يالها من فاجعة كبرى لاتنسى أصابت مدينة الشطرة العزيزة قبل خمسين سنة/الدكتور حسين رشيد الدنيف العبودي

Thu, 27 Dec 2012 الساعة : 10:49

 

بالرغم من المقال الرائع الذي كتبه الأخ المؤرخ وزميلي في المدرسة المتوسطة السيد غسان الشطري حول مأساة كبرى أصابت مدينة الشطرة الحبيبة والذي ذكر فيه بالتفصيل ماحدث قبل وبعد سفرة الفراق الأبدي،إلا أني أرى أن من واجبي أن أذكر بعض الحقائق التي لم يتطرق لها المقال المذكور لأنني عشت أيام تلك المأساة في مدينة الشطرة وبالتحديد في أمكنة "ردود الأفعال".
كلنا نعلم أن الأحداث الكبيرة ("الحلوة والمرة") التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته تنسى مع مرور الزمن ولكن هناك حوادث وايام ومواضع إستثنائيةلايمكن نسيانها أبدا وذلك لأنها أصبحت جزءا من الحالة السيكولوجية لمن عاشها.لقد مضت على الكارثة التي حلت بمدرسة العفة الإبتدائية للبنات في الشطرة خمسون سنة وبالرغم من ذلك لايزال هذا المصاب الجلل عالقا في ذاكرتي وسوف لم يختف إلا بموتي.ويشهد الله ! لقد رأيت في حياتي كطبيب الكثير الكثير من المآسي البشرية المروعة ولكنها لم تبق عالقة لهذه الدرجة في تفكيري.كان يوم الفاجعة يوم الجمعة المصادف 28.12.1962 كان الجو باردا(فصل الشتاء) وكنت يومها في الصف الثاني المتوسط .كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة قبل الظهر تقريبا عندما أردت أن أترك دارنا لمساعدة أخي في مزارعنا المتاخمة لدارنا وكعادتي في أغلب ايام العطل.في هذه اللحظة دخل إبن عمتي المرحوم عواد عبد الحسين الحميدي الدار وهو يردد لاإله إلا الله والبقاء لله وحده!أصبنا بالصدمة عندما أخبرنا بأنه كان لتوه في مكتبة السيد عبد الحميد ناصر(أبو الجرائد!)لشراء بعض الدفاتر المدرسية وقد كان شاهدا على مكالمة تلفونية تلقاها صاحب المكتبة من صاحب مكتبة في قضاء سوق الشيوخ يخبره فيها بالحادث المروع!.خرجت فورا من دارنا الواقعة في شارع النهر(في الصوب الصغير!)ورأيت الناس قد بدءوا في التجمع في المنطقة بين الجامع العثماني القديم والجسر وقد شاع خبر الحادثة المروعة.في هذه اللحظة جاء أخ السائق المنكوب وهو يصرخ وبصورة هستيرية:"لا!لا! السايق موش أخوي,أخوي سافر لبغداد".مرت الدقائق وكأنها ساعات والساعات خلتها أياما وإمتلت الشوارع بالناس .العويل والبكاء والأمل كان سيد الموقف.كثير من الناس وأنا منهم إتجهوا نحو قصر الحاج خيون العبيد ومنه ساروا بإتجاه ناحية الغراف.بعد حوالي كيلومتر توقفنا.كانت الساعة تشير إلى الرابعة إلا الربع (بعد الظهر) تقريبا حين قدمت إحدى الجنائز وكانت لمعلمة لاأتذكر إسمها وكان والدها أو أخوها يجلس بجانبها على (سطح )سيارة التاكسي.خرج جميع سكان الشطرة تقريبا إلى الشوارع.إستمر منظر الجنائز المأساوي ،والذي والله لاانساه أبدا ،حتى الساعة السادسة والنصف مساءا تقريبا.وبعكس ماجاء في مقال الأخ غسان الشطري فإن الجنائز لم تتوجه فورا إلى مقبرة السلام في النجف الأشرف وإنما قدمت أولا إلى اهل ("الضحايا" )في مدينة الشطرة وبعدها نقلت للدفن هناك ولكن بصورة متفرقة.وحيث أن هناك ضحايا من بغداد حسب ماأ عتقد ،فقد قام معاون شرطة الشطرة؟؟؟ بتكليف السيد باقر الشطري والذي كان يسكن في شارع النهر(هكذا يسمى الشارع الآن!)بمرافقة التوابيت إلى بغداد لتسليمها لأهل الفقيدات.وهنا تدمع عيني والله كلما أتذكر صراخ وعويل إمرإة كبيرة في السن وأعتقد أنها أم إحدى المعلمات وجدة إحدى الشابات والتي كانت (وحسب ماتحدث الناس بعد المصاب الجلل)في الصف الأول متوسط وكانت تسكن مع خالتها وجدتها في أحد البيوت الواقعة خلف قائممقامية قضاء الشطرة وسجن الشطرة وقد ذهبت مع خالتها في سفرة المأساة.كانت المرأة العجوز تلمس التوابيت وتصرخ:ياولو..الخ.إن قلبي والله يقطر دما وانا أكتب هذه السطور وأتذكر ذلك المنظر الرهيب(لاإله إلا الله،..وتبا لدنيا فانية!).هناك فراش إسمه سالم بشير (لم يرد إسمه في مقال الأخ غسان!) يقال أنه كان يحمل العلم العراقي؟ وكان جالسا على (سطح) باص الفولفو المشؤوم وقد نجا من هذه الحادثة.أقيمت الفاتحة على أرواح الفقيدات العزيزات في الجامع العثماني القديم وقد تم ذكر هذا في المقال المذكور بالتفصيل وبدقة.توالت وفود(المعزين )وأخص بالذكر هنا وفد مدينة سوق الشيوخ العزيزة حيث كان يتقدم المعزين السيد عبد الله والد العالم العراقي الكبير والفيزياوي الفذ الدكتور عبد الجبار عبد الله(من الطائفة المندائية في سوق الشيوخ)رئيس جامعة يغداد أيام الزعيم عبد الكريم قاسم.كان المعزون من سوق الشيوخ يحملون لافتة سوداء وهم يهتفون:بهل الفاجعة جينه نعزيه...الشطرة وأهاليها...ونتمنه منك ياإلهي الصبر غذيهه...الشطرة وأهاليهه.المآتم كانت في كل زاوية من مدينة الشطرة والحزن كان لعدة أيام بل أسابيع وشهور مسيطرا على الوجوه.والدي رحمه الله طلب منا أن نلبس ملابس الحزن،وبالفعل لبست العائلة كلها(وأنا منهم طبعا!)الملابس السوداء ولمدة أربعين يوما.صوت الشاعر الشعبي السيد فائق لايزال يرن في أذني:نكبة هالولاية بياصفه أحجيه...أذوب أقلام كثرة ولا أوفيه.رحم الله زهورا رحلت وأقمارا مضيئة إختفت.إنا لله وإنا إليه راجعون.
Share |