الامام الحسين قربان الدين والشريعة/د ياسر العبادي
Mon, 17 Dec 2012 الساعة : 13:54

اولا:الامامة
ان من اكثر المواضيع اثارة للتساؤل والاستفهام هو موضوع الامامة التي وهبها الله تعالى الى خليله ابراهيم عليه السلام ومن ثم الى ذريته وابنائه
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ. [البقرة:124].}
ان الجو العام لهذه الآية المباركة يفيد ان الله تعالى قد امتحن نبيه ابراهيم عليه السلام بعدة امتحانات فنجح بها جميعها فاكرمه الله تعالى على ذلك بان جعله اماما للناس وان ابراهيم عليه السلام قد استثمر هذه اللحظة المباركة فتمنى على الله تعالى ان يجعل من ذريته ائمة مثله فواعده الله تعالى بذلك.
كما نستدل من الآية المباركة على ان زمن حدوث هذه القضية قد جاء متأخرا في حياة ابراهيم عليه السلام أي بعد ما نزلت عليه النبوة وكلفه الله تعالى بحمل الرسالة وقد فاز في جميع الاختبارات كما انه من الامور المتيقن منها ان الذرية وخصوص اسحاق وابنه يعقوب عليهما السلام قد حصل عليها ابراهيم عليه السلام في اخر ايام حياته.
وقد اجمع المفسرون الاوائل على هذا المعنى ومنهم بن كثير وغيره وانهم فسروا الكلمات بالاختبارات وذكروا عدة تأويلات لهذه الاختبارات منها (شرائع الاسلام وذبح ابنه واداء الرسالة وكرم الضيافة وخصال الفطرة او قوله تعالى{ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } ولكنهم ركزوا كثيرا على خصال الفطرة وهي(قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البَرَاجِم، ونَتْف الإبط، وحلق العانة، وانتِقاص الماء والمضمضة ))) واعتبرها اكثرهم بمثابة الاختبار الرئيسي الذي نجح به ابراهيم عليه السلام لكن صاحب تفسير المنار اعتبر هذه الرأي من السفاهة والحمق لأنه وكما يرى (انه بإمكان أي طفل ان يؤدي خصال الفطرة هذه فكيف بأنبياء الله تعالى ؟) وقد بين في تفسيره ان الامامة هي القيادة والهداية الى الحق بأمر الله تعالى مستدلا نقوله تعالى { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }وان الامام يجب ان يكون عادلا وان يعمل بشرائع الاسلام وقد استدل بمواقف أئمة المذاهب الاربعة مثل ابو حنيفة النعمان بن ثابت من الخلفاء والملوك في ايام زمانهم وانهم جميعا اعترضوا على حكام الجور والظلم .
ولاحظنا ان المفسرين قد اجمعوا على ان الظلم المقصود بهذه الآية المباركة هو الظلم الشديد الذي يخرج احد افراد ذرية ابراهيم عليه السلام عن الملة فيكون محروما من نعمة الامامة .
اما السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب كتاب (الميزان في تفسير القرآن )وفي بيان تفسيره لهذه الآية المباركة فقد بين ان الظلم المقصود هو ارتكاب الذنوب والمعاصي مهما كانت صغيرة او كبيرة وقد اشترط على ان الامام يجب ان لا يكون قد مارس ظلما طيلة ايام حياته أي ان الامام يجب ان يكون معصوما من الذنوب والخطايا وان من كان ظالما لا يمكن ان يكون اماما حتى وان تاب ونصح في توبته كما ذكر السيد اعلى الله تعالى مقامه عدة مواصفات للإمام قد استشفها من هذه الآية ومن آيات اخرى تخص الامامة وهذه الصفا ت قد اجملها في سبعة امور:
اولا :إن الإمامة مجعولة.
الثاني: أن الإمام يجب أن يكون معصوما بعصمة إلهية.
الثالث: أن الأرض و فيه الناس، لا تخلو عن إمام حق.
الرابع: أن الإمام يجب أن يكون مؤيدا من عند الله تعالى.
الخامس: أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.
السادس: أنه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معاشهم و معادهم.
السابع: أنه يستحيل أن يوجد فيهم من يفوقه في فضائل النفس.
وكذلك تطرق في تفسيره الى حديث الامام الصادق عليه السلام عن امامة ابراهيم عليه السلام(أن الله عز و جل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا، و أن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، و أن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، و أن الله اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الأشياء قال: «إني جاعلك للناس إماما» قال (عليه السلام): فمن عظمها في عين إبراهيم قال: و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين قال: لا يكون السفيه إمام التقي.) ونعتقد ان في قول الامام الصادق عليه السلام اشارة الى قول الله تعالى{ {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ }
وانه نفى ان تكون الامامة هي الهداية بأمر الله تعالى الى الحق لان الهداية الى الحق هي من واجبات الانبياء فلا يكون مبرر ان يكون النبي او الرسول اماما بعدما كان نبيا رسولا.
ولكنه ايضا لم يبين ما معنى الكلمات التي ابتلي بهن ابراهيم عليه السلام وكذلك لم يذكر المعنى الدقيق للإمامة التي جعلها الله تعالى لنبيه ولم يذكر ما آل اليه حال ابراهيم عليه السلام بعدها
ونقول :من اجل ان نوضح هذه المعاني وغيرها علينا ان نحلل جميع كلمات الآية المباركة تحليلا دقيقا ونعرضها على كتاب الله العزيز لنعلم كيف استخدم كل مفردة منها وما هو مدلولها؟
1-{ وَإِذِ}للعطف والالحاق بمواضيع ذكرتها الآيات السابقة عن بني اسرائيل وعن النصارى وتذكر المصطفى صلى الله عليه واله بان هؤلاء لن يرضوا عنه ابدا وانهم يتفاخرون على المسلمين بدعوى انتسابهم الى نبي الله ابراهيم عليه السلام ولكنك يا محمد (اللهم صل على محمد واله الطاهرين ) اولى من هؤلاء بالانتساب الى ابراهيم عليه السلام واولى بمعرفة احواله{ { إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِيُّ} الآية. [68]. }.
2-{ ابْتَلَى }فعل ماضي معناه اختبر وامتحن والمضارع منه يبتلي كما في قوله تعالى{ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿١٥٤﴾} واسم الفاعل مبتلي كما في قوله تعالى{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ } والفعل يبلي بلاء اي يجعل من الشخص المبلى مادة للاختبار فتكون نتيجته في الاختبار حسنة او سيئة كما في قوله تعالى{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" الانفال 17 }
3-{ إِبْرَاهِيمَ} ابراهيم عليه السلام هو ابو الانبياء بعد نوح عليه السلام والكلمة في اللغة السريانية التي كان ينطق بها سكان جنوب العراق في مدينة اور السومرية وتعني الاب الرحيم .
ولقد ولد ابراهيم عليه السلام في احد بيوت العائلة المالكة ولكن والده توفي فكفله جده لامه آزر والعرب تطلق تسمية الاب على الجد والعم الكبير { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا } }كما اننا نستدل على ان ازر كان جده من امه بقول النبي محمد صلى الله عليه واله (لم يزل ينقلني من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا).) وقول الله تعالى وهو يخاطب المصطفى صلى الله عليه واله{ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ * وَتَوكّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرّحِيمِ * الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ } وظروف العيش التي عاشها ابراهيم عليه السلام مشابهة للظروف التي تربى بها نبي الله موسى عليه السلام وهي نفس الظروف التي عاشها المصطفى صلى الله عليه واله ونفس ظروف العيش التي مر بها عيسى ويوسف عليهما السلام وكأن الله تعالى قد آلى على نفسه الا ان يجيء بالعظماء من بين براثن اليتم وشغف العيش.
وقد عاش ابراهيم عليه السلام في زمان حكم النمرود الذي جعل من عبادة الاجرام السماوية والكواكب منهجا ودينا لنظام حكمه وقد نصب لها التماثيل والاصنام لغرض عبادتها وتقديسها اما ابراهيم عليه السلام فلم يقتنع بهذا الديانة وقد بحث عما تبقى من اثار التوحيد التي اختطها نبي الله نوح عليه السلام الذي عاش في نفس المنطقة قبل ذلك التاريخ { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لِإِبْرَاهِيمَ ( 83 ) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( 84 }اي انه شايع نبي الله نوح عليه السلام وسار على خطاه ومنهاجه.
وقد حارب ابراهيم عليه السلام جميع الكفار والمشركين من اجل منهج التوحيد حتى صار من الصديقين{ وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} مريم:42,41 )}
كما سيمر علينا بيان معنى الصديقية في موضع اخر من هذا الكتاب بأذن الله تعالى .
وقد اتسم ابراهيم عليه السلام بالمحافظة على صلة الرحم وحقوق التربية فقد وعد جده بان يستغفر الله تعالى له على الرغم من ابعاده وطرده عن منزله { قاَلَ سَلامٌ عَلَيْك سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبي إِنَّهُ كَانَ بي حَفِياً ( 47 ) وَأَعْتِزِلُكُم وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ ..} لان هذا خلق الانبياء عليهم السلام{ (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاََوَّاهٌ حَلِيم} وكان ابراهيم عليه السلام كثير التفكر في الخلق والكون فاطلعه الله تعالى على ملكوت السماوات والارض ليزداد يقينا{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}وسوف يمر علينا معنى اليقين وماهي مراتبه وماهي المرتبة التي نالها ابراهيم عليه السلام في مبحث اخر بأذن الله تعالى
وقد اختط ابراهيم عليه السلام بمفرده خطا دينيا ومنهجا رساليا على الرغم من اجتماع الناس في زمانه على الكفر والشرك والالحادٌ{ نَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}
وكان ابراهيم عليه السلام يقرئ الضيوف ويكرمهم ليعرض عليهم دعوته{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ *إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات:24-27] }.
وقد تزوج من السيدة الجليلة سارة لكنه لم ينجب منها فتزوج من السيدة هاجر وانجب منها اسماعيل عليه السلام (وهكذا جرت مشيئة الله تعالى ان يكون سيد البشر محمد صلى الله عليه واله من اب عراقي بل تحديدا من ذي قار ومن ام قبطية مصرية) ثم بعد ذلك رزقه الله تعالى ذرية من سارة ولكن بشكل اعجازي اي بعد ان كبر في العمر وصارت زوجه عجوزا عقيم {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59 وهنا ظهرت اخلاق ابراهيم وطيبته وتسامحه حتى مع المجرمين لان القلب الكبير لا يعرف الكره والحقد {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } اما موضوع الخلفة المتأخرة فقد تعجبت واستغربت منه زوجته ايضا{ فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)} فقالت لها الملائكة لماذا تتعجبين من امر الله تعالى؟ {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)}.
وقد تعرض ابراهيم عليه السلام طيلة عمره الى الكثير من البلائات والامتحانات وقد نجح بها ووفى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) النجم/37}}
4-{ رَبُّهُ } ربه اي الله تعالى وسوف نوضح معنى الربوبية في مبحث اخر بأذن الله تعالى ولكننا نبين هنا لماذا قدم المفعول به { إِبْرَاهِيمَ } على الفاعل{ رَبُّهُ }ولم يستخدم عبارة اخرى كأن يقول(اذ ابتلى اللهُ ابراهيمَ) فنقول ان هذا الاسلوب هو غاية في البلاغة اذ جعل المفعول به { إِبْرَاهِيمَ } ملاصقا للفعل { ابْتَلَى } وجعل الفاعل{ رَبُّهُ } ملاصقا للاختبارات { بِكَلِمَاتٍ }فيكون ابراهيم اكثر قربا من عملية البلاء والاختبار فهو مقصود بها ويكون اصدار امر البلاء واجراء الاختبار اكثر قربا من الله تعالى لأنه تعالى هو من امر به.
5-{ بِكَلِمَاتٍ } كلمات جمع كلمت (بالتاء المفتوحة) وتعني الامر والقرار كما في قوله تعالى { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وكذلك في قوله تعالى {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وكذلك في قوله تعالى{ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96 }فيكون معنى قوله تعالى{ بِكَلِمَاتٍ }اي بأوامر من الله تعالى كما في قوله تعالى{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴿٣ }وكذلك في قوله تعالى{ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } اما مفردة (الكلمة) اي (بالتاء المدورة) فتعني مقول القول كما في قوله تعالى{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ }وقوله تعالى{ ذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ }اي في قوله عز وجل :(كن) وكذلك في قوله تعالى{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } سواء كانت تعني الكلمة او تأويلها .
والجمع من كلمة هوكلام كما في قوله تعالى{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ. [التوبة:6]. } وكلام الله يعني قول الله وهو القرآن العزيز وكذلك في قوله تعال { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ ... }اي لا تبديل لقول الله تعالى
لقد تبين مما اسلفنا ان الكلمات تعني الاوامر من الله تعالى ومن اجل ان نبين ماهي الاوامر التي تلقاها ابراهيم عليه السلام من ربه وكانت بمثابة ابتلاءات واختبارات فنجح بها جميعا واستحق من ربه هذا التكريم له ولذريته علينا ان نتتبع سيرة حياة ابراهيم الخليل عليه السلام في جميع مراحل عمره الشريف وهذا ما نقوم به بعد اكمال التحقيق في جميع معاني مفردات الآية المباركة لكي تكون الفائدة اعم واشمل
6-{ فَأَتَمَّهُنَّ } الفاء عاطفة تفيد المتتابعة واتمهن فعل ماض والفاعل ضمير مستتر تقديره هو وهذا الضمير تارة يعود على الفاعل وهو الله فيكون معناه ان الله تعالى قد انهى واكمل عليه الاختبارات كما في قوله تعالى{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً ﴾ . ( سورة المائدة :3 )} وقوله تعالى { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}ومرة يعود على المفعول به وهو ابراهيم فيكون معناه اكمل الاختبار بنجاح وحاز على رضا الممتحن كما في قوله تعالى{ ثم أتموا الصيّام إلى الليل ) البقرة 187} وكذلك في قوله تعالى{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وفي كلتي الحالتين يكون ابراهيم عليه السلام قد فاز بالاختبار ونجح به واستحق من ربه التكريم
7-{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ }الجعل والجعالة هو الهبة والمن من الله تعالى وتعني الوضع والتنصيب و تعني الاعتبار ايضا كما في قوله تعالى{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ. [البقرة:30} وقوله تعالى{ (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ..} والفعل منه جعل ويجعل كما في قوله تعالى{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
8-{ لِلنَّاسِ } للناس شبه جملة من الجار والمجرور وقد تكلمنا عن مفردة الناس في بحث اخر ولكن نبين هنا لماذا قدمت شبه الجمل { لِلنَّاسِ } وتأخر المفعول به { إِمَامًا }؟ ولماذا لا يكون الكلام على صيغة اخرى كأن يقول (وقال اني جاعلك اماما للناس)؟ فنقول ان هذا ايضا من البلاغة فتقديم كلمة الناس لتكون ملاصقة للفعل (جاعل) وتأخير المفعول به وهو الامام وذلك لان الناس هم المنتفعون من منصب الامامة فوجود كلمة (للناس) لصيقة بكلمة (جاعلك) يعطي انطباعا لعموم الفائدة وشمولها اما الامام فهو محل الابتلاء والتكليف فيكون متأخرا في الايراد
9-{ إِمَامًا } الأَمام (بالهمزة المنصوبة) هو ظرف للمكان كما في قوله تعالى{ بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ }اي ان لو تمكن الانسان لجعل منهجه في الحياة هو الفسق والفجور .
اما الاٍمام (بالكسر) هو اسم من الفعل أَم , يأَم و كلمة الاِمام اصطلاحا تعني اصدق مقياس لضبط الوحدات المتداولة في القياس والجمع منه ائمة فهو الميزان او المقياس النموذجي وعلى هذا الفهم نفسر قوله تعالى{"إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ " ...} بان المقصود بالإمام المبين هو علي بن ابي طالب عليه السلام لأنه الفاروق بين الايمان والنفاق فاذا تشابكت عليك الامور وخفيت عليك الموازين فانظر الى طريق امير المؤمنين عليه السلام فانه مع الحق والحق معه (يا عمار إذا رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فاسلك مع علي ، ودع الناس فإنه لن يدلك على ردى ، ولن يخرجك من هدى)
ومن معاني الامام هو الخشبة او الالة التي يسوي بها البناء وهو الخيط الذي يقيس عليه البناء وهو الطريق الواسع وهو دليل المسافرين وتطلق ايضا على حادي الابل ومن هذا المعنى اطلقت كلمة الامام على قائد الجند وعلى امام الجماعة وعلى من يقود الناس وينتهج بهم نهجا معينا وحيث انه لا تخلو الارض ابدا وفي كل زمان ومكان من وجود هؤلاء الائمة {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} اما امام يقودهم نحو الكفر والضلال فيكون امام كفر{ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } او يقودهم نحو الهداية والفلاح فيكون امام هدى{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ )) الأنبياء 73} .
ومن تعريف الامام بانه اصدق مقياس لضبط الوحدات المتداولة في القياس نفهم ان الامام هو العلامة الفارقة بين الكفر والايمان وهو الحد الفاصل وبين الشرك والتوحيد وتكون منزلة الامامة منزلة رفيعة اعلى من منازل الانبياء والرسل لا ينالها الا ذو حظ عظيم يمتلك فيها الامام امكانيات ومؤهلات تكوينية وتشريعية واسعة وكما ان النبوة درجات ومنازل والايمان درجات ومراتب تكون الامامة ايضا درجات ومراتب
10-{ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي }في الكلام اختصار شديد وهذه هي طريقة القرآن العزيز في الايجاز والاختصار في نقل مقول القول وفي السرد الروائي وامثال هذا كثيرة للمتتبع ومعناه هنا ان نبي الله ابراهيم عليه السلام قد استثمر هذه اللحظة القدسية فطلب من الله تعالى ان يشمل ذريته وابناءه بهذه المكرمة وبما ان ابراهيم كان عالما ومطلعا على ما تؤول عليه احوال ذريته من تباين بين العدل والظلم فلم يطلب الامامة لهم جميعا وانما قال { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي }اي بعضا منهم.
والذرية هم النسل والاجيال المتعاقبة واصلها في اللغة من ذرأ يذرأ ذريئة وقلبت الهمزة ياء للتخفيف { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وكما جاء في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34))آل عمران/33-34 .
وقوله تعالى{قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } ". وفي سورة يس{ وَءَايَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } وفي قول اخر{ فَمَا ءَامَنَ لِمُوسَى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ }
11-{ قَالَ} اي الله تعالى
12-{ لا يَنَالُ } ينال من الفعل نال والاسم منال ونوال ونيل ومعناه وصل الى وحصل عليه كما في قوله تعالى{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ال عمران 92} اي لن تحصلوا على البر وكما في قوله تعالى{ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ التوبة 120}اي يصلون على مكسب من الاعداء وكما في قوله تعالى{ لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } الحج 37}اي لن يصل لحومها الى الله تعالى اما في قوله تعالى{ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } اي ان عهدي لن يصل الى الظالمين من ذريتك وابنائك يا ابراهيم وقد اخر المفعول به اي كلمة( الظالمين) ليكونوا اكثر بعدا عن الله تعالى
13-{عَهْدِي } العهد اسم والفعل عهد يعهد عهدا ومعاهدة والجمع عهود ومعاهدات ومعنى العهد هو الوعد القطعي الذي لا نقض له ولا خلاف ولكنه شفهي او شفوي اي غير مكتوب فاذا كتب العهد صار موثقا او ميثاقا او وثيقة".{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34], وقوله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] والعهد من الله تعالى الى العباد بمثابة الامر{ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } " وكما في قوله تعالى.{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي ءَادَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ }وبما ان التعهد هو الالتزام بتنفيذ الوعد الذي قطعه الانسان طول عمره ولذلك صار العهد تعبيرا عن فترة زمان الشخص وعمره فيقولون على عهد فلان اي في ايام عمره وكما ان الالتزام يمتد على طول الدهر اصبح العهد يمثل اطول فترة زمنية{ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86 }
14-{ الظَّالِمِينَ }ومفرده ظالم وقد تكلمنا عن معناه لغة واصطلاحا في موضع اخر من هذا الكتاب .
ثانيا:الشريعة والقربان
بقى ان نبين ما هي انواع البلاء التي تعرض لها ابراهيم عليه السلام ونجح بها وقد ثبت لدينا ان المقصود من (الكلمات) هو تعبير عن الاوامر الالهية التي تلقاها ابراهيم عليه السلام من ربه وكانت بمثابة ابتلاء له .
ومن متابعة ما اشار به القران الكريم عن بعض تفاصيل حياة الخليل عليه السلام نستطيع ان نحصي ستة من هذه البلائات اي بعدد حروف {بِكَلِمَاتٍ }ونفترضها انها متطابقة مع نفس الحروف:
اولا:-(ب) الباء من بسم الله الرحمن الرحيم(البسملة تعني الابتداء)
ان ابراهيم عليه السلام ولد في عائلة مقربة من السلطان وكان يتيما مدللا وكان بمقدوره ان يتمتع ويلهوا كما يفعل ابناء الملوك والسلاطين لكنه ترك الحياة وزخرفها الكاذب ولم تغريه الملذات الزائلة وتوجه نحو عبادة الله تعالى وحده { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }وهذا الاختبار الصعب الذي يفشل به اغلب الناس وقد نجح به ابراهيم عليه السلام
ثانيا:-(ك) الكاف من كسر الاصنام يا ابراهيم
وهذا ثاني اختبار اداه ابراهيم عليه السلام حيث انه وفي مقتبل عمره الشريف قد استنكر عبادة الاصنام من دون الله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ولكنه عندما لم يحصل منهم على استجابة حاول مسايرتهم لغرض تفهيم العقلاء منهم واستدراجهم الى عبادة الله تعالى والاقلاع عن عبادة الكواكب والاجرام السماوية{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } ثم لما لم يستجب له اهله واقاربه اعلن دعوته على الملاء وجاهر بمعاداته لعبادة الاصنام والدعوة العلنية الى عبادة الله الواحد الاحد{ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ( 85 ) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ( 86 ) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ }ثم لما لم يحصل منهم على استجابة عمد الى اعلان الحرب على الاصنام {* فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ* مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ* فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}هي نفس الخطوات التي سار عليها الحبيب المصطفى صلى الله عليه واله بالدعوة السرية الخاصة ثم دعى عشيرته الاقربين ثم جاهر بإعلان دعوته واعلان حربه على الاصنام وهي نفس اليمين التي ارتقاها علي بن ابي طالب عليه السلام ليكسر اصنام قريش وينزلها من على الكعبة الشريفة وكما كان النمرود صار( ابو سفيان وابو لهب وابو جهل)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين البقرة258} ولما فشلوا في المحاجة والاقناع العقلي لجئوا الى التخويف والتهديد { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} وهذا شأن الجبابرة والطغاة وديدنهم على طول العصور والازمان.
والغريب في الامر ان ابراهيم عليه السلام كان شخصا وحيدا وكان بإمكانهم قتله بضربة واحدة فلماذا هذه النار الكبيرة؟ هل هي لتضيع دمه بين القبائل واشراك الجميع في جريمة قتله كما فعل ابو سفيان مع المصطفى صلى الله عليه واله ام هي بقصد ارهاب ابراهيم عليه السلام واخافته كي يتنازل عن افكاره ويعطي لهم بيده اعطاء الذليل كما فعل عبيد الله بن زياد عندما حشد عشرات الالوف لمحاربة عائلة صغيرة جلهم من الشباب والاطفال والنساء ومنع الماء عنهم ؟
ام هي لغرض التشفي واظهار القوة والجبروت كما امر يزيد بقطع الرؤوس وسحق الجثث بسنابك الخيل وتعذيب النساء والاطفال؟
ويقينا ان هذا المنظر المؤلم المروع هو الذي قبض امعاء ابراهيم عليه السلام عندما نظر في النجوم وقال اني سقيم{{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُوم* فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ* فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ } لأنه كان يحب ذريته حبا جما وان الله تعالى قد اطلعه عليهم مثلما اطلعه على ملكوت السماوات والارض
ولكن الجبابرة يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين{ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} وصارت نار النمرود التي يتباهون بإشعالها خيبة لمساعيهم وحسرة في قلوبهم {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}ونجح ابراهيم عليه السلام في هذا الاختبار وفشل الكافرون واضطروا الى المهادنة وسلوك اسلوب اخر من الضغط والاكراه
ثالثا:-(ل) الام من (لا اله الا الله)
وهذه المرحلة من حياة الخليل عليه السلام تمثل فترة النضوج الفكري وفترة الانتشار والتوسع الا وهي فترة الهجرة فقد فرضها عليه جده الكافر كما فرضت قريش الهجرة على محمد صلى الله عليه واله {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا* قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا* وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا}وهذا هو الاختبار الثاني فقد قام ابراهيم عليه السلام بالهجرة من مسقط راسه وميادين صباه وترك جنوب العراق ومدنه السومرية وضفاف انهاره وشواطئه واهواره وقد اتجه فارا بدينه مبشرا بمنهج التوحيد ومعلنا حربا شاملة على الصنمية وقد استقر به المقام في ارض الشام بعدما تعرض في سفره الى شتى انواع المخاطر والاهوال{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)}نفسها المبادئ التي اعلنها رسول الله محمد صلى الله عليه واله بعد هجرته الشريفة الى يثرب فصارة تسمى المدينة المنورة:
1-اعلان البراءة من الكافرين والمشركين
2-اعلان الحرب على الكافرين والمشركين حتى يؤمنوا
3-نستغفر الله لنا ولكم ولا نملك لكم من الله من شيء
4-ربنا عليك توكلنا واليك انبنا واليك المصير
ولو تمعنا في سورة التوبة(براءة) التي حملها امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وقراها على عبدة الاصنام من اهل مكة لما وجدنا فيها زيادة واختلاف عن هذه المبادئ الاربعة.
هذا و قد نجح ابراهيم عليه السلام في اختبار الهجرة في سبيل الله تعالى {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ*وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ* فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
رابعا:-(م) الميم من مكة المكرمة والمسجد الحرام
فبعدما استقر به النوى قرت عين ابراهيم عليه السلام برؤية ابنه البكر اسماعيل من السيدة القبطية هاجر نزل عليه الامر الرباني بان يأخذ ابنه الصغير وزوجته المؤمنة ويذهب بهما بعيدا الى قلب الصحراء العربية وان يسكنهما في منطقة جرداء لا نبت فيها ولا ماء ولا يعيش فيها الا القليل من الطيور الصحراوية وصغار الوحوش التي تعودت على تحمل العطش وحرارة الجو ثم عليه ان يتركهما هناك ويقفل راجعا من دونهما فما اشده من بلاء وما اصعبه من اختبار على قلب الخليل عليه السلام ! ونحن نستشف لوعته وحزنه وبثه من مناجاته لربه تعالى {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} فاستجاب الله تعالى له واجرى لهما ماء زمزم فشربا وعاشا واجتمع الناس من حولهما .
ونلاحظ ان ابراهيم عليه السلام قد ترك طفلا رضيعا وامه وحدهما ويقول في دعائه{ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }اي انه يذكرهم بصيغة الجمع وهذا دليل على ان الله قد اطلعه على مستقبل ذريته من نسل اسماعيل وماذا سيكون مصيرهم ولهذا صار ابراهيم عليه السلام دوما يلهج بالدعاء لهم وللبلد الذي اسكنهم فيه {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126). سورة البقرة .}. ثم ان الله تعالى قد سمح له بزيارتهما والتردد عليها فصار الطفل ذرية وصار البيت قرية ثم نمت القرية وتوسعت فصارت ام القرى وهي مكة المكرمة ببركة دعاء ابراهيم عليه السلام الذي لم ينقطع عن الدعاء بل وطلب لهم المزيد{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. [البقرة:129]} لهذا يروى عن المصطفى صلى الله عليه واله قوله ( أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ)
خامسا:(أ) الالف من (أذن في الناس)
لقد امر ابراهيم عليه السلام بإعادة بناء بيت الله { اِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} اي ان بيت الله الحرام قد بني منذ قديم الزمان وانه ذخيرة ادم عليه السلام لأبنائه{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة 125])}وقد شق على ابراهيم عليه السلام هذا الامر لأنه شيخ كبير ولا يعينه على بناء البيت سوى طفل صغير{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ولما كمل البناء واستقر امر الله تعالى نبيه ابراهيم عليه السلام بدعوة الناس الى حج هذا البيت { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}وفي هذا ابتلاء اكبر من بناء البيت اذ كيف يتسنى له دعوة الناس واعلامهم وهو يسكن وسط تلك الجبال الصحراوية ؟ثم كيف يتمكن من اقناعهم بالتحول من عبادة الاوثان الى عبادة الله تعالى وحده ؟ولكن ابراهيم عليه السلام قد نجح في الاختبار ونشر دعوة التوحيد
سادسا:-(ت) التاء من تضحية
التضحية هي سنة الله تعالى في الخلق فمنذ ان وطئت اقدام الانسان على الارض عرف ان تقديم القرابين الى الله تعالى والتضحية بأغلى الاشياء هو السبيل نحو رضا الله { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنّيَ أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ * إِنّيَ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظّالِمِين} وعرف الانسان ان قيمة القربان ترتفع كلما ارتفع مقدار المهمة او مقدار الهدف الذي ينشده .
هذه الحقيقة عرفها ابراهيم عليه السلام عندما شاهد البناء يسقط وينهار مرة تلو اخرى فعرف انه عليه ان يقدم قربانا يضحي به في سبيل الله وان هذا القربان يجب ان يكون بمستوى بيت الله اي انه يجب ان يكون غاليا وثمينا ولكن ابراهيم عليه السلام لا يملك اغلى واعز من ابنه البكر اسماعيل عليه السلام {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ } والاعجب من طلب الاب هو موافقة الابن{ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وقد استسلم الاثنان لأمر الله تعالى وشرعا بتنفيذه طائعين{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } وسرعان ان جائه النداء من الجليل لقد علم الله صدقكما واخلاصكما { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ *}وقد رفعنا عنكما التضحية وابدلناها بقربان اعز على الله تعالى من اسماعيل { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (107). الصافات } قربان يكون اخر القرابين لتستقر به شريعة الله تعالى ويعلو به بنيان دينه القويم , وقوله تعالى{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } يعني بكل وضوح عن امر تأجيل مهمة التضحية وتقديم القربان الى زمان اخر وان هذه الموضوع هو نفسه ما طالب به اهل الكتاب بقولهم نريد الدليل على نبوتك وهو قربان تأكله نار كما في قوله تعالى{ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ...}وكما طلبوا من النبي صلى الله عليه واله ان يقدم لهم قربان تأكله النار فقد قدم لهم احب الناس الى قلبه الشريف ( حسين مني وانا من حسين) ليكون اعظم ذبح واعز قربان تأكله نار الكفر والشرك والالحاد واشد تضحية على طريق العدالة السماوية وعلى طريق شرعة الله ومنهاجه وسنته تعالى.
وبهذا نجد ان ابراهيم عليه السلام قد نجح في كل الاختبارات والبلائات وفاز بتكريم الله تعالى وحبوته