وقد قيدت يداه خلف ظهره ويجلس على كرسي وهو ببزته العسكرية، ينظر حواليه مبتسما للجميع، وتقدم أحد الجنود لوضع عصابة سوداء على عينيه فرفضها. وبعد جدل قصير بين الحاضرين وجه اليه الجنود رشاشاتهم وأطلقوها دفعة واحدة، فسقط عن كرسيه ومال الى جانبه الأيمن والدماء تسيل منه بغزارة. تقدم اليه أحد الجنود يحمل رشاشة بيده اليسرى ومد يده اليمنى الى الشهيد وجذب شعره وبصق فى وجهه الذى لم تزل الابتسامة مرسومة عليه.
شعرت بالخدر والذهول، ولم أعد أسمع عويل وبكاء من كانوا حولى، و أغمضت عيني منتقلا الى الماضى السحيق، مستعرضا ماضى العراق حيث قتل على ارضه الحسين بن علي بن ابى طالب سبط الرسول الأعظم، وبعد مقتله بكيناه بحرقة وندم، وخمشنا الخدود ولطمنا على الصدور فى ذكرى مقتله، واليوم و بعد اكثر من اربعة عشر قرنا ما زلنا نلطم ونصيح ونولول وننسى او نتناسى اننا لم ندافع عنه، وسمحنا لأخس الناس بقتل أشرف الناس. وتكررت المآسي وتشابهت، وتكدست الضحايا على مدى القرون ، منهم من ندفنهم ونبكيهم، ومنهم من نعود الى نبش قبورهم ونخربها ثم نعود ونبنيها من جديد.
لم تكن جريمة انقلاب 8 شباط هي المحاولة الاولى لقلب نظام حكم الزعيم، فقد كانت اول محاولة بدأ تخطيطها فى الموصل يوم 15 تموز 1958 اي بعد يوم واحد من قيام الثورة. فقد عين الزعيم عبد الكريم العقيد عبد الوهاب الشواف حاكما عسكريا عاما للعراق. ولكن وبأصرار من عبد السلام عارف الغى ذلك التعيين، فحقد الشواف على الاثنين وبدأ يؤامر للاستيلاء على الحكم ، وسانده كبار الاقطاعيين، وعلى رأسهم كبير شيوخ شمر الشيخ عجيل الياور الذى أضرت ثورة 14 تموز بمصالحه الخاصة ومصالح الاقطاعيين الآخرين من العوائل الاقطاعية أمثال عائلة كشمولة والعمري والمفتي والنقشبندي وآل نافق وعوائل أخرى كانت متنفذة فى العهد الملكي وجلهم من (أغوات) باب البيض فى الموصل ، وكان جمال عبد الناصر يغلى حقدا على الزعيم الذى منعه من ابتلاع العراق، فاتفقت مخابراته مع المخابرات الأمريكية والبريطانيه، وبدأ تدفق المال والسلاح على الشواف الخائن بمساعدة عشائر شمر القاطنة على الحدود العراقية السورية ، بالأضافة الى الدعم المادي من شركة النفط البريطانية فى عين زالة، وأنزلت قوات امريكية وبريطانية فى قبرص والأردن ولبنان. ولكن التفاف العراقيين حول قادة الثورة وسيطرة الجيش التامة على كافة انحاء العراق منعهم من التدخل. وأعلن الشواف تمرده فى يوم 8 آذار/مارس 1959، وصعّدت اذاعة صوت العرب من القاهرة من تحريضاتها ونشر الأكاذيب مدعية بان أعوان الزعيم قد قتلوا عشرين ألفا من أعوان الشواف. وأخمدت الحركة بعد أقل من 24 ساعة على قيامها، وفوتت سرعة القضاء عليها الفرصة للتدخل الخارجي، وهرب الشواف جريحا الى سورية التى كان ناصر قد ضمها لمصر، وقُتل الشواف من قبل بعض الجنود وضباط الصف من حرسه.
كانت قد ظهرت فى بغداد فى الأيام الأولى للثورة صورا للزعيم عبد الكريم قاسم فى مكتبه فى وزارة الدفاع الذى كان يستعمله كغرفة نوم ايضا وظهر فيها الزعيم وهو يحلق ذقنه بينما كان معاونه العقيدعبد السلام عارف يصلي. ومنذ ذلك الحين بدأ عارف يتظاهر بالتدين وفق ما أشارعليه أصحابه، وذهب الى الحج لأكمال تلك المكيدة . وحاول مرة أن يقتل الزعيم ولكن الزعيم وبمساعدة أحد الحاضرين جرده من مسدسه وأمر باعتقاله. ثم عفى عنه وعينه سفيرا للعراق فى ألمانيا ولكنه عاد الى بغداد بدون ان يُشعر وزارة الخارجية العراقية او أي مسئول عراقي آخر. وكان أتباعه فى العراق يشيعون خبر عودته لأرباك الأمور، ولكن الزعيم أمر باعتقاله فور وصوله وحجزه فى بيته.
وفى 7 تشرين الثانى/اكتوبر 1959 جرت محاولة أثيمة لاغتيال الزعيم، خطط لها البعثيون ، حيث قام بعض المسلحين المجرمين ومن بينهم المقبور صدام حسين باطلاق النار عليه وهو فى سيارته عندما كان يخترق شارع الرشيد فى منطقة رأس القرية، وأصابوه فى كتفه وذراعه، وهربوا واختفوا فى الأزقة الضيقة القريبة. وأصيب صدام باطلاقة فى ساقه، واختفى فى تكريت حوالى ثلاثة أشهر، هرب بعدها الى القاهرة التى احتضنته هو ومن معه من عتاة المجرمين البعثيين.
وتكررت محاولات الاغتيال والانقلابات الفاشلة عشرات المرات، وأخيرا نجح الأوغاد وتم لهم ما أرادوه صبيحة يوم 8 شباط الأسود عام 1963. كل تلك القلاقل كانت قد اثرت كثيرا على قدرة الزعيم والوزراء الأكفاء فى تعمير البلد وانجاز مشاريع الاصلاح . ومع ذلك استطاع بناء آلاف المساكن للفقراء ، والمعامل، ومشاريع الري، وأزال صرائف (اكواخ) بغداد وأحل محلها المساكن (الشعبية) التى سميت فيما بعد بــ(مدينة الثورة) ، وبنى مستشفى مدينة الطب التى كانت تعتبر أكبر مؤسسة طبية فى الشرق الأوسط ، وبنى جامعة بغداد ، ووزع الأراضي على الفلاحين، وأبعد الطابع الأسري والطائفي عن الحكم، وأخرج العراق من منطقة الاسترليني، وانسحب من حلف بغداد، وسن قانون النفط رقم 80 الذى استعاد بموجبه معظم الأراضي العراقية المغتصبة من قبل شركات النفط (وهو القانون الذى عجل بسقوطه كما توقع هو نفسه)، وساهم فى تأسيس منظمة الأوبك، واسس جيش التحرير الفلسطيني، وبنى عمارات سكنية للفلسطينيين اللاجئين فى العراق، وشرع قانون الأحوال الشخصية الذى حافظ على حقوق المرأة – الذى أثار رجال الدين عليه- وشق قناة الجيش، وبنى مساكن للضباط وضباط الصف، وسعى للارتقاء بمستوى العراق الى مصاف الدول المتقدمة. ووجدوا على منضدته بعد موته قانونا جاهزا لتوقيعه لتعديل قانون الجنسية العراقية الذى يقسم العراقيين الى درجات ( ألف و باء و جيم).
لم يكن الزعيم سياسيا ولا مارس السياسة، وكان ذلك احد اسباب سقوطه ، فان الوطنية وحدها لا تكفى فى عالم يسوده الكذب والغدر والنفاق والخيانة. لذلك كانت مُثُله التى تمسك بها مثل (عفا الله عما سلف) احد العوامل التى أودت به. فقد عفى عن عبد السلام عارف بعد ان حكمت عليه المحكمة بالاعدام، وأطلق سراح من تآمروا عليه وعلى سلامة الوطن، وبذلك ساهم مساهمة غير مقصودة فى تدهور الأوضاع بالبلد، وآلت بالأمور الى ما هى عليه الآن. قال عنه الراحل علي الوردي فى كتابه (بين العلم والعقيدة): (انى أشعر بالعجز فى سياسة صف واحد من الطلاب حين يشتد الجدل بينهم، فكيف بالرجل وهو يقود ثورة كبرى كثورة تموز وفى مجتمع كالمجتمع العراقي).
كان أكراد الشمال – بعكس الكرد الفيلية الوطنيين الشرفاء- يريدون الانفصال، والشيوعيون يريدون مناصب عليا أكثر فى الحكومة، والقوميون يريدونه ان يعلن وحدة فورية مع مصر، و المرأة تطالب بحقوقها والمعممون يمانعون ويتهمونه بالكفر، والأغلبية الصامتة كانت تترقب نتيجة كل تلك الصراعات ولا حول لها ولا قوة.
ها قد مر نصف قرن من الزمن على اغتيال الزعيم الشهيد، الذى عجزنا ان نتكرم عليه حتى بقبر صغير لجسمه المحشو برصاص الغدر والخيانة، بعد ان قام مجرمو البعث المباد بالقاء ذلك الجسد الطاهر فى النهر لتأكله الأسماك التى لم تدرك انها تأكل بقايا جسم أشرف انسان نذر نفسه للعراق وللعراقيين، كل العراقيين، بدون تفريق و تمييز، ووضع دمه على كفه وانطلق بقواته لتحرير بلده من الطغاة والمستعمرين، وتكالب عليه رفاقه بالأمس الذين غرتهم المناصب وخدعتهم القوى السوداء التى ما لبثت حتى استولت على العراق لتنوء بكلكلها عليه اربعين عاما. وبينما كانت الشعوب الأخرى تتقدم وتنعم بالحرية والسلام زجنا البعثيون المجرمون بحروب مدمرة أعادتنا الى ما كان عليه أجدادنا من سكان الكهوف فى العصر الحجري. ولو عاد الزعيم اليوم لشاهد بلدا مدمرا وشعبا مشرذما هاجر ربعه الى الخارج، ولشاهد شعبا فرّقته الطائفية والعنصرية البغيضة، يقتل ويعذب بعضه بعضا، وتزداد الكراهية بين طوائفه يوما بعد يوم ، والحدود مفتوحة أمام المجرمين الذين يتسللون الى داخل البلد ليعيثوا بأرضه فسادا فيقتلون أهله ويثيرون بينهم الأحقاد، ولشاهد شعبا لا يجد الغذاء ولا الدواء ولا الماء ولا الكهرباء، ليجد بلدا مدمرا تملأ شوارعه جيوش اليتامى والأرامل والمعوقين والعاطلين، سيجد بلدا يتنازع فيه كل من هب ودب للأستيلاء على الحكم، وكل يظن انه هو الأصلح وخططه هى الأنجح وهم أبعد ما يكونون عن ذلك. سيجد بلدا ينهبه أهله قبل الغرباء، وشعب منشق على نفسه ينازع بعضه بعضا ، أكراد الشمال يريدون الانفصال ويبذل قادتهم ما فى وسعهم لاثارة الخصومات بين باقى العراقيين ليبقوا العراق ضعيفا، ولعبوا دورا كبيرا بالمشاركة مع دول اقليمية وغير اقليمية فى اثارة الطائفية المذهبية بين العرب المسلمين ، ووصلت الكراهية بين الشيعة والسنة الى درجة لم يسبق لها مثيل ، وتكونت أحزاب وكتل دينية وعلمانية ينازع بعضها بعضا ويكيد بعضهم للبعض الآخر ويتسابقون للحصول على الحكم بشتى الوسائل والسبل الشرعية وغير الشرعية الأخلاقية وغير الأخلاقية ، معرقلين بذلك عمل الحكومة وأحالوا بينها وبين انجاز المشاريع الحيوية للنهوض بالبلد كما فعلوا مع الزعيم الخالد ، والشعب الأعزل يقف مذعورا منطويا على نفسه ينتظر نتيجة ما يتمخض عنه هذا الصراع بين الطامعين الذين وصلت بهم الدناءة الى حد المطالبة بتقسيم العراق على اسس قومية وطائفية ، وهم يعلمون أن التقسيم يعنى حروبا ومذابح لاتنتهى الا بنهاية العراق وأهله ، فهل سيسمح العراقيون بذلك أم يقبلوا العيش سوية فى سلام ووئام فيما بينهم ؟ الم تكفنا عذابات نصف قرن ؟ أما آن لنا أن نقول بشدة للساسة الطامعين ولدعاة الدين المزيفين والطائفيين أن يرحلوا عنا مع ما سلبوه منا ، او نلفظهم لفظ النواة؟ كما قالها الزعيم للبريطانيين فى احدى خطبه .

Share |