كانت لنا ايام في سوق الشيوخ -اياد علي الحسني-الجزء الخامس
Sun, 26 Jun 2011 الساعة : 10:28

من اوراقي
ليس أول غبار أيلول. ليس أول هواء الخريف.. وليس ذاك النعش المار، فوق سيارة مسرعة، وسط هرج الناس، أول القتلى. وبطبيعة الحال لا يفترض أحد أنه الأخير.
لعلّه أول أيام الحرب حيث كادت أن تكون واقعاً. لعلّه أول نذر الهول ,
البلدة هي سوق الشيوخ في عجلة من أمرها، ترحل بأنفاسها وناسها. بحلمها وحسرتها. برغابها وأوهامها وحزنها. بقلقها ورعبها. بتفاهاتها وهذرها، وخيرها وشرّها، وحلوها ومرّها. بما تعدّه ثميناً له قيمة ما، ولا يجب التخلي عنه. بما تراه مقدّساً. بما تحسبه قد يعينها، هناك، في المرتقب والمجهول. بما تستطيع أن تحمل وتصطحب في مشهد الهرب الكبير. بما يسمح به الوقت. بما تحتويه النباهة المثلومة في خضم دوي القنابل الذي يقترب حيناً وحيناً يبتعد.
لا أحد يريد أن يترك حتى سقط المتاع. إلاّ ما لا يفيد، وما يضطر للتخلي عنه. وهكذا لا يتركون إلاّ القمامة، إلا ما يعجزون عن أخذه. إلاّ جثة البلدة الباردة يمثِّل بها مخلب الحرب. ونحن تعسكرنا في الخميسيه قرب المخازن واردنا شيئا من الخبز فاخبرنا العريف سلمان ان يذهب الى بلدة سوق الشيوخ القريبة منا ...
كانت نبرته مضطربة وكلماته تتلاحق سريعة مبتورة، يلقيها مع رذاذ بصاقه المتطاير في وجوه المنهمكين على جمع أغراضهم، العازمين على الهرب.
وصل الغريف سلمان الى مقربة من مدينة السوق مترقبا حذرا , كان يستقل السياره العسكريه (واز ) المستهدفه من قبل قوات التحالف عام 1991م.
يتنقل بين الأزقة والدروب بخطوات عجلى، يركض بقميصه الأخضر الممزق والمتسخ وبنطاله البالي الكامد اللون، المفتوح السحّاب، والمشقوق عند الركبة، بقدمين حافيتين.. يضرب بقبضته على أبدان سيارات البيك آب واللوريات المتوسطة والكبيرة الحجم، وهو على وشك البكاء وقد تحجرت الدموع في عينيه، يلهث ويشتم
سقطت على البلدة طوال الليلة الفائتة ثمان وستون قذيفة مدفع حسب ما يقول حسين الابن الآخر للحاج علي؛ ( حسبتها واحدة واحدة ). أو أكثر من مئة قذيفة على منطقة الخميسيه وتل اللحم ومخازن العتاد فيها وقرابة شارع القادسيه. هذه القذائف هدّمت ثلاثة عشر منزلاً وقتلت شاباً وامرأة وطفلين وحماراً وبقرة. وجرحت تسعة آخرين من البشر وخمسة حيوانات؛ ( خمسة أغنام سارع أصحابها إلى ذبحها على وفق الطريقة الإسلامية قبل أن تموت ويُحرم لحمها ). وأحرقت ما لم يحصه أحد من أشجار النخيل والحمضيات والتوت والتين والرمان والعنب، الخ، الخ.
قال حكيم لرأفت المضمد؛
ركض حكيم خلف سيارة المارسيدس الاخرس ذات حمولة الطنيين المنطلقة لتوِّها. وراح يلوِّح بكلتا يديه حين تهيأ له أن سعاد ابنة الحاج علي ذات العشرين ربيعاً لوّحت له خفية بأصابعها وهي جالسة، في الحوض، مع شقيقتيها، فوق الأغراض. استمر يركض ودموعه الآخذة بالتدفق تركت غشاوة على عينيه. وحين مسحهما بسمانة راحته كانت سيارة المارسيدس قد اختفت بين سيارات الأهالي الراحلة، والسيارات العسكرية الآيبة.
الآن دخل حكيم في الغبار والضجيج، صار مقطعاً اعتباطياً من مشهد الفوضى. وكاد يعثر ويطيح على الأرض. ثم لمّا بدأت أعضاؤه الهشة تخذله ارتكن وهو يلهث إلى جذع نخلة في الجوار... وجلس لا في موضع الظل، رافعاً رأسه إلى الشمس التي لم تكن قد استشرست بعد، وجفف دموعه هواء ما قبل ساعة الضحى...
ابتعد حكيم، أو ولج عميقاً في ذاته. هو وضع أقرب ما يكون إلى الغيبوبة، وعلى مسافة ملتبسة من الموت. هذا ما شعر به؛ في البدد، إن صح القول.
استشعرت مجساته دبيب كائنات غريبة تتحرك بالقرب منه. فتح عينيه، رآهم في غلالة من ضباب أحمر.. كانوا ثلة من الجنود أحاطوا به.. خيل إليه أنهم في مشهدهم الرجراج هذا ليسوا سوى كائنات سرابية. دعك عينيه، ميّزهم؛ كلٌ يحمل معولاً أو مجرفة، ويعلق بندقيته الكلاشنكوف على كتفه، وفي وسطه جعبة عتاده.. تناهى إليه صوت بدا بعيداً بعداً غير معقول؛
بدا له، وهم يبتعدون، مثل سرب من الأوز يمشي على أرض صحراء مفتوحة.
تناءى الدبيب، وغشاه هدوء فيما العالم المرئي الشاحب ينشطر أمام ناظريه إلى عدد هائل من الشظايا، تدور، كما في مشكال. مرّت في خاطره، في فجوة من الصداع الذي يمسك برأسه، صورة تلويحه مُلكية.. التلويحية تجلت له الآن أوضح وأطول وأرشق، مع ابتسامة لم يسعه تكذيبها.. تناهت الابتسامة مع حركة مماثلة لوجه أليف غير وجه مُلكية، وجه آخر توأم أو شبيه، ومضت قسماته كما اختلاجة برق في أفق غائر ومنسي من ذهنه. غمره شروق ساحر لوهلة فأخرج قنينة ربع العرق وارتشف قليلاً.. ارتشف ثانية وثالثة وهمس؛ سعاد، قفي سأرسمك الآن.
كانت سعاد لازالت عالقة في مخيلته فاراد ان يرسم صورتها , لدقائق استغرقته الصورة وتولته غبطة موشحة بظل أسىً، قبل أن يفجرها ويلاشيها عويل مباغت صارخ.. طائرة محلقة على انخفاض اخترقت حاجز الصوت، لاحقتها فرقعة آلاف الرصاصات وهي تطيش في السماء العريضة.
الأصوات هذه أيقظته، أعادته ثانية إلى حاضنة اللحظة؛ اللحظة الزلقة، المهلوسة، الفائرة. فغاب في ظلمة نفقها. انتفض واقفاً، في أهبة الاستعداد؛ إلى الأمام يا حكيم عادة سر.. يس يم، يس يم، يس يم.. عيناه محتقنتان، وجهه ضامر، ولحيته شعثاء خشنة، والعروق على رقبته نافرة.. مشى على حافة الشارع مقوساً جذعه إلى الوراء مبرِّزاً بطنه الصغيرة إلى الأمام بدلاً من صدره، لا يهتم لسخونة الأرض التي تلهب باطن قدميه، ولا للأحجار الصغيرة التي تجرحهما... يمشي مئة متر أو أكثر قليلاً أو أقل باتجاه الخروج من البلدة، تمر به آخر سيارات السكان الهاربين ثم يعود؛. بمشيته العسكرية متكلفاً، يرفع يديه الممدودتين المتصلبتين، بقبضتيهما المضمومتين، أعلى من مستوى رأسه ويخفضهما بقوة.. الزبد عند طرف فمه.. خطواته سريعة وقصيرة على الرغم من طول ساقيه.. يعود وفي محاذاته تسير مركبات الجيش.. يهتف له
الجنود ويقهقهون..
قذفه أحدهم بشيء أخطأه .. قذفه آخر بصمونة عسكرية يابسة أصابته في كتفه،
أشعرته بالوجع.. وقف وقد تقلصت ملامحه، وقال، وقطعاً لم يسمعه الجنود الجالسون في أحواض المركبات الداخلة إلى البلدة والمتوزعة في أطرافها، وهم
يصيحون به ويقهقهون؛
كان جلد الصمونة قاسياً تحت أسنانه النخرة غير أنه ظلَّ يقضمها، وأخيراً اكتفى بالحشو من التمن والمرق، ازدرده وطلب ماءً. صبّ له الجندي ماءً فاتراً من زمزميته في قدح بلاستك فارغ خاص بلبن علامة كانون.. شربه وتمتم؛
ـ هذه وجبة ستتكرر كثيراً.
جال في الأنحاء، بين قطعات الجيش، في الخلاء المحيط بالبلدة، كأنه لا يريد دخول البلدة وقد أمست خاوية على عروشها. كانت الساعة هي الثانية بعد الظهر، أو قبل ذلك بقليل. جاء إلى النخلة الوحيدة، تلك التي غفا قليلاً في ظلها ساعة الضحى.في منطقة الخميسيه, لمح في مهب الريح غرابين يلوذان من القيظ بالسعف، حيث تتهدل بقايا عثوق تمر من فصيلة الزهدي. وبعد سكون ران مثلما في مقبرة قديمة أقبلت عشرات الشاحنات وأحاطت به. وساعة بعد أخرى أنزلت دبابات من نوع T55و T62 وناقلات جنود مجنزرة من نوع BMB1راحت تنهب السهل المحروث من أجل موسم القمح.. حيّاه من فوق هذه الكائنات المعدنية الضخمة جنود أكثر تهذيباً من أولئك المشاة الأشقياء النزقين الذين ملأوا الأرجاء منذ الصباح الباكر. وألفى نفسه يستحم بالغبار, وفكر أنه سينزل بملابسه كلها في النهر غير أنه كان واهن العضلات، لا يقوى على اجتياز مسافة عدة امتار إلى النهر. وسمع دوي انفجارات بعيدة.ضنها في عمق سوق الشيوخ.
قدماه ممددتان، وظهره مسند إلى جذع النخلة، ويداه في حجره وقد غشيته غلالة من الوحشة والغرابة، فتحدرت على لحيته السوداء الخشنة المتسخة التي يتخللها بعض من الشعرات البيض، خيط من الدمع ولم يدرك أنه يبكي. واستمر منكفئاً في وحدته الموحشة، لا يعنيه ما يجري حوله. وخطر له في إهاب غامض، أنه في غير مكانه، في غير زمانه. كأن فاصلة من ألف سنة ضوئية تغرِّبه عن البارحة، وعن البلدة التي لن تكون مرة أخرى مثلما كانت. كأن الدبابات والناقلات المصفحة هبطت من السماء السابعة.. كأن بلدته غارت في جزء منسي من ذاكرة إله.. كأنه خرج لتوِّه من غيبوبة أو حلم مقبض.. كأنه طائر لقلق فقد سربه واتجاهه وظلَّ في الفلاة.
التقط عوداً صلباً مدبباً كان مرمياً على مقربة من النخلة. خط به على الأرض نصف دائرة، وفي موازاة القطر الافتراضي المقطوع رسم ستة خطوط مستقيمة، وقال؛ دبابة. وفوق نصف الدائرة وضع دائرة صغيرة، وقال؛ جندي. وأبرز من نصف الدائرة ما يشبه الأنبوب بانحناءة لا تكاد تُلحظ، وردد؛ بم بم بم بم بم.. ضحك، أرجع رأسه إلى الوراء وضحك عالياً حتى ارتطمت مؤخرة رأسه بجذع النخلة، حكّها بالعود الذي في يده.. رمى العود وأهال حفنة تراب على ما رسم، وقال؛ احترقت.
أغلق إحدى عينيه وركز نظره بالثانية على زجاجة مشروب. ثم خضَّ الزجاجة قرب أذنه. قال؛ جرعة واحدة باقية. ماذا لو لم يبق مشروب في العالم؟ وما كان في الزجاجة عبّه في جوفه جرعة واحدة.
مسّد لحيته، وتنبه أنه في الشمس، والظل قد ابتعد مسافة قدم منه بيد أنه لم يتحرك. بعد دقيقة لوى جسمه واضطجع وأراح رأسه فوق ذراعه.. الرأس في الظل، وبقية الجسم في الشمس الحارقة. وظنِّ انه نام لكن، بعد لا يدري كم من الوقت أيقظته، قذيفة مدفع سقطت في الخلاء مصدرة دوياً مهولاً.. سمع رفيف الشظايا.. استقرت شظية في الجزء الأعلى من جذع النخلة. قال له جندي عابر كان قد تمدد على بطنه إثر الانفجار، وقام الآن ينفض التراب عن بدلته؛ عليك أن تحفر موضعاً شقياً ليحميك عند القصف. قال؛ والموضع هذا ، أيها الذكي كيف أحمله معي وأنا أتنقل. ابتسم الجندي.. سأل هو؛ ألديك سيجارة؟. ناوله الجندي سيجارة وأشعلها له بعود ثقاب
وضحكا.. ناوله الجندي سيجارتين وعلبة الثقاب وابتعد تلاحقه قهقهات حكيم.
قبل الغروب مشى حكيم باتجاه البساتين، الممتدة في الجهة الأخرى من بلدة السوق قرب البندريات في العكيكه . غمرته رائحتها الرطبة الثقيلة فوقف ثمة يستنشقها بقوة وتصميم.. سار بمحاذاة الأسيجة، في شبه العتمة ولم يلتق بأحد على الرغم من أنه كان يسمع اللغط البعيد للجنود وهدير الآليات. لعلهم انتشروا بين الأشجار
غرفة حكيم كوخ عتيق يقبع متفرداً على طرف دالية الحاج مرتضى، أسكنه فيه الحاج لمّا قدم إلى السوق قبل سنة وبضعة أشهر حال خروجه من المعتقل، أو من الشماعية.. سنتان في المعتقل وستة شهور في مستشفى الأمراض العقلية.. هو من أقرباء الحاج الأبعدين من جهة الأم، وربما لهذا السبب يناديه حكيم بخالي الحاج.. عرفه حالما رآه.. لم يخبر أحداً بصلة القرابة هذه خوفاً من رجال الأمن والحزب والقيل والقال.. غير أن حكيم ربما لا يتذكر الحاج، هو الذي أتلفوا له ذاكرته ودماغه. ليلقوا به إلى الشارع ذات ظهيرة في بغداد تاركين إياه لمصيره. ذهب إلى كراج النهضة، وصعد إلى حافلة وجهتها سوق الشيوخ، نزل في سوق الشيوخ ومشى على قدميه طوال ساعات باتجاه البلدة مثل الريبوت، أو مثل آلة تحكموا فيه عن بعد. لم يفهم الحاج مرتضى أبداً منه، على الرغم من محاولاته في استنطاقه إن كان يعي وضعه وأنه جاء بمحض اختياره، أو أنها المصادفات العجيبة التي انتهت به هنا، في هذا المكان النائي، على حدود صحراء نجد بدأنا معها حرباً لتوِّنا.
والبقيه تأتي/ سوق الشيوخ 1991